تقرير: عبد المنعم مادبو
في أحد أحياء الفاشر المحاصرة، تجلس (نفيسة) على الأرض أمامها موقد طيني “كانون” فوقه وعاء يغلي؛ تقلب فيه ببطء في محاوله لتحويله إلى ما يشبه العصيدة. تراقبها ابنتها الصغيرة بعينين غائرتين من الجوع، تسألها: “ماما، ده أكل البقر؟”. تتنهد الأم وتهمس: “هسي بقى أكلنا نحنا… ربنا يفرج”. إنه “الاُمباز” بقايا عصر الفول السوداني، الذي صار وجبة رئيسية لنفيسة وأطفالها واغلب سكان الفاشر، بعدما ابتلع الحصار كل شيء، ولم يترك سوى الجوع ينهش في احشاء الصغار والكبار بالمدينة.
السكان الذين أنهكهم الحصار والقصف والجوع، يقفون اليوم أمام خيارين: إما الموت جوعًا، أو أكل ما لا يُؤكل سابقا. حيث لم يعد “الاُمباز” مجرد علف حيواني يُستخدم لتسمين الماشية، بل أصبح الوجبة الوحيدة المتاحة لهم، في ظل انعدام المواد الغذائية في المدينة المحاصرة منذ اكثر من عام بواسطة قوات الدعم السريع ما أدى إلى انقطاع الطرق التجارية ومنع دخول الغذاء والدواء والوقود.
مع مرور الوقت، نفد مخزون الغذاء، وتوقفت المخابز عن العمل، وارتفعت أسعار أي سلعة متوفرة إلى مستويات تفوق قدرة المواطنين. حتى تجاوزت الأزمة الإنسانية حدود التوقعات، وتحولت المدينة إلى مرآة مرعبة لما يمكن أن تصل إليه المجتمعات حين تُقطع عنها الإمدادات، وتُغلق في وجهها أبواب العالم، ومع غياب المنظمات الإنسانية، بدأ السكان في البحث عن بدائل للبقاء… فكان “الاُمباز”.
“الاُمباز” في الأصل مادة ناتجة عن عصر بذور زيتية مثل الفول السوداني، السمسم، أو زهرة الشمس. يُستخدم منذ عقود في السودان كعلف للحيوانات/ بمفرده او بعد إضافة مكونات أخرى، نظرًا لاحتوائه على نسبة عالية من البروتين، وانخفاض سعره مقارنة بالأعلاف المصنعة.
تقول نفيسة وهي ارملة وأم لأربعة اطفال “كنا نطحنه ونخلطه مع الاعشاب الجافة لنقدمه للماشية… اليوم نطحنه ونخلطه بالماء لأطفالنا.” وتضيف “هذه الايام اصبح الحصول على الاُمباز صعباً بسبب خطورة التحرك للبحث عنه، وارتفاع سعره ونفاذ ما نملك من المال”.
بينما تروي الحاجة مريم ام دور (أم لخمسة أطفال) لراديو دبنقا اعتمادهم على الاُمباز للتعايش مع الجوع “كل يوم أطبخ الاُمباز لأولادي. ليس لدينا ما نأكله غيره. أحيانًا أضع فيه شوية ملح عشان يقدروا يأكلوه” وتضيف بحسرة “أطفالي يتضورون من الجوع، وانا أبكي معظم الاوقات عندما يسألونني عن الطعام، وأحيانا أقول لهم اصبروا، إن شاء الله في الأيام القادمة سيكون هناك ما يأكلون. لكن في الحقيقة، لا أعرف متى ستنتهي هذه المعاناة.”
وتشاطرها المعاناة جارتها في مركز الايواء زهراء ابراهيم (أم طفلين) تقول لراديو دبنقا “الاُمباز أصبح هو كل شيء. ليس لدينا مال لشراء المواد الغذائية التي ارتفعت اسعارها بصورة جنونية”. وتضيف بحسرة “أطبخ لهم الاُمباز حتى يناموا، وأبكي في قلبي لأنني لا أستطيع أن أقدم لهم شيئًا أفضل. أخاف عليهم من سوء التغذية، وأخشى أن أصبح يومًا وأجدهم لا يتحركون”.
من الناحية الغذائية، يحتوي الاُمباز على نسبة لا بأس بها من البروتين والألياف، حسب خبراء التغذية، لكنه يفتقر للفيتامينات والمعادن الأساسية التي يحتاجها جسم الإنسان، خصوصاً الأطفال والحوامل. إضافة إلى ذلك، فإن تخزين الاُمباز في ظروف غير صحية يؤدي إلى نمو فطريات سامة تُنتج مادة “الأفلاتوكسين”، التي تسبب مشاكل صحية خطيرة منها تلف الكبد وسوء التغذية وحتى الإصابة بالسرطان في حالات التسمم المزمن.
وذكر خبير تغذية ان استخدام الاُمباز كغذاء للإنسان يوفر عنصر البروتين للجسم، لكن اكله وهضمه فيه صعوبة كبيرة، واضاف في حديثه لراديو دبنقا ” بسبب وجود الدهون والالياف لا يستطيع الانسان ان يتناول كمية كبيرة من الاُمباز، فقط يكتفي بالقدر الذي يكف الجوع، “اي ما مقداره كباية شاي” وذلك عقب طهيه بالنار. مشيراً إلى ان الاُمباز عبارة عن مكون غذائي وليس وجبة، وذلك لعدم احتوائه على العناصر الغذائية الأخرى.
وحذر خبير التغذية من أن تناول الاُمباز لوحدة لفترة طويلة قد يؤدي إلى الإصابة بسوء التغذية نتيجة لنقص العناصر الأخرى، وقد يسبب تسممًا غذائيًا.”
واضاف “الأخطر من ذلك هو احتواء الاُمباز المخزن على سموم فطريات الافلاتوكسن، وهي مواد مسرطنة” وتعد فطريات الافلاتوكسن من السموم الطبيعية، وقد صنفتها الوكالة الدولية لأبحاث السرطان (IARC) ضمن المواد المسرطنة من الفئة الأولى.
في ظل الحصار الخانف الذي تعيشه مدينة الفاشر يزعم والي شمال دارفور ان هناك من وصفهم بالسماسرة والتجار يقومون باحتكار السلع وتخزينها بهدف رفع أسعارها، معلناً ذي الوقت ذاته عن تشكيل لجنة خاصة لضبط الأسواق، مع توجيهات باتخاذ إجراءات صارمة ضد من يثبت تورطهم. ومنح الوالي التجار المحتكرين مهلة 72 ساعة لإخراج السلع المخزنة إلى الأسواق، مهددًا بمصادرتها وتوزيعها مجانًا على المواطنين في حال عدم الالتزام، وقال إن مواقع التخزين معروفة لدى سلطات الولاية.
جراء الوضع المأساوي الذي يعيشه سكان مدينة الفاشر اطلق والي شمال دارفور الاسبوع الماضي، نداءً قال فيه ان الوضع الإنساني والمعيشي في المدينة بات لا يطاق، وأن الحالة الإنسانية تفاقمت أكثر مما يجب، واضاف “هنالك ندرة في المواد الغذائية وارتفاع في الأسعار، لجهة أن ربع الدخن بلغ نحو 500 ألف جنيه بالرغم من ذلك غير موجود في الأسواق” وأكد بخيت أن أي تصريحات تتحدث عن سوء الاحوال الفاشر؛ هي واقع وغير مبالغة فيها؛ بل اكثر من ذلك. واكد على ضرورة رفع الحصار عن المدينة في اسرع وقت لإنقاذ المواطنين.
وفي يوليو الماضي، قال الامين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيرش أن سكان مدينة الفاشر يتضورون جوعا وهم في وضع صعب للغاية. وأكد ضرورة تأمين هدنة لإيصال المساعدات، وأن يتم الاتفاق عليها مسبقا بهدف “إعداد عملية توصيل ضخمة للمساعدات إلى المدينة” وقال غوتيريش- وفقا لموقع اخبار الامم المتحدة- إنه أجرى اتصالات مع الأطراف المتحاربة في السودان بغية تأمين هدنة إنسانية تُمكّن من معالجة الوضع المأساوي في الفاشر. لكن تلك المساعي لم تسفر عن اي نتيجة.
في الاثناء تطالب قوات الدعم السريع وقادة الحركات المنخرطة معها ضمن تحالف “تأسيس” مواطني الفاشر بالخروج الآمن من المدينة التي تشهد معارك مستمرة، وبحسب مصفوفة تبع النزوح التابعة لمنظمة الهجرة الدولية فإنها رصدت نزوح حوالي 600 شخصا من مدينة الفاشر إلى مدن الولاية الشمالية خلال أسبوعين فقط. بينما كشفت المنسقية العامة النازحين واللاجئين بدارفور، عن فرار ازدياد أعداد الفارين من مدينة الفاشر ومخيم أبشوك بصورة يومية.
مقابل ذلك تحاول حكومة شمال دارفور وقادة القوات المسلحة والمتحالفين معها من القوة المشتركة حث المواطنين على الصمود وعدم الاستجابة لدعوات مغادرة المدينة رغم هذه الظروف التي يمرون بها، واعتبر والي شمال دارفور حافظ بخيت في تصريحات صحفية الدعوات التي يطلقها دكتور الهادي ادريس والطاهر حجر بأنها دعاية رخيصة الهدف منها تجنيد الشباب في صفوف الدعم السريع.
في مدينة تُطوّقها الحرب ويُجهز عليها الجوع، لم يعد الحديث عن الغذاء رفاهية، بل معركة يومية من أجل البقاء. بين نار الحصار وشبح المجاعة، يقاوم سكان الفاشر، يغرفون من “الاُمباز” ما يسد الرمق، بينما يعلّقون آمالهم على وعود هدنةٍ قد لا تأتي، ونداءاتٍ إنسانيةٍ لا تجد طريقها إلى أرض الواقع. ومع كل فجر جديد، يبقى السؤال معلقًا: كم من الوقت يمكن أن يصمد الناس على طعام لم يُخلق لهم؟
دبنقا