آخر الأخبار

السودان في ظل التمزق: هل يمكن للسياسة السودانية أن تتجاوز شتاتها؟

شارك

بات فتح نقاش جاد حول الانقسامات السياسية في السودان ضرورة لا يمكن القفز فوقها، خاصة مع غياب مركز موحد للسلطة منذ اندلاع الحرب في نيسان/أبريل 2023. فعلى الأرض، تتقاسم البلاد سلطتان متنازعتان: إحداهما ترفع راية الجيش من بورتسودان، والأخرى تمد سيطرتها من دارفور بقيادة قوات الدعم السريع. هذا الواقع الانقسامي لا يعكس فقط انهياراً مؤسساتياً، بل يطرح تساؤلات جوهرية حول دور القوى السياسية ومآلات المشهد الوطني برمّته.
وبينما علّقت قطاعات واسعة من السودانيين آمالها على القوى المدنية لقيادة التحول الديمقراطي، سرعان ما بدت هذه القوى غارقة في نزاعات داخلية عطلت فاعليتها. تفكك تحالف قوى الحرية والتغيير، والانقسامات الحادة التي ضربت أحزاباً مركزية كالأمة القومي، والاتحادي الديمقراطي، والمؤتمر السوداني، وحزب البعث، وغيرها، كشفت هشاشة البنية السياسية وعجزها عن إنتاج موقف موحد أو مشروع وطني جامع.
في هذا السياق المأزوم، يطفو على السطح سؤال محوري: كيف يمكن للسودان أن يبني وحدة وطنية حقيقية، في ظل التعدد الهوياتي والتنازع الحزبي والجهوي؟ وهل ثمة فرصة حقيقية للانتقال من منطق التنافس على السلطة إلى منطق التوافق على الوطن؟
بالنسبة للمفكر السوداني الدكتور عبدالله علي إبراهيم، فإن الحرب ليست انحرافاً عارضاً عن المسار، بل هي انعكاس مباشر لتاريخ سياسي طويل، ظل يدور حول سؤال مؤجل: كيف تبنى أمة سودانية مدنية ديمقراطية تتصالح مع تنوعها؟ ويذهب إبراهيم في حديثه مع «القدس العربي «إلى أن مشروع الدولة ظل طوال عقود بلا توافق، مشيراً إلى أن حتى النماذج التاريخية الكبرى ـ كأمريكا ـ لم تبن أمتها من دون حرب أهلية ومخاض عسير.
ويرى أن ما يحدث اليوم هو استمرار لمعارك قديمة، خرجت من رحم الثورة، لكن تفكك منظومة العنف الرسمية، وظهور قوات موازية كالدعم السريع، غيّر الموازين، وأعاد صياغة الصراع على أسس غير مؤسسية. وحسب إبراهيم، فإن الدعم السريع رفض الانخراط في الإصلاح الأمني الذي نص عليه الاتفاق الإطاري، مفضلاً إشعال الحرب على خسارة نفوذه العسكري والاقتصادي.
وعلى الرغم من فداحة الكارثة الإنسانية، يعتقد إبراهيم أن هذه الحرب تمثل لحظة فارقة لا يمكن تجاوزها من دون حسم واضح، مؤكداً أن الدولة الحديثة لا تُبنى بالتراضي فقط، بل أحياناً عبر المواجهة مع من يرفضون التغيير.
انطلاقاً من ذلك، يفتح هذا التقرير ملف الانقسامات السياسية في السودان، متتبعاً جذورها التاريخية، وتشظياتها المعاصرة، ومحاولاً الإجابة على سؤال لا مفر منه: هل يمكن للوطن أن يُعاد تشكيله من ركام هذا الانقسام؟ أم أن الشتات بات قدَراً لا فكاك منه؟

تآكل الثقة

ما يعمّق من خطورة الانقسامات السياسية في السودان ليس فقط تشرذم القوى المدنية أو احتكار السلاح من قبل الفاعلين العسكريين، بل التآكل المتزايد في الثقة بين الشارع وهذه القوى. فبالنسبة لعدد كبير من السودانيين، لم تعد الخلافات بين الأحزاب تمثل تنوعاً مشروعاً في الرؤى، بل تجسيداً لصراعات نخبوية لا تعبّر عن مصالحهم، بل عن طموحات سلطوية ضيقة تغلّفها شعارات وطنية فضفاضة.
وفي هذا السياق، يقول المحامي والناشط السياسي معز حضرة لـ«القدس العربي» إن جذور الانقسام تعود إلى ارتداد الأحزاب إلى قواعدها الاجتماعية التقليدية، وهو ما أضعف الدولة وأفقدها قدرتها على أن تكون مظلة جامعة تتجاوز الولاءات الضيقة.
ويضيف حضرة أن القوى السياسية ليست ضعيفة في جوهرها، لكنها وُضعت في موقف هش نتيجة تحوّل موازين القوة نحو السلاح، ورغم ذلك يرى أن مواقفها متسقة، وما زالت تحتفظ بصوت واقعي يمثل تطلعات قطاعات واسعة من الشعب السوداني، ويؤكد أن تمسكها بمواقفها الثابتة يعطيها شرعية لا يُستهان بها، خصوصاً في مواجهة خطابات العسكرة والتقسيم.
ويحذر حضرة من خطورة استمرار وجود حكومتين متوازيتين في البلاد، معتبراً أن هذا الواقع ليس فقط تهديداً لوحدة الدولة، بل خطوة متقدمة في طريق التشظي الذي طالما نبّهت إليه القوى المدنية.
أما الأخطر في نظره، فهو تصاعد الخطاب العنصري والجهوي، الذي يرى فيه وسيلة لتأجيج العنف وتعزيز الانتماءات الضيقة، في وقت تحتاج فيه البلاد إلى خطاب وطني جامع. هذا الخطاب، كما يوضح، لا يهدد فقط تماسك النسيج الاجتماعي، بل يشكل خطراً مباشراً على ما تبقى من وحدة السودان.
وبين انقسام السلطة وتشرذم الأحزاب وصعود خطاب الكراهية، لا يزال صوت القوى المدنية، كما يرى حضرة، هو الأكثر ثباتاً وسط الضجيج، معبّراً عن إرادة شعبية ترفض الحرب وتبحث عن مخرج سلمي عادل، لا يُختزل في التسويات، بل ينطلق من رؤية شاملة لبناء الدولة من جديد.

خريطة جديدة

أعادت الحرب التي اندلعت في نيسان/أبريل 2023 رسم خريطة النفوذ السياسي والاجتماعي في السودان على نحو غير مسبوق. فبفعل تآكل الدولة المركزية، ظهرت قوى مسلحة جديدة في الأطراف، وبرزت نخب محلية وشخصيات سياسية صاعدة في مناطق مثل دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان، فيما تراجعت المكانة الرمزية والتأثير السياسي للأحزاب التقليدية التي طالما هيمنت على المشهد من الخرطوم.
هذا التحول لا يعكس فقط إعادة توزيع للقوة، بل يشير إلى نهاية محتملة لعقود من المركزية السياسية، وبداية لتعدد مراكز القرار والنفوذ، وهو ما قد يؤسس لواقع سياسي أكثر تعقيداً، لكنه أكثر تعبيراً عن التركيبة الاجتماعية المتنوعة في السودان.
وفي هذا الإطار، يرى المحلل السياسي والصحافي شوقي عبدالعظيم أن البلاد تمر بأكثر مراحلها انقساماً منذ الاستقلال في عام 1956. يقول «إن وجود حكومتين متصارعتين داخل الدولة الواحدة، يشكل تطوراً نوعياً في الأزمة السياسية السودانية، لم تعرفه البلاد من قبل».
ويشير عبدالعظيم، في مقابلة مع صحيفة «القدس العربي»، إلى أن السودان عرف من قبل أنماطاً من «الإدارات الموازية»، كما في تجربة الحركة الشعبية في جبال النوبة والنيل الأزرق، أو تنظيمات مثل حركة عبدالواحد محمد نور. لكن هذه الكيانات، رغم نفوذها المحلي، لم تجرؤ على تقديم نفسها كبدائل رسمية للحكم، بخلاف ما يحدث اليوم حيث تُعلن كل سلطة شرعيتها علناً وتسعى لانتزاع الاعتراف المحلي والدولي.
هذا الاستقطاب المزدوج، كما يوضح عبدالعظيم، لا يقتصر على الجيش والدعم السريع، بل يمتد إلى عمق البنية الاجتماعية والسياسية. فكل جهة تحاول توسيع قاعدتها عبر أدوات المال والإعلام والتحالفات الإقليمية، ما قد يؤدي إلى انقسامات داخل الأحزاب والقبائل والمجتمع المدني نفسه.
ويعيد عبدالعظيم جذور هذه الانقسامات إلى سياسة «فرّق تسد» التي اعتمدها النظام السابق بقيادة البشير، حين استخدمت أجهزة الأمن أساليب ممنهجة لإضعاف الأحزاب عبر تفريخ الأجنحة وتشجيع الانشقاقات. ويقول: «ما نشهده اليوم هو إعادة إنتاج لتلك السياسة، لكن بأدوات أكثر جرأة».
ويحذر عبدالعظيم من أن استمرار هذا النمط من الانقسام، دون أفق لحل سياسي شامل، يهدد بتحول السودان إلى حالة فوضى مزمنة، يصعب معها استعادة الدولة ككيان موحد أو بناء مشروع وطني جامع.

مبادرة

في قراءة مختلفة لطبيعة الصراع الراهن، يرى عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني، كمال كرار، أن المعضلة لا تكمن فقط في الانقسام بين القوى السياسية، بل في غياب مشروع وطني جامع يضع حداً للحرب ويستعيد الثورة.
ويعتقد في تصريحات لـ«القدس العربي» كرار أن مبادرة الحزب لبناء جبهة جماهيرية قاعدية- طُرحت كانون الثاني/يناير الماضي- تمثل محاولة لتجاوز شتات قوى الثورة، وتجميعها أوقف الحرب واسترداد مسار التغيير.
ورغم اعترافه بتباين البرامج والتوجهات بين القوى السياسية، يؤكد كرار أن ذلك لا ينبغي أن يكون سبباً في تمزيق الصف الثوري، بل يرى أن التنوع مصدر قوة، شريطة أن يُدار بخطاب عقلاني يخلو من الكراهية والاتهامات المتبادلة. ويربط كرار جذور الأزمة الحالية بتاريخ طويل من قمع العمل الحزبي وتفتيت الكيانات السياسية، لا سيما خلال سنوات حكم الإنقاذ التي اتبعت فيها الحركة الإسلامية، حسب تعبيره، سياسة ممنهجة لتفكيك الأحزاب وإضعاف المعارضة، إما بالاختراق أو بالإغراء أو بالقمع.
وفي الوقت الذي تراهن فيه بعض القوى السياسية على تسويات جديدة مع أطراف ما قبل الثورة، يشدد كرار على أن الحزب الشيوعي لا يرى في تلك الخيارات سوى مساومات تعيد إنتاج الأزمة.
لم تعد الانقسامات التي تعصف بالقوى المدنية والسياسية في السودان مجرد انعكاس لخلافات تنظيمية أو صراعات على النفوذ. فبحسب مراقبين، ما يجري اليوم يشير إلى انهيار أوسع للبنية السياسية التقليدية، وتآكل المرجعيات التي كانت تؤطر العمل المدني طوال السنوات الماضية. لم يعد هناك مشروع وطني موحد يلم شتات هذه القوى، بل تفككت التحالفات القديمة تحت وطأة الحرب، وسقطت الكثير من الأقنعة التي كانت تخفي هشاشة المشهد السياسي المدني.
في هذا السياق، يرى نور الدين صلاح، القيادي السابق في المؤتمر السوداني ـ التيار الوطني حاليا، أن الانقسامات التي تشهدها الساحة الآن لم تكن مفاجئة، بل جاءت كاشفة لحقيقة ظلت تتشكل في صمت. فالحرب، كما يقول لـ«القدس العربي»، لم تُنتج الانقسام بل فضحته.
إذ كانت التحالفات السياسية تُدار بمنطق التوازنات الظرفية لا على أساس البرامج أو الرؤى الاستراتيجية، ومع غياب القيادة المجددة وعدم وجود تقييم جاد لأداء المرحلة الانتقالية، لم يكن أمام هذه الكيانات إلا التفكك.
وتُسلّط الأحداث الأخيرة الضوء على عمق الأزمة، خصوصاً ما ارتبط بإعلان «حكومة تأسيس» من قبل المجلس الرئاسي التابع لقوات الدعم السريع في نيالا، وما تبعه من مواقف متباينة داخل القوى السياسية المدنية. وقد فجّر هذا الإعلان موجة جديدة من الانقسامات داخل حزب المؤتمر السوداني، أبرزها خروج تيار من قياداته عن الخط العام وإعلانه الانحياز للحكومة المعلنة في مناطق سيطرة الدعم السريع. في المقابل، أصدر المكتب السياسي للحزب بياناً شديد اللهجة اعتبر فيه أن هذا التحرك «لا يمثل الحزب ولا يعبر عن خطه السياسي»، مؤكداً أن «المؤتمر السوداني ليس طرفاً في أي ترتيبات أحادية الجانب تفتقر إلى الإجماع الوطني».
هذا الانقسام ليس حادثة معزولة، بل يأتي كعلامة فارقة على ما يمكن أن تؤول إليه أوضاع قوى الثورة إذا لم يُعد بناء إطار سياسي جامع. فالحزب الذي كان يوماً في طليعة المطالبين بالتغيير السلمي والدولة المدنية، يجد نفسه اليوم في قلب انقسام مرير، يعكس الأزمة العميقة التي تمر بها الأحزاب السودانية بين ضغوط الواقع العسكري وتحولات ما بعد الثورة.

انقسام الحركات المسلحة

تزايدت الانقسامات داخل الحركات المسلحة في السودان منذ اندلاع الحرب بين الجيش والدعم السريع، ما زاد المشهد تعقيدا. الحركة الشعبية لتحرير السودان ـ شمال، تشظت إلى ثلاث كتل رئيسية: عبد العزيز الحلو، الذي ظل متمسكا بالاستقلالية قبل أن يتحالف مع الدعم السريع في تموز/يوليو 2025 ويعين نائبا لرئيس المجلس الرئاسي بالحكومة الموازية؛ ومالك عقار، الذي انحاز للجيش ويشغل منصب نائب رئيس مجلس السيادة؛ وياسر عرمان الذي انشق عن عقار وأسس «التيار الثوري الديمقراطي»، متحالفا بدوره مع الدعم السريع.
في دارفور، دعمت حركة مني أركو مناوي الجيش، لكن انشق عنها ضباط وسياسيون أسسوا حركة محايدة. كما انشقت مجموعة سليمان صندل عن جبريل إبراهيم وتحالفت مع الدعم السريع، في حين بقي جبريل إلى جانب الجيش. أما حركة عبد الواحد نور، فاختارت الحياد، وسط أنباء عن انقسامات داخلية. هذه التشظيات تضعف موقف الحركات في أي تسوية سياسية قادمة.

الراكوبة المصدر: الراكوبة
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا