بأسماء وأدوار وتواريخ دقيقة، تكشف محامية سودانية كيف تحولت السلطة القضائية في بلادها إلى أداة في يد الحركة الاسلامية.
ففي بلد أنهكته الحرب المستمرة للعام الثالث على التوالي، تتحدث رحاب المبارك عضو لجنة “محامو الطوارئ” بشهادة صادمة عن الدور الخفي للإخوان في أروقة القضاء، وكيف استحوذوا على مفاصل السلطة القضائية وحولوها إلى أداة لقمع الخصوم، وتمويل الحرب، وحماية المتهمين من المحاسبة.
حقائق صادمة تستعرضها وتشمل فترتين: انقلاب أكتوبر/ تشرين الأول 2021 والحرب الجارية منذ أبريل/نيسان 2023 بين الجيش و”قوات الدعم السريع”.
وفي تصريحات خاصة لـ”العين الإخبارية”، أوضحت المحامية رحاب المبارك سيد أحمد، عضوة اللجنة التنفيذية لـ”محامو الطوارئ”، أن كل المعلومات التي حصلت عليها حول فساد عناصر الإخوان داخل السلطة القضائية موثّقة ومرصودة من الواقع والميدان.
و”محامو الطوارئ” في السودان هم مجموعة من المحامين الذين يعملون على توثيق انتهاكات حقوق الإنسان وتقديم الدعم القانوني للمتضررين من الحرب الدائرة في البلاد.
وقالت إنها “عكفت على إعداد سلسلة تقارير ترصد بالتوثيق والبيّنة كيف تحوّلت هذه المؤسسة (القضاء) من واجهة للعدالة إلى أخرى للإفلات من العقاب، ومن رادع للفساد إلى حاضنٍ له، ومن جهةٍ يُفترض بها كبح الحرب إلى وسيلةٍ لجمع المال باسمها”.
تقول المبارك: “بعد أن قامت حكومة الفترة الانتقالية، برئاسة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك، بتشكيل لجنة إزالة تمكين نظام الرئيس عمر البشير (نظام الإخوان في السودان)، كانت هذه اللجنة بمثابة البُعبع المخيف”.
وتضيف أن اللجنة “هددت عروش قضاة الحركة الإسلامية – الواجهة السياسية لإخوان السودان-، خصوصًا بعد أن توغّلت في ملفات السلطة القضائية، ورصدت عددًا من ضباط جهاز الأمن المعيّنين داخلها، وفق مظروف سري تم تسليمه للقاضية نعمات، وضمّ أكثر من 18 قاضيًا، كانوا في الحقيقة ضباط أمن مزروعين داخل الجهاز القضائي”.
واستطردت قائلة: “لقد تمحورت مهمة الإخوان الأساسية حول تأمين الإفلات من العقاب لقياداتهم المعتقلة، التي أودعتها ثورة ديسمبر (كانون أول 2018) المجيدة السجون، تمهيدًا لتسليمهم للجنائية الدولية”.
وأضافت أن القاضي أحمد هارون، الرئيس المكلف لحزب المؤتمر الوطني- الذراع السياسي للإخوان، هو من هندس خطة السلطة القضائية في فترة الانقلاب الذي نفذه قائد الجيش السوداني، عبدالفتاح البرهان، وأطاح بموجبه بالحكومة المدنية التي كان يرأس مجلس وزرائها عبدالله حمدوك، في أكتوبر/تشرين الأول 2021.
ولفتت إلى أن ذلك تم عبر السعي إلى إعادة تمكين كل من تم فصلهم بواسطة لجنة إزالة التمكين، ليعملوا على إخراج عناصر النظام السابق من السجون، واسترداد ممتلكاتهم وأموالهم المنهوبة.
وتابعت: “اختار أحمد هارون لتنفيذ هذه المهمة عددًا محدودًا من القضاة الموالين للنظام، ممن يملكون سلطة إصدار القرار داخل الجهاز القضائي، وكان هو، بصفته رئيس المؤتمر الوطني المكلّف، المخطط ومصدر الأوامر”.
“بينما تولّى رئيس القضاء المكلف عبد العزيز فتح الرحمن تنفيذ تلك الأوامر والتوقيع عليها، وشكّل نائب رئيس القضاء الأمين الطيب البشير حلقة الوصل بين القاضيين: أحدهما في السجن، والآخر على كرسي السلطة”.
وبحسب المبارك، “فقد عُقدت اجتماعات مطوّلة داخل سجن كوبر بالخرطوم بحري، بين أحمد هارون ومجموعته، بحضور مدير السجن، الذي بلور خطة الهروب من السجن على شكل فتوى قانونية، مكّنت المجرمين من مغادرة السجن دون عودة”.
وأشارت إلى أن القاضي “أبو سبيحة” كان هو أداة التنفيذ، حيث ألغى كل قرارات لجنة إزالة التمكين، عبر دائرته المخصصة لهذا الغرض، وأعاد جميع القضاة المفصولين إلى الخدمة.
كما أمر بفك الحجز عن الأموال المنهوبة والحسابات البنكية التي كانت الحركة الإسلامية قد استولت عليها خلال ثلاثين عامًا من الحكم.
ووفق المحامية، “أتمّ القضاة الثلاثة هذه المهمة بأعلى درجات الولاء والطاعة، ولم يهدأ لهم بال حتى خرج جميع منسوبيهم من السجون، وأصبحوا يتحركون أحرارًا داخل ولايات السودان. بل إن بعضهم فرّ خارج البلاد”.
تمضي رحاب المبارك في سرد تفاصيل فساد إخوان السودان داخل السلطة القضائية، قائلة: “بعد حرب أبريل/نيسان عام 2023 وعودة أغلب أذرع النظام البائد (نظام عمر البشير) إلى الخدمة بقرارات صادرة عن دائرة القاضي أبوسبيحة، ووفقًا للخطة الشيطانية التي رسمها أحمد هارون، انحصرت مهمة السلطة القضائية في مرحلتين أساسيتين بعد أن نجحت مهمة الإفلات من العقاب خلال فترة الانقلاب.
وأوضحت أن “المهمة الأولى تمثلت في جمع وسرقة أكبر قدر من الأموال عبر مؤسسات السلطة القضائية، بهدف دعم الحرب التي تعيد إليهم مجدهم الزائل”.
أما المهمة الثانية، فتقول رحاب إنها تمثلت في تنفيذ برامج تهدف لـ”الانتقام والتشفي” من كل دعاة التغيير، وإخماد أصواتهم إلى الأبد في حال عادت الحركة الإسلامية إلى السلطة عبر فوهة بندقية الحرب.
واعتبرت أنه في تلك الحالة، ستُخمد ثورة ديسمبر إلى الأبد، ويصبح كل من هتف باسمها إما في عداد الأموات أو داخل السجون بأحكام الإعدام أو المؤبد، بتهم مفصلة على مقاس ظلمهم مثل “تقويض النظام الدستوري” وإثارة الحرب ضد الدولة”، لمجرد رفضهم للحرب ومطالبتهم بالسلام أو تعاونهم مع قوات الدعم السريع.
بحسب المبارك، قام أحمد هارون بتوزيع أصحاب الولاءات والراغبين في الانتقام وتصفية الحسابات القديمة على إدارات السلطة القضائية.
وقالت: “كانت البداية بالمكتب التنفيذي لرئيس القضاء، و هو المسؤول عن تنفيذ القرارات الصادرة عن رئيس القضاء، وهو أيضًا حلقة الوصل الرئيسية بين رئيس القضاء وبقية الإدارات”.
وأوضحت أن القاضي طلال هاشم قرشي يشغل حاليًا منصب رئيس المكتب التنفيذي، وهو بحسب المبارك، قاضٍ ضعيف الشخصية، مسلوب الإرادة، مما يجعله مناسبًا تمامًا لهذا المنصب، حيث يمكن تحريكه بسهولة لتنفيذ الأوامر دون عناء.
وزادت: “عُيِّن القاضي الكباشي محمد عمر علي قاضي المحكمة العامة – نائبًا له، وهو الحلقة الأخطر داخل المكتب التنفيذي، إذ يملك فعليًا أدوات الربط والحل.
وقد أعيد إلى الخدمة بعد فصله بواسطة لجنة إزالة التمكين، وهو من القضاة الذين يدينون بالولاء الكامل للحركة الإسلامية السودانية، وكان ضمن قضاة جهاز الأمن المزروعين داخل السلطة القضائية، ويُعرف بقربه الشديد من مدير جهاز الأمن الحالي، الضابط “مفضل”.
وأضافت: “هذا القاضي متهم سابقًا بقضايا فساد في ولاية كسلا شرقي السودان، حين كان مديرًا للخدمات بالولاية، كما تورط في الفساد المالي بمحكمة النظام العام في الولاية نفسها”.
“وهو حاليًا الشخصية الأبرز في المكتب التنفيذي وصاحب القرار الأول، وله سلطة إصدار وتعميم القرارات على بقية الإدارات”.
تواصل المبارك حديثها بالقول إن “إدارة الخدمات في السلطة القضائية تُعنى بتقديم الخدمات للقضاة، بما في ذلك توفير المواد الغذائية مثل البيض، الحليب، اللحوم، والمواد التموينية بشكل شهري”.
وتوضح: “ولأجل توفير هذه الاحتياجات، يتم استقطاع مبلغ 100,000 جنيه سوداني شهريًا من راتب كل قاضٍ”.
ومنذ اندلاع الحرب في أبريل/نيسان 2023، تتابع، استمرت إدارة الخدمات في استقطاع هذه المبالغ من جميع قضاة السودان دون أن تقدم لهم أي من هذه الاحتياجات، في اعتداء واضح على رواتبهم وأموالهم.
وتشير المبارك إلى أنه “كان من المتبع والعرف القضائي أن يترأس هذه الإدارة قاضٍ من المحكمة العليا، ويُسند منصب نائب الرئيس لقاضٍ من درجة الاستئناف”.
ومستدركة: “إلا أن رئيس القضاء كسر هذا العرف بعد اندلاع الحرب، وعيّن القاضي مالك بكري – وهو قاضٍ بدرجة الاستئناف – رئيسًا للإدارة”.
ومالك بكري من القضاة الذين أُعيدوا للخدمة بعد فصلهم من قبل لجنة إزالة التمكين، وهو من أبرز أذرع الحركة الإسلامية الذين يُعتمد عليهم حاليًا في فترة الحرب، خاصة في ما يتعلق بجمع الأموال من إدارة الخدمات ومن السلطة القضائية في الولايات.
وقالت المبارك:” قام مالك بكري بتأسيس شركات وأسماء أعمال بأسماء أشخاص لا ينتمون للسلطة القضائية، واستغل أموال السلطة القضائية في ذلك”.
كما وظّف أفرادًا تابعين له وأقارب لرئيس القضاء في ثلاثة مواقع هي: مصنع طحينية بمدينة عطبرة شمالي السودان، وشركة لتصدير اللحوم، وعدة صيدليات في الولايات الآمنة التي لم تصلها الحرب.
“كذلك خُصصت له ثلاثة مربعات للتنقيب عن الذهب: اثنان في ولاية نهر النيل شمالي السودان، وواحد في ولاية البحر الأحمر شرقي السودان”، وفق المحامية.
كما عيّن مالك بكري القاضي “عياد التهامي” رئيسًا لإدارة الخدمات في ولاية كسلا، واستأجر له شقة في مدينة كسلا، وأخرى في مدينة القضارف شرقي السودان.
وقالت: “يحدث هذا بينما لا يجد قضاة السودان مكانًا للنوم في استراحات السلطة القضائية بسبب النزوح والتشريد”.
وختمت بالقول إنه “في عهد القاضي مالك بكري، لم تُسرق فقط أموال القضاة والسلطة القضائية، بل تحولت الأخيرة إلى شركة خاصة تنافس شركات الذهب واللحوم والعلاج في السوق، في محاولة لدرّ أكبر قدر ممكن من الأرباح، يُحوّل جزء منها للمصالح الشخصية، والباقي لدعم الحرب”.