الحركة الإسلامية في السودان تمتلك خبرة طويلة في التعامل مع الأعداء المختلفين، سواء كانوا مدنيين أو عسكريين. هذه الخبرة لم تتشكل عبثًا، بل جاءت نتيجة لعقود من العمل السياسي والمناورات التي مكّنتها من البقاء في المشهد رغم التحولات العاصفة التي شهدتها البلاد. ومن الملاحظ أن إعلام الحركة الإسلامية لا يهاجم قوات الدعم السريع بنفس الدرجة التي يهاجم بها القوى المدنية، وهو أمر يحمل دلالات عميقة تتعلق بطبيعة المواجهة التي تخوضها الجماعة مع كل طرف، وأي تهديد تعتبره أكثر خطورة على مشروعها السياسي.
وهناك عدة أسباب وراء هذا التوجه، أولها أن الإسلاميين يدركون أن القوى المدنية، إذا نظمت صفوفها بشكل صحيح، قادرة على تفكيك مشروعهم بشكل جذري من خلال العمل السياسي، بينما المواجهة مع عدو مسلح يمكن التعامل معها بأدوات مختلفة تتناسب مع إستراتيجياتهم المعتادة.
ذاكرة الإسلاميين تحتفظ بأن العدو المسلح لا يحتاج إلى أكثر من التخوين وشراء الذمم داخل قياداته، وهو أسلوب ثبتت فاعليته في تجارب سابقة. أما مواجهة القوى المدنية، خاصة إذا كانت تمتلك رؤية سياسية واضحة وتنظيمًا متماسكًا، فإنها تمثل تهديدًا وجوديًا لهم، لأن الصراع هنا لا يدور حول السيطرة المسلحة، بل حول الشرعية والمشروعية، وهما العنصران اللذان تحرص الحركة الإسلامية على تكريس احتكارها لهما. لذا فإنها تخشى هذا النوع من المواجهة لأنها تسحب البساط من تحت أقدامها وتفقدها أدواتها التقليدية التي تعتمد على الخطاب الديني والتعبئة العاطفية. إضافة إلى ذلك يتيح لها العمل المسلح فرصة استغلال الدين في الحشد وبناء منظمات رديفة تعمل لصالحها، وهو ما يصعب تحقيقه في سياق المواجهة المدنية.
◙ ذاكرة الإسلاميين تحتفظ بأن العدو المسلح لا يحتاج إلى أكثر من التخوين وشراء الذمم داخل قياداته، وهو أسلوب ثبتت فاعليته في تجارب سابقة
وينظر الإسلاميون إلى المجتمع السوداني نظرة احتقار واضحة، فهم يظنون أن بإمكانهم التلاعب بعقول الناس والتحكم في توجهاتهم، مستخدمين أساليب تضليلية تقوم على التلاعب بالمشاعر الدينية والخوف من الفوضى. غير أن هذا التصور يواجه معضلة أساسية، وهي أن الوعي الجماهيري في السودان قد تغير بشكل جذري منذ ثورة ديسمبر، وأصبح الناس أكثر قدرة على قراءة المشهد السياسي بوعي نقدي، وهو ما يجعل من الصعب على الإسلاميين إعادة تدوير خطاباتهم القديمة بنفس الفاعلية السابقة. إنهم يخافون من العمل السياسي المنظم الذي يستهدف العقول، لأن هذا النوع من العمل قادر على تفكيك دعاواهم وكشف زيف خطابهم، كما أنه يمتلك قدرة كبيرة على تحريك الرأي العام العالمي ضدهم، وهو ما يقلل من فرصهم في الاستفادة من الدعم الخارجي الذي يعتمدون عليه في الكثير من الأحيان.
في ما يتعلق بسيطرة قوات الدعم السريع على أراضٍ واسعة في السودان، فإن الحركة الإسلامية لا تولي مسألة تشكيل حكومة في هذه المناطق اهتمامًا كبيرًا، لأن هذا السيناريو يصب في مصلحتها على المدى البعيد. انفصال دارفور، الذي قد يبدو نتيجة طبيعية لهذه الأوضاع، لا يشكل مصدر قلق حقيقي للإسلاميين، بل على العكس، فإنهم يرون فيه فرصة لاستعادة السيطرة على الخرطوم والمناطق الأخرى دون وجود قوة منافسة تمثل تهديدًا جديًا لهم. إنهم يدركون أن انفصال دارفور سيؤدي إلى إعادة تشكيل الخريطة السياسية بما يسمح لهم بتركيز جهودهم في استعادة السلطة في ما تبقى من السودان، مستفيدين من التحولات التي ستطرأ على توازنات القوى داخل البلاد.
أحد أكبر المخاوف التي تؤرق الإسلاميين هو لجان المقاومة التي تمثل نموذجًا للعمل السياسي القاعدي الذي لا يقبل بأنصاف الحلول. هذه اللجان، التي نشأت في سياق الثورة السودانية، تمتلك القدرة على تحريك الشارع بطريقة يصعب احتواؤها بالأساليب التقليدية التي يعتمد عليها الإسلاميون، مثل شراء الولاءات أو التلاعب بالخطاب الديني. إن خطورة لجان المقاومة بالنسبة إلى الحركة الإسلامية لا تكمن فقط في قدرتها على تنظيم الاحتجاجات، بل أيضًا في نموذجها التنظيمي الذي يعتمد على العمل الأفقي واللامركزي، ما يجعل من الصعب اختراقها أو استمالة قادتها كما يفعل الإسلاميون مع الأحزاب التقليدية.
إن فهم عقلية العدو هو الخطوة الأولى في أي مواجهة ناجحة. الإسلاميون ليسوا قوة خارقة، بل هم مشروع يعتمد على مجموعة من الآليات التي يمكن مواجهتها بفاعلية إذا تمت دراستها بشكل جيد. اختيار زمان ومكان المعركة هو عنصر حاسم في هذه المواجهة، فليس من الحكمة الدخول في معركة وفق شروط يحددها الطرف الآخر، بل ينبغي فرض معادلة جديدة تجبره على اللعب في ساحة لا يمتلك فيها الأفضلية. هذا يتطلب التخلي عن ردود الفعل العاطفية والانخراط في عمل سياسي منظم يمتلك رؤية إستراتيجية واضحة.
دفن الهوس الديني في السودان لا يمكن أن يتم بمجرد مواجهة الإسلاميين أمنيًا أو عسكريًا، بل لا بد من تفكيك مشروعهم فكريًا وسياسيًا. إن المعركة الحقيقية ليست فقط ضد الأفراد الذين يشغلون مواقع في التنظيمات الإسلامية، بل ضد الأفكار التي يستند إليها هذا المشروع. لذلك، فإن المطلوب ليس فقط الإطاحة بالإسلاميين من مواقع السلطة، بل العمل على خلق بيئة سياسية واجتماعية تجعل من المستحيل عودة مشروعهم بأي شكل من الأشكال. هذه المهمة تتطلب إعادة بناء المجال السياسي السوداني على أسس جديدة تضمن عدم تكرار أخطاء الماضي، وتوفر آليات تمنع القوى الاستبدادية من إعادة إنتاج نفسها.
ولا يمكن التعويل فقط على الحراك الداخلي في مواجهة الإسلاميين، بل لا بد من الاستفادة من المتغيرات الإقليمية والدولية التي تؤثر على السودان. الإسلاميون في السودان لطالما اعتمدوا على شبكة من العلاقات الخارجية التي مكنتهم من الاستمرار رغم الأزمات الداخلية، وبالتالي فإن مواجهتهم تتطلب تحركًا على المستوى الدولي لعزلهم سياسيًا وحرمانهم من أي دعم خارجي. هذا يعني ضرورة بناء تحالفات قوية مع القوى الإقليمية والدولية التي تتبنى موقفًا مناهضًا للإسلاميين، واستخدام أدوات الضغط الدبلوماسي والإعلامي لكشف جرائمهم وانتهاكاتهم.
◙ السودان يقف أمام مفترق طرق، والمواجهة مع الإسلاميين ليست مجرد معركة عابرة، بل هي معركة تحدد مصير الدولة ومستقبلها
كما أن أحد الجوانب المهمة في هذه المواجهة هو إعادة بناء مؤسسات الدولة السودانية بطريقة تضمن عدم اختراقها من قبل الإسلاميين. لقد أثبتت التجربة أن الإسلاميين قادرون على التغلغل في أجهزة الدولة واستخدامها لمصلحتهم حتى عندما يكونون خارج السلطة رسميًا، وبالتالي فإن أي عملية تحول سياسي لا بد أن تتضمن آليات صارمة تمنع تكرار هذا السيناريو. ومن المهم أيضًا العمل على تفكيك الشبكات الاقتصادية التي يعتمد عليها الإسلاميون في تمويل أنشطتهم، فمن المعروف أن هذه الجماعات تمتلك مؤسسات مالية وشركات تعمل كواجهات لتمويل أنشطتها السياسية والعسكرية.
العمل الجماهيري يجب أن يظل في جوهر أي إستراتيجية لمواجهة الإسلاميين. إن واحدة من أكبر نقاط ضعف الحركات الإسلامية هي أنها تعتمد بشكل أساسي على السيطرة على المؤسسات، لكنها تفشل في بناء قاعدة شعبية حقيقية تكون قادرة على الصمود في وجه التحولات السياسية. لذلك، فإن مواجهة الإسلاميين تتطلب تعزيز الوعي الجماهيري بأهمية الدولة المدنية والديمقراطية، والعمل على خلق حركات سياسية تمتلك القدرة على تمثيل تطلعات الشعب السوداني بشكل حقيقي. ويجب ألا يكون الهدف مجرد إسقاط الإسلاميين، بل بناء بديل حقيقي قادر على تقديم نموذج مختلف يحقق العدالة والاستقرار والتنمية.
السودان يقف أمام مفترق طرق، والمواجهة مع الإسلاميين ليست مجرد معركة عابرة، بل هي معركة تحدد مصير الدولة ومستقبلها. لا مجال لأنصاف الحلول أو التسويات التي تمنح الإسلاميين فرصة لإعادة تنظيم صفوفهم. المطلوب هو مواجهة شاملة تستهدف أسس مشروعهم وليس فقط رموزه الظاهرة. تحقيق هذا الهدف يتطلب تضافر جهود جميع القوى المدنية والديمقراطية، والالتزام برؤية واضحة تضع مصلحة السودان فوق كل الاعتبارات. إن بناء دولة مدنية ديمقراطية في السودان لن يكون سهلاً، لكنه الخيار الوحيد لضمان مستقبل لا مكان فيه للاستبداد الديني والهوس الأيديولوجي.
العرب