السودان- عبد الحميد عوض
في خضم الحرب المندلعة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع منذ منتصف إبريل/ نيسان الماضي، والتي أدت إلى مقتل عشرات آلاف المدنيين ونزوح ولجوء أكثر من 10 ملايين، اجتاحت قوات الدعم السريع مدن شرقي الجزيرة وقراها، واستهدفت مباشرة المدنيين بحجة أنهم موالون لأحد أمرائها أبو عاقلة كيكل الذي كان انسلخ عنها، والتحق بالقتال في صفوف الجيش.
ويتحدر كيكل من مناطق شرقي ولاية الجزيرة الخاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع التي نفذت حملة انتقامية واسعة وصل لهيبها إلى نحو 70 قرية في ريفي مدينة رفاعة، أكبر قرى المنطقة، كما طاولت المدينة نفسها، ومدينة تمبول و130 قرية في ريفها، و30 قرية في ريف الجنيد. ونزح معظم سكان هذه القرى سيراً على الأقدام إلى القضارف وحلفا والفاو في رحلات استمرت أياماً واجهوا فيها العطش والجوع والمرض، وفقدت أسر التواصل مع عشرات الأفراد الذين لم يُعرف مصيرهم نتيجة قطع الاتصالات.
واتهم السكان قوات الدعم السريع بنهب سيارات وممتلكات ومحاصيل، وتهجيرهم قسراً وطردهم من منازلهم، وهو ما اعتبروه مؤامرة تهدف إلى استغلال موارد المنطقة، وإحلال سكان آخرين بدلاً منهم.
وأكد بيان أصدره مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، أن “عشرات قتلوا في الهجوم الذي شنته قوات الدعم السريع على المنطقة، وفرَ نحو 46 ألفاً إلى ولايات القضارف وكسلا (شرق) ونهر النيل (شمال)”. وأوضح أن “أهالي الجزيرة تعرضوا لاعتداءات جسدية وربما جنسية وإذلال وتهديدات، ونهبت منازلهم ومحلاتهم وأحرقت مزارعهم، ما يشكل انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان. حالياً تشمل الاحتياجات العاجلة للمتضررين والنازحين المأوى والغذاء والرعاية الصحية وخدمات الحماية”.
هرب خضر العباس الخضر (52 سنة)، من قرية ودغلوقة بريف تمبول التي كانت تستضيف أيضاً نازحين من سبع قرى، ويقول لـ”العربي الجديد”: “هاجمت قوات الدعم السريع القرية ونهبت السيارات واقتحمت المنازل بحثاً عن الذهب والمال. وفي قرى أخرى قتلت هذه القوات العشرات، وجلدت النساء بالسياط فاضطررن على غرار سكان آخرين إلى المغادرة. وفعلياً غادر بعض النازحين سيراً على الأقدام إلى المجهول، في حين استخدم آخرون وسائل نقل بدائية جرتها الدواب. من حسن حظي أنني وجدت سيارة نقلتني مع أسرتي مقابل مبلغ 4 ملايين جنيه سوداني (نحو 1500 دولار)، ووصلت إلى مدينة الفاو (شرق) مع 4 آلاف آخرين من القرية نفسها. وأقيم مخيم خاص بأهل القرية في الفاو. وبعض الأشخاص الذين ساروا على الأقدام واجهوا ظروف العطش وماتوا، ومن بينهم ابن أخي البالغ 17 سنة”.
ويذكر خضر أن النازحين لم يجدوا أي اهتمام ورعاية سواء من حكومة الولاية أو المنظمات المحلية والدولية، وتكفل بمعظمهم مغتربون في دول الخليج من أبناء الولاية. ويُبدي خضر أسفه الشديد “لأن آلاف الأسر في مناطق الطندب وود الفضل لم يستطيعوا الخروج من العذاب كونهم لا يملكون المال فسعر التذكرة الواحدة وصل إلى 120 ألف جنيه سوداني (200 دولار). ويعتمد أفرادها في غذائهم على البلح والبسكويت، في حين لا وجود لكهرباء واتصالات، وآخر الأخبار تشير إلى مقتل عشرة منهم”.
بدوره، نزح جابر جبارة (19 سنة) مع أسرته سيراً على الأقدام أحياناً وعلى متن شاحنات أحياناً أخرى لمدة ثلاثة أيام للوصول إلى مدينة القضارف (شرق) بعدما هاجمت قوات الدعم السريع قرية أب جلفة، ويقول لـ”العربي الجديد”: “نفذت مع عائلتي رحلة صعبة عبر قريتي أم عكش الفولة وصولاً إلى القضارف، وشاهدت فيها اقتراب الموت من النازحين عبر الجوع والعطش، إذ كان العيش على وجبة واحدة والقليل من المياه غير الصالحة للشرب”. يضيف: “في بداية الرحلة اعترض عناصر من قوات الدعم السريع بعض النازحين، وأخذوا كل ما لديهم، وهو ما حدث لأشخاص كانوا في شاحنة اضطروا إلى النزول منها قبل أن تؤخذ الشاحنة بالقوة ويتركوا في العراء. وقبل ذلك تعرّض النازحون لمختلف الانتهاكات من نهب وجلد واعتقالات، ولا يُعرف مصير أشخاص فقِدوا منذ أيام، في حين باتت قريتي التي كان يقطنها نحو 10 آلاف شخص خالية تماماً. وعموماً يعتمد النازحون بالكامل على جهودهم الخاصة لتدبير شؤونهم الحياتية، ولم تدعمهم أي جهة حتى الآن”.
أما غيث الذي نزح إلى مدينة حلفا الجديدة، فيقول لـ”العربي الجديد”: يتجاوز عدد النازحين من شرق الجزيرة إلى مدينة حلفا الجديدة 20 ألفاً توزعوا على المنازل والمدارس، وقد تكفل أبناء المنطقة بتوفير الكثير من الاحتياجات للنازحين من مشمعات ومواد غذائية وغيرها، وأنشئ عدد من المطابخ الجماعية لتجهيز وجبات مجانية للأسر، وأبناء شرق الجزيرة يعرفون بقدرتهم على تجاوز المحن وسد كل الاحتياجات، وستتواصل مبادراتهم من أجل أهلهم”.
ويقول خضر عبد الرحمن الذي نزح مع أسرته من قرية الهبيكة النقر إلى مدينة القضارف، لـ”العربي الجديد”: “لم أتصوّر يوماً أن يحصل ما مرّ بنا، وأنا غير قادر على استيعاب ما حدث. مليشيا الدعم السريع قتلت أشخاصاً وأجبرت أفراد أسرهم على عدم دفنهم، ووجهت إهانات وإساءات عنصرية لهم، والجميع معرّضون للاعتداءات، وإذا قاوم أحد فمصيره طلقة”. ويشير إلى أنه استطاع الخروج من شرق الجزيرة مع أسرته الصغيرة عبر عربة “كارو” يجرّها حصان، واستمرت رحلة النزوح يومين. “كنا نسير في الخلاء، ولا نعلم إلى أين نحن مساقون. مات بعض الناس عطشاً، وجرت تصفية شبان داخل مسجد، واللافت أنه حين وصلنا إلى مناطق سيطرة الجيش تلقينا معاملة سيئة، إذ طالبنا الجنود بإبراز وثائق نسينا جلبها خلال رحلة النجاة، ووجهوا إلى بعض النازحين اتهامات بموالاة الدعم السريع. أيضاً وجدنا تجاهلاً في ظل عدم وجود مخيمات ومراكز إيواء ومواد غذائية، وافتقاد الدعم المالي والعلاج والاعتماد بالكامل على مبادرات المغتربين”.
من جهتها، أصدرت غرفة طوارئ منطقة شرق النيل مناشدة عاجلة لمساعدة سكان مدن وقرى ولاية الجزيرة عموماً، وأولئك من قرى شرق الجزيرة خصوصاً. مشيرة إلى أن “نحو 17 ألف شخص نزحوا إلى منطقة أبي دليق يعانون من ظروف قاسية تهدد حياتهم وصحتهم وكرامتهم، وهناك نقص حاد في الخدمات الأساسية من غذاء وعلاج، علماً أن بعض النازحين يعانون من إصابات بالغة، ويحتاجون إلى دعم نفسي واجتماعي لمساعدتهم على التأقلم مع صدمة النزوح، وتهدئة من فقدوا أشخاصاً”.
وأعلنت الغرفة أن الحاجة ماسة لتوفير المأوى وجميع المستلزمات من خيم وأسّرة وبطانيات وناموسيات، إذ إن المنطقة مليئة بالناجين من الويلات التي لحقت بالمدارس والمستشفيات والمساجد وجميع المرافق العامة في ولاية الجزيرة. ويقتسم مواطنون بيوتهم مع قادمين لا يملكون شيئاً”.
إلى ذلك، يقول هيثم الشريف، الناطق باسم منظمة الجزيرة التي تهتم بقضايا الولاية أثناء الحرب، لـ العربي الجديد”: “تجاوز عدد النازحين من مناطق شرقي الجزيرة 50 ألفاً توزعوا على مدن القضارف والفاو وحلفا الجديدة. وهم قطعوا عشرات الكيلومترات سيراً على الأقدام للوصول إلى منطقة الصباغ، أقرب نقطة يسيطر عليها الجيش، وتجمعوا هناك في انتظار نقلهم إلى هذه المدن. ويعيش جميعهم وسط ظروف إنسانية بالغة التعقيد، بلا مال أو دواء أو مأوى أو غذاء”.
ويشير إلى أن “أشخاصاً وصلوا إلى حلفا الجديدة استقبلوا في مراكز إيواء أو استأجروا منازل، وغالبيتهم يعيشون في العراء، لذا نناشد أن تمد المنظمات الدولية الإنسانية والوطنية والخيرين يد العون إليهم في أسرع وقت”. يضيف: “لم يوفر المجهود البسيط الذي بذلته الحكومة كل الاحتياجات. وأمنت حكومة ولاية الجزيرة نحو 300 خيمة وألف سلة غذائية وبعض الأدوية، أما مؤتمر الجزيرة فوفر فريقاً من كبار المتخصصين النفسيين قدم دعماً نفسياً وعلاجاً لنحو 37 فتاة تعرضن للاغتصاب.
وتوا ....