تشهد أوضاع الأطفال داخل معسكر زمزم الشهير للنازحين القريب من مدينة الفاشر بشمال دارفور، تدهوراً مخيفاً بات فيها شبح الموت جوعاً يطارد آلاف الأطفال، إذ يحصد سوء التغذية المزمن روح طفلين على رأس كل ساعة، بينما تواجه الأمهات النازحات أسوأ التجارب المأساوية وهن يرقبن أجساد فلذات أكبادهن ينهشها الجوع والمرض حتى العظم، قبل أن يموتوا بصمت في أحضانهن، وسط عجز عن تقديم أي مساعدة ممكنة واتهامات لطرفي الحرب بعرقلة وصول الإغاثة.
تقليص وتوقف
ويعتبر معسكر زمزم (الواقع على بعد 12 كيلومتراً من مدينة الفاشر في ولاية شمال دارفور)، واحد من نحو 170 معسكراً للنازحين أفرزتها حرب الإقليم السابقة في عام 2003، ويؤوي أكثر من نصف مليون نازح تتزايد أعدادهم باستمرار.
مع تواصل الاشتباكات والقصف المتجدد على الأحياء والمعسكرات بمدينة الفاشر أعلنت منظمة “أطباء بلا حدود” قبل شهرين عن تقليص عدد الأطفال المصابين بسوء التغذية الذين يمكنهم تلقي الغذاء العلاجي في المعسكر بسبب نقص الإمداد.
وتجددت الاشتباكات بمدينة الفاشر أمس الخميس إثر محاولة قوات “الدعم السريع” الهجوم على القطاع الجنوبي للمدينة، بينما قال الجيش و”القوات المشتركة” إنها تصدت للمهاجمين وكبدتهم خسائر بشرية ومادية كبيرة. كما تسبب الهجوم بموجات النزوح.
لاحقاً، أعلنت “أطباء بلا حدود” عن توقفها نهائياً عن العمل في المعسكر، بعدما كانت آخر المنظمات العاملة في هذا المجال، ما فاقم من محنة آلاف الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية نتيجة نفاد الإمدادات بسبب عرقلة أطراف النزاع وصول المزيد منها.
وأكد بيان للمنظمة، أنها اضطرت لوقف العلاج لنحو خمسة آلاف طفل يعانون من سوء التغذية الحاد في المعسكر، منهم نحو 2900 طفل يعانون من سوء التغذية الحاد الشديد.
واتهم البيان الأطراف المتحاربة بمنع تسليم المواد الغذائية والأدوية وغيرها من الإمدادات لأشهر عدة، مما أدى إلى نفاد إمداداتها منذ نهاية سبتمبر (أيلول) الماضي، فيما لم يتبق بالمعسكر سوى مستشفى المنظمة بسعة 80 سريراً لعلاج الأطفال الأكثر عرضة لخطر الموت.
الموت كل ساعة
وكانت “أطباء بلا حدود” نبهت في وقت سابق إلى أن 12 طفلاً يموتون كل يوم بمعدل حالة وفاة كل ساعتين داخل المعسكر، بينما لم يكن لدى فرقها هناك سوى غذاء علاجي يكفي أطفال سوء التغذية لأسبوعين فقط.
وقالت “شبكة أطباء السودان” إن “تجاهل معاناة أطفال دارفور في معسكر زمزم يمثل وصمة عار للمجتمع الدولي”. وأعربت الشبكة في بيان عن أسفها “للأزمة الإنسانية في شمال دارفور، حيث يعاني الأطفال من سوء تغذية حاد بسبب الحصار المفروض على مدينة الفاشر وتوقف الإمدادات الغذائية”.
ودعت الشبكة “المجتمع الدولي للضغط على قوات الدعم السريع لوقف الهجمات والنهب، ورفع الحصار عن المدينة لتسهيل وصول المساعدات”.
تبادل الاتهامات
لكن الحكومة السودانية تصر على نفي وجود مجاعة بالمعسكر، معتبرةً أن “الحديث عن مجاعة بالمعسكر يهدف لاستخدامه كذريعة لتدخل دولي في شؤون البلاد”، معتبرةً أن “حصار قوات الدعم السريع لمدينة الفاشر هو السبب الرئيس في نقص الغذاء وانقطاع وصول المساعدات”.
واعتبرت “مفوضية العون الإنساني” السودانية، أن الحديث عن وجود مجاعة في معسكر زمزم، “غير حقيقي ولا يتسق مع الشروط الواجب توافرها لإعلان المجاعات”.
وكانت قوات “الدعم السريع” التي لا تزال تحاصر الفاشر، أكدت تضامنها الكامل مع الأشخاص الذي يعانون المجاعة، مجددةً استعدادها للعمل مع الأمم المتحدة لتسهيل إيصال المساعدات.
انهيار كامل
من جانبها، قالت المنسقية العامة للنازحين واللاجئين بدارفور، إن “الأوضاع الإنسانية الراهنة في مخيمات النزوح ومراكز الإيواء والمجتمعات المضيفة صعبة ومزرية للغاية، ولا يمكن وصفها بأي صفة سوى أنها كارثية”، لافتةً إلى أن “تواصل الاشتباكات والقصف العشوائي على معسكرات النازحين بمدينة الفاشر، ما زال يفرز المزيد من موجات النزوح نحو مناطق مجاورة يتوافر فيها الأمن لكنها تفتقر إلى الإيواء والغذاء”.
وأوضح المتحدث باسم المنسقية العامة للنازحين واللاجئين بدارفور، آدم رجال، أنه ومنذ إعلان خبراء الأمم المتحدة تفشي المجاعة في معسكر زمزم مطلع أغسطس (آب) الماضي، “والوضع يزداد تدهوراً يوماً بعد يوم ويتفاقم سوء التغذية بين الأطفال”. وأضاف رجال، أن “الوضع الإنساني يشهد انهياراً كاملاً بعد خروج منظمة ‘أطباء بلا حدود’، آخر المنظمات التي كانت تكافح سوء التغذية وسط الأطفال بالمعسكر، واستنفاد كل مخزونات الأغذية بالنسبة للصغار والكبار معاً”.
إنكار وتأكيد
واستهجن المتحدث باسم المنسقية، إنكار السلطات لوجود مجاعة بالمعسكر، مبيناً أن “تقرير لجنة خبراء الأمم المتحدة ووكالاتها حسم الأمر بتصنيف معسكر زمزم، منطقة مجاعة”، معتبراً أن “الكارثة التي تتجسد هناك تمثل وصمة عار لمدعي الإنسانية”، ومناشداً منظمة ‘أطباء بلا حدود’ بمراجعة قرارها مغادرة المعسكر.
وكشف رجال عن أن معسكرات النازحين بدارفور تشهد وفيات بمتوسط 20 إلى 25 حالة وفاة في اليوم الواحد، من بينهم أطفال ونساء حوامل وأمهات وعجزة ومسنون وذوو احتياجات خاصة، بسبب سوء التغذية الحاد وشح الغذاء وانعدام الدواء والعلاج، بينما لم يصلهم إلا قدر قليل جداً من المساعدات وفي حالات نادرة، منذ اندلاع الحرب الراهنة.
موت متزايد
في السياق، أوضح الناشط في المجال الإنساني حسين جار النبي، أن “محاولات إنكار السلطات الرسمية للمجاعة في معسكر زمزم ودارفور لا يعدو كونه تنصلاً من مسؤوليتها تجاه أولئك الأطفال، إذ إن كل المؤشرات الميدانية والتقارير الموثقة تؤكد أن الوضع الغذائي بالمعسكر بات غير محتمل بالنسبة للكبار والصغار معاً، لدرجة أن الناس بدأوا يأكلون العشب وعلف الحيوانات ويطعمون الصغار ورق الأشجار المغلي بالماء كحساء لإبقائهم على قيد الحياة”.
وتابع، “بتوقف عمل المنظمات العاملة ومغادرتها للمعسكر تتصاعد بشدة مستويات سوء التغذية الحاد، وبدأ الجوع يفتك بالأطفال بشكل مرعب يدعو إلى الأسى والحزن، ويموتون بأعداد متزايدة في ظل غياب تام للرعاية الصحية وعدم توافر الوجبات الغذائية”.
زحف الجوع
ودعا جار النبي، طرفي الحرب “إلى التعاطي مع حقيقة أن عشرات الأطفال يموتون فعلاً ويواجه كثيرون آخرون خطر الموت بالمرض والجوع ما لم تتم إجراءات عاجلة لتدارك هذا الوضع غير الأخلاقي لإنقاذ ما تبقى من أطفال معسكر زمزم ومعسكرات أخرى تعاني من الواقع نفسه ومن المحتمل تكرار نفس المأساة فيها”.
واتهم الناشط الإنساني طرفي القتال “بالحيلولة دون وصول المساعدات الإنسانية المنقذة لحياة مئات الأطفال بدعاوى ومخاوف ذات طابع عسكري غير مبررة، لأن المدنيين عموماً والأطفال بخاصة ليسوا طرفاً في هذه الحرب”، لافتاً إلى أن “تلك العراقيل تعرض حياة آلاف الأطفال للخطر، بتوقفهم عن تلقي الأغذية المنقذة للحياة، بينما الشحنات المحملة بتلك الأغذية العلاجية محجوزة على مشارف الفاشر أو مليط”.
اتهامات أميركية
في وقت يعتزم بدء جولة جديدة تشمل كل من كينيا وأوغندا ومصر والسعودية جدد المبعوث الأميركي للسودان، توم بيرييلو، اتهامه للسلطات السودانية بعرقلة وصول 90 في المئة من مواد الإغاثة الطارئة الآتية لمتضرري الحرب في البلاد أو تأخرت في الوصول إليها.
وقال بيرييلو في تغريدة على حسابه بمنصة “إكس” إن “6.5 مليون شخص في السودان يحتاجون إلى الغذاء بشكل عاجل للبقاء على قيد الحياة، كما يحتاج 25 مليون آخرين إلى مساعدات إنسانية طارئة”.
وتابع، “في الشهر الماضي، لم تسمح مفوضية المساعدات الإنسانية السودانية إلا بوصول 10 في المئة فقط من الإمدادات الإنسانية في بورتسودان إلى الناس الذين هم في أمسّ الحاجة إلى الغذاء والدواء”.