لم يكن سقوط مدينة الفاشر في السودان في أواخر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، مجرد نقطة حبر عابرة في سجلّ حرب السودان القاسية، بل كانت صاعقة نزلت على أهلها، فانكشف بها ليلهم المدلهم، وأعادت طرح أسئلة الوجود الأزلية، وأعاد التاريخ على مسامعهم لحن الموت الأجش الذي يرجّ أوتار الروح كأنها قيثارة مفجوعة.
ظلت الفاشر قلعة صامدة تحدت لأشهر طويلة عاصفة من أكثر من 290 هجوما متتاليا شنتها مليشيا الدعم السريع كالأمواج المتلاطمة على صخرة شامخة، لم تكن يومئذ تقاتل دفاعا عن شبر من الأرض السودانية كأنه بقعة حلم على خارطة مأزومة، بل كانت تذود عن فكرة الدولة العظيمة، وعن هيكل السيادة الوطنية، وعن بقاء السودان جسدا واحدا يقاوم التمزق في وجه حرب لم تعد مجرد قتال في الميدان، بل أصبحت نزاعا في عمق الإنسانية.
لكن ما وراء هذا المشهد العاصف كان هناك تحول أعمق في بنية الصراع نفسه؛ فانسحاب الجيش عنها، وإن بدا خسارة موجعة على صفحة الوطن كالجرح الذي يقطر دما قانيا، فإن توابعه كانت كالزلازل التي تهد أركان الجبال، إذ أعادت صياغة المعركة ووزنها، وفتحت أبوابا مشرعة لقراءة جديدة لموازين القوى.
ورغم الخسارة فهناك في الأفق القريب تلوح إشارات كقبس من نور يبشر باستعادة المبادرة، كأنها فجر صادق ينبثق رغما عن غياهب الظلام المدلهم، ليعيد إلى الأرواح شيئا من رجاء ضائع.
تاريخيا، كانت الفاشر أكثر من مجرد عاصمة لإقليم يعادل مساحة فرنسا؛ فهي قلب دارفور السياسي والعسكري، وواحدة من أهم العقد الجغرافية في غرب السودان.
موقعها يجعلها نقطة التقاء بين الشمال والغرب والجنوب الغربي، وعلى مرمى حجر من الحدود مع تشاد وليبيا، ما يمنحها قيمة جيوسياسية استثنائية في حسابات الأمن القومي السوداني. فهي تمثل بوابة العبور بين الداخل السوداني وفضائه الإقليمي الغربي، وممرا إستراتيجيا لأي حركة عسكرية أو إمداد يأتي من الحدود.
هذا الموقع الذي جعل الفاشر تاريخيا مركزا للتجارة والتواصل الثقافي، جعلها اليوم محورا في صراع النفوذ الإقليمي. فتوتر العلاقات بين الخرطوم وتشاد من جهة، وتنامي التقارب بين مليشيا الدعم السريع وبعض الفصائل التشادية من جهة أخرى، أضفيا على المعركة بعدا إقليميا خطيرا.
كما أن وجود قوات الجنرال خليفة حفتر في الجنوب الليبي، وسيطرته على شرق البلاد لا سيما المناطق المحاذية للحدود السودانية، فتحا الباب أمام شبهات دعم لوجيستي وتسليحي مر عبر تلك المنطقة، ما جعل الفاشر هدفا مركزيا في معادلة السيطرة على الممرات الحدودية.
بهذا المعنى، لم يكن سقوط الفاشر مجرد خسارة موضعية، بل شوكة في حلق الدولة عبر حدودها الغربية. فقد مثل انكشافها الميداني تهديدا مباشرا لعمق السودان الإستراتيجي، إذ يعني أن الطريق إلى الشمال الغربي والبحر الأبيض المتوسط بات مفتوحا أمام تحالفات معقدة تجمع بين جماعات مرتزقة وعناصر إقليمية ذات أجندات متشابكة.
ومع ذلك، فإن صمود الجيش في الفاشر طوال شهور، رغم الحصار الكامل وانقطاع الإمدادات، شكل ملحمة وطنية في الدفاع عن الحدود والسيادة. لكنه كشف في الوقت نفسه هشاشة إدارة القرار السياسي، وغياب التخطيط الإستراتيجي الذي يعالج تأمين الأطراف التي لا تنفصل عن بناء مركز قوي يملك الرؤية والقرار.
إذا كان الميدان قد شهد تراجعا في الفاشر، فإن الضمير العالمي شهد في المقابل لحظة نهوض مفاجئة. فالمجازر والانتهاكات التي رافقت سقوط المدينة حولت ما بدا نصرا عسكريا لمليشيا الدعم السريع إلى هزيمة أخلاقية وإنسانية، كشفت للعالم الوجه الحقيقي للحرب في السودان.
لقد تحولت الفاشر عقب سقوطها إلى مسرح لكارثة إنسانية واسعة النطاق؛ إذ أفادت تقارير الأمم المتحدة بمقتل مئات المدنيين، بينهم نحو 460 في هجمات استهدفت مرافق طبية كمستشفى السعودي للولادة.
كما نزح أكثر من 36 ألف شخص سيرا على الأقدام نحو مناطق يعتقد أنها آمنة نسبيا في سياق أزمة نزوح تتجاوز 14 مليون شخص على مستوى السودان، مع بقاء آلاف العالقين والمفقودين. وتحدثت تقارير عن إعدامات ميدانية وفصل للعائلات عند الحواجز واغتصابات جماعية طالت أكثر من 25 امرأة وفتاة.
هذه المآسي لم تقتصر على البعد الإنساني، بل قلبت موازين الصورة السياسية والإعلامية، إذ كشفت للعالم الوجه الحقيقي للصراع، وحولت ما اعتبر نصرا عسكريا لمليشيا الدعم السريع إلى هزيمة أخلاقية ودبلوماسية، أعادت السودان إلى صدارة الاهتمام الدولي.
خلال أيام قليلة، تصدرت الفاشر عناوين الصحف العالمية وبيانات المنظمات الدولية، لتعيد إلى الأذهان صورة الحرب بوصفها صراعا بين دولة تسعى للبقاء، ومليشيا منفلتة مدعومة من الخارج.
أصدر الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة والجامعة العربية بيانات إدانة حادة، فيما توالت تقارير الإعلام الغربي التي وثقت جرائم القتل العرقي واستهداف المدنيين والمرافق الطبية. وقد تحولت تلك الوثائق إلى مادة ضغط دولي أعادت السودان إلى واجهة الاهتمام العالمي بعد سنوات من التجاهل.
لكن الأهم أن هذه الموجة من الإدانات ترافقت مع إعادة رسم الموقف الإقليمي؛ إذ وجدت بعض العواصم الإقليمية والعالمية نفسها محرجة أمام الأدلة المتزايدة على تورط مجموعات مسلحة تنشط عبر الحدود التشادية والليبية. وبدأت ترتسم خطوط جديدة لعلاقات السودان بجيرانه، تقوم على إعادة تعريف الأمن الحدودي، وضرورة ضبط التداخل القبلي والجماعات المسلحة العابرة للحدود الذي طالما استغلته قوى إقليمية لمصالحها.
فهذه اللحظة تمثل فرصة نادرة للسودان لتوظيف الزخم الأخلاقي والدبلوماسي في تحريك الملف داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة، بعيدا عن شلل مجلس الأمن وانقساماته.
فالسودان يستطيع عبر حملة دبلوماسية ذكية أن يحول مأساة الفاشر إلى منصة سياسية كبرى، تضعه في موقع المبادر لا المتلقي، وتعيد صياغة الرواية الوطنية أمام العالم بوصفه دولة تواجه عدوانا على سيادتها وحدودها، لا صراعا أهليا داخليا.
تجربة الجيش السوداني في هذا الصراع وعبر تاريخه تقدم شواهد على قدرته على استعادة المدن الكبرى رغم الخسائر. ففي وقت سابق، استطاع إعادة الانتشار في الخرطوم واستعادة مراكز إستراتيجية حساسة رغم انهيار البنية المدنية، كما أعاد السيطرة على ولايات الجزيرة وسنار بعد معارك عنيفة عكست تطورا في أسلوب القيادة الميدانية والتكتيك القتالي.
لكن ثمة أوجه اختلاف في حالة الفاشر تجعلها تمثل تحديا جديا؛ فهناك اختلاف البيئة الميدانية والجغرافية. فالمدينة تقع في منطقة محاصرة من جميع الاتجاهات تقريبا، وبعيدة عن خطوط الإمداد البرية، كما أن تداخل القبائل والمصالح الاقتصادية والحدودية جعل المعركة فيها شديدة التعقيد.
ومع تدفق الأسلحة من الحدود الغربية، تحولت المعركة إلى اختبار للقدرة على ضبط المجال الإقليمي بقدر ما هي مواجهة داخلية. ومع ذلك، فإن سقوط المدينة لا يعني عجز الجيش، بل يكشف عن نقطة انعطاف إستراتيجية تتطلب إعادة بناء منظومة القيادة والتخطيط.
إن تجربة الجيش في استعادة مدن كبرى مثل الخرطوم ومدني، تؤكد أن المؤسسة العسكرية تمتلك من الخبرة والمرونة ما يمكنها من إعادة التموضع في أقرب وقت.
وهنا يبرز التحدي الحقيقي: الانتقال من ردود الأفعال إلى قيادة المبادرة، وتحويل الصمود الميداني إلى إستراتيجية بعيدة المدى تربط الأمن الداخلي بالأمن الحدودي والإقليمي.
لقد أدارت القيادة السودانية الحرب حتى الآن بشيء من البطء في رأي الكثيرين، بيد أن الموقف الحالي يستدعي انتقالا إلى نهج التخطيط الشامل الذي ينظر إلى المعركة كجزء من مشروع وطني طويل المدى. فالحرب ليست مجرد مواجهة عسكرية، بل هي صراع على هوية الدولة وحدود سيادتها.
في هذا السياق، يبرز الحديث عن التحالفات الخارجية كخيار ضروري لكنه محفوف بالمخاطر. فالتقارب مع تركيا أو روسيا، وإن بدا مغريا من حيث الدعم العسكري، إلا أنه لا يخلو من كلفة سياسية وإستراتيجية باهظة.
فتركيا تمتلك تجربة ناجحة في ليبيا، لكنها لم تتدخل هناك إلا بعد أن توفرت قيادة ليبية ذات رؤية واضحة وخطة تحالف محددة. فضلا عن أن لتركيا مصالح في البحر الأبيض المتوسط؛ إذ تمتلك ليبيا ساحلا بطول نحو 1800 كيلو متر من الحدود مع مصر غربا، إلى الحدود مع تونس شرقا.
ولتركيا اهتمام كبير بالموارد البحرية في شرق البحر الأبيض المتوسط، وقد وقعت اتفاقية مع ليبيا بشأن الحدود البحرية، مما يسمح لها بالمطالبة بحقوق في موارد قاع البحر في المنطقة الاقتصادية الخالصة المشتركة بينهما.
أما في السودان، فإن أي تحالف خارجي دون حسابات دقيقة قد يتحول إلى عبء على السيادة الوطنية. لا سيما أن مصالح تركيا في السودان قد تبدو أقل أهمية مقارنة بمصالحها في ليبيا.
ورغم أن هناك اتفاقية دفاع مشترك بين السودان وتركيا، فإن قراءة الواقع تظهر أن تلك الاتفاقيات، مهما كانت أهميتها الرمزية، ليست اتفاقيات تدخل تلقائي، ولا يمكن تفعيلها بقرار أحادي من طرف سوداني. فتركيا، التي تخوض حسابات دقيقة في البحر الأحمر والمنطقة، قد لا تغامر بتدخل مباشر دون قرار مؤسساتي كبير يوازن بين مصالحها وحساباتها الإقليمية.
أما روسيا، التي تسعى إلى موطئ قدم على البحر الأحمر، فهي تقدم الدعم مقابل امتيازات طويلة الأمد، ما قد يفتح الباب أمام نفوذ خارجي دائم.
بالتالي، لا يمكن للسودان أن يراهن على الخارج قبل أن يوحد الداخل. فالمعركة اليوم تحتاج إلى تحالف وطني داخلي قبل أي تحالف عسكري خارجي، وإلى مشروع سياسي جامع يترجم تضحيات الميدان إلى رؤية لبناء الدولة. التحالفات لا تصنع النصر، بل النصر يصنع التحالفات عندما يتحدث السودان بصوت واحد وبإرادة سيادية مستقلة.
الفاشر ليست مجرد مدينة سقطت، بل مرآة كشفت خللا ما. فقد قدمت مثالا نادرا على الصمود تحت الحصار، لكنها في الوقت نفسه كشفت حدود الإدارة السياسية للحرب. ومع ذلك، فإن سقوطها لا يعني نهاية الطريق، بل بداية وعي جديد بضرورة إعادة هندسة الدولة وإدارة الحرب بمنطق إستراتيجي.
إن السودان اليوم أمام مفترق طرق حاسم: إما أن يستمر في حرب استنزاف بلا أفق، أو يحول دروس الفاشر إلى مشروع وطني للتماسك وإعادة البناء، يقوم على وحدة الصف، والقرار المستقل، والعقل السياسي الواعي.
حين تسقط مدينة يمكن أن تنهض وتعود مرة أخرى، لكن حين تسقط الإرادة يسقط الوطن بأسره. لذلك فإن الرهان الحقيقي ليس على استعادة الفاشر فحسب، بل على استعادة الوعي السياسي الذي يدير الحرب بعقل الدولة لا بغريزة البقاء.
فالفاشر، في سقوطها، أطلقت شرارة جديدة لإعادة تعريف المعركة: من معركة مواقع إلى معركة مصير، ومن جغرافيا القتال إلى جغرافيا السيادة والكرامة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
المصدر:
الجزيرة