في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
بعد 14 عاما من النزوح والتهجير، تدخل سوريا مرحلة جديدة مع تزايد حركة العودة الطوعية للاجئين والنازحين إلى وطنهم. وفق الأمم المتحدة، عاد نحو 850 ألف لاجئ سوري إلى ديارهم منذ سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، مع توقع أن يرتفع العدد إلى مليون قريبًا.
وفي الداخل، عاد نحو 1.7 مليون شخص إلى مجتمعاتهم المحلية، وسط مشهد يعكس إرادة السوريين للعودة إلى حياة طبيعية بعد سنوات طويلة من الغياب.
إلا أن هذه العودة الطوعية تفتح ملفات صعبة ومعقدة على المستويات الأمنية والمعيشية والسياسية، تجعل من هذا الفصل الجديد في تاريخ سوريا اختبارا حقيقيًا لقدرتها على تحويل العودة إلى مسار مستدام يرسخ الاستقرار.
أرقام اللاجئين والنازحين.. حجم التحدي
تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن الصراع في سوريا دفع أكثر من 5 ملايين سوري إلى مغادرة البلاد، معظمهم إلى الدول المجاورة.
لبنان كان من أبرز الوجهات، حيث عاد أكثر من 200 ألف لاجئ هذا العام، وهو ما يمثل مؤشرا على تحولات في العلاقات السورية اللبنانية.
ومن بين هؤلاء، قسم كبير غير مسجل رسميا، مما يرفع تقديرات عدد العائدين الفعليين إلى أكثر من 850 ألفا، وربما يصل العدد إلى مليون شخص قريبا.
على صعيد النازحين داخليا، عاد نحو 1.7 مليون شخص إلى مجتمعاتهم المحلية، لكن التحديات هنا مختلفة، حيث ترتبط بالقدرة على إعادة بناء البنية التحتية والخدمات الأساسية في مناطق دمرتها الحرب، من كهرباء ووقود وخدمات اجتماعية، إضافة إلى تهيئة الظروف لإعادة الاندماج الاجتماعي والاقتصادي.
الأمن والعدالة.. ملفات شائكة
أوضح محلل شؤون السورية في سكاي نيوز عربية، علي جمالو، خلال حديثه لـ"التاسعة" أن جزءًا كبيرًا من السوريين الذين سجنوا في لبنان كانوا محتجزين لأسباب سياسية، خاصة أولئك الذين اختاروا المعارضة للنظام السابق أو انتموا إلى تيارات إسلامية.
وأضاف أن هذه الملفات تحتاج إلى شجاعة وجرأة لحلها، سواء عبر إحالة المحتجزين إلى القضاء أو إطلاق سراحهم، ومن ثم معالجة ملفات المفقودين اللبنانيين في السجون السورية.
العلاقات السورية اللبنانية معقدة للغاية، وفق جمالو، وتشمل ملفات ترسيم الحدود، ملف اللاجئين، وقضية المفقودين. هذا التعقيد يعكس تاريخًا طويلًا من النزاعات والتداخلات السياسية، ويجعل أي مقاربة لحل هذه الملفات بحاجة إلى تفاهم سياسي مشترك يقوم على الاحترام المتبادل.
البنية التحتية والعبء الاقتصادي
بينما يعبر اللاجئون عن إرادتهم للعودة، يبقى التحدي الأكبر أمام الحكومة السورية يتعلق بتوفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية، وسط وضع اقتصادي هش وبنية تحتية متضررة.
يشير جمالو إلى أن الحكومة تواجه مهمة صعبة تتعلق بتأمين المستلزمات الأساسية، من الطاقة الكهربائية والنفط إلى الخبز والخدمات العامة، إضافة إلى الحاجة لإدارة الملفات الأمنية للوافدين الجدد، بما في ذلك مراجعة سجلاتهم الأمنية وضمان عدم وجود سجل جنائي قد يمنع مغادرتهم.
كما أضاف المحلل أن بعض اللاجئين قد يواجهون مشاكل تتعلق بوسائل النقل، حيث سجلت حالات تلفة متعمدة لسيارات ومركبات العائدين، مما يعكس تحديًا آخر أمام تأمين العودة السلسة.
البعد النفسي والاجتماعي.. إرادة العودة
على الرغم من صعوبة الظروف، تظهر إرادة قوية لدى السوريين للعودة إلى بيوتهم. جمالو أوضح أن كلمة مشتركة بين العائدين هي: "سنعود إلى بيوتنا ولو بشمعة وزجاجة ماء". هذه الرغبة تعكس حجم المعاناة التي عاشها اللاجئون خلال سنوات الغربة، سواء في تركيا، لبنان، الأردن، العراق أو حتى أوروبا، حيث تعرض العديد منهم لظروف معيشية صعبة.
وفي الوقت نفسه، هناك تحديات اجتماعية تتعلق بقبول المجتمعات المحلية للعائدين، وإعادة إدماجهم اقتصاديا واجتماعيا في مناطق دمرتها الحرب، مع ضرورة معالجة الملفات الأمنية والعدلية المرتبطة بالعودة.
ملف اللاجئين السوريين في لبنان
عودة اللاجئين من لبنان تحمل دلالات سياسية إضافية، حيث تشير إلى إعادة فتح فصل جديد في العلاقات بين البلدين، مع تشكيل لجنتين مشتركتين لتحديد مصير نحو ألفي سجين سوري محتجزين في السجون اللبنانية، وتسوية ملفات المفقودين اللبنانيين في سوريا.
هذه الخطوة تعكس استعدادا لبناء جسر تفاهم جديد، لكنها تحتاج إلى إرادة سياسية عالية وحساسية تجاه الملفات التاريخية.
ملفات المفقودين.. جروح قديمة
تظل قضية المفقودين من أعمق الجروح في العلاقات السورية اللبنانية. جمالو أشار إلى أن هذه القضية تعود إلى نحو نصف قرن، منذ دخول سوريا إلى لبنان، وأن هناك روايات ومزاعم حول مصير بعض المفقودين، سواء لدى الأطراف اللبنانية أو السورية.
معالجة هذه الملفات تتطلب شفافية كاملة، وإطارًا قانونيًا وسياسيًا يضمن تحديد مصير كل شخص مفقود دون تأخير أو تلاعب سياسي.
التحديات الداخلية.. مراجعات أمنية واسعة
وفقًا للمحلل، هناك نحو 8.6 مليون سوري لديهم مراجعات أمنية، في حين جرى شطب نحو 5 ملايين منهم من القوائم بشكل متتابع، ما يخلق حالة من القلق لدى العائدين بشأن ملفاتهم الأمنية، خصوصا إذا كان لديهم سجل جنائي قد يمنعهم من التحرك بحرية.
هذه المراجعات الأمنية الضخمة تعكس حجم التعقيدات التي تواجه الدولة في إدارة عودة اللاجئين، وتستدعي تنسيقًا دقيقًا بين الأجهزة الحكومية لضمان عملية عادلة وشفافة.
عودة اللاجئين السوريين إلى وطنهم تمثل مرحلة جديدة في تاريخ سوريا، لكنها تحمل معها ملفات صعبة ومعقدة على المستويات الأمنية، الاجتماعية، والسياسية. الأرقام الرسمية تعكس حجم التحديات، في حين تظهر إرادة السوريين للعودة إلى بيوتهم رغبة صادقة في استعادة حياتهم الطبيعية. النجاح في إدارة هذه المرحلة يتطلب شجاعة سياسية، تعاونًا دوليًا، وإرادة قوية لبناء مسار مستدام يعيد سوريا إلى حياة طبيعية مستقرة بعد سنوات من النزوح والتهجير.