طُوبَى لِعَيْنَيْكَ يَا أَنَسَ الشَّرِيفِ،
فَأَنْتَ مَنْ أَبْصَرَ، وَأَرَدْتَنَا أَنْ نُبْصِرَ
غَزَّةَ،
مَدِينَةَ البَحْرِ وَالشَّهَادَةِ،
مُحَاصَرَةً، مُنْتَهَكَةً،
تَطْعَنُهَا خَنَاجِرُ الكُرْهِ،
وَهَذَيَانُ السُّلْطُة
لَدَى مَنْ لَا يَعْرِفُونَ الرَّحْمَةَ.
أَبْصَرْتَ، وَأَرَدْتَنَا أَنْ نُبْصِرَ
أَطْرَافًا صَغِيرَةً تُبْتَرُ،
أَطْفَالًا تَحْتَ مِبْضَعِ الجَرَّاحِ بِلَا بَنْجٍ،
يَرْتَجِفُونَ، هَائِمُونَ، مُجَوَّعُونَ،
يَبْحَثُونَ عَنِ الحَلِيبِ وَالخُبْزِ،
شُرُودًا بَيْنَ خِيَامِ اللَّاجِئِينَ الهَشَّةِ،
وَحِيدُونَ فِي مُوَاجَهَةِ المَوْجِ.
لَكِنّ أورُوبَّا العَمْيَاءَ لَم تُبْصِر،
أَهْلُهَا يسكنون الضياع،
وَفِي قَلْبِهَا أُطْفِئَتِ البَصِيرَةُ.
أَبْصَرْتَ، وَأَرَدْتَنَا أَنْ نُبْصِرَ
كَيْفَ يَنْتَصِرُ شَعْبٌ حَزِينٌ وَأَبِيٌّ لِكَرَامَتِهِ،
أَبْصَرْتَ، وَأَرَدْتَنَا أَنْ نُبْصِرَ
كَيْفَ يَبْزُغُ فَجْرٌ جَدِيدٌ عَلَى غَزَّةَ،
وَكَيْفَ تُحَلِّقُ الحَمَائِمُ فَوْقَ الدَّبَّابَة،
لِيُولَدَ يَوْمُ الحُرِّيَّةِ.
طُوبَى لِعَيْنَيْكَ، يَا أَنَسَ الشَّرِيفِ،
لِرُوحِكَ الطَّاهِرَةِ،
لِرَاحَتِكَ فِي جَنَّاتِ وَرْدٍ
عِنْدَ رَبٍّ رَؤُوفٍ رَحِيمٍ.
طُوبَى لِقَلْبِكَ الشُّجَاعِ،
فَمَنْ يُحِبُّ لَا يَمُوتُ،
هُوَ حَيٌّ، يَبْقَى.
لَكِنّ أُورُوبَّا العَمْيَاءَ لَم تُبْصِر،
أَهْلُهَا يَسْكُنُونَ الضّيَاعَ،
وَفِي قَلْبِهَا أُطْفِئَتِ البَصِيرَةُ.
بهذه الكلمات المؤثرة يراسلني الشاعر الإيطالي الكبير جوزيبي كونتي، في أواخر شهر أغسطس/آب الماضي "ما يدور في غزة من أهوال لا يستوعبه عقل، شعور التمرد والغضب استقر في نفسي، لتأتي أخبار جرائم القتل المنهجية للصحفيين وتدفعني لكتابة هذه القصيدة. (هل بلغ عددهم 245 حتى الآن؟ّ هذا عدد مهول).. هذه القصيدة تحية صغيرة ومتواضعة لروح أنس الشريف".
أفتح الملف المرفق بالرسالة، وأجد "عينا أنس الشريف"، قصيدة عذبة، تحمل مشاعر حزن وفخر في آنٍ، تمزج بين اللغة الصحفية وبلاغة النصوص الدينية، مما يمنح القصيدة نفَسا صوفيا، روحانيا، وهي الخصائص التي عُرف بها الشاعر الذي يُعد واحدا من أهم أعمدة الشعر الإيطالي المعاصر، والمعروف بأسلوبه الشعري الذي يجمع بين الرومانسية والالتزام بالقضايا الإنسانية، وتعكس خصوصيات شعره المعروف بارتباطه بما هو مقدّس، كوني، إنساني، وصوفي الطابع، إلى جانب استحضاره القوي لقيم الرحمة والتضحية والبحث عن النور وسط الظلام. وتكون بذلك "عينا أنس الشريف" قصيدة جوزيبي كونتي (مواليد 1945) تكريما شعريا لجميع الصحفيين الذين اغتيلوا أثناء حرب الإبادة على غزة.
أستأذنُ الشاعر في ترجمة القصيدة ونشرها على موقع الجزيرة نت مباشرة بعد عودتي إلى إيطاليا، وأخبره أن أثرها كان كبيرا عليّ وأنا أقرأها تحديدا من الجزائر، "عينا أنس الشرف" تحمل رؤية مشرقة للتحرر من الاستعمار، أكتب له. ليرد هو بتأثر، ويخبرني أنه لا يزال يذكر زيارته للجزائر ويعرف مكانة الثورة التحرّرية لدى الجزائريين، ويكلمني بمحبة عن الصداقة التي يحملها في قلبه لكل الشعوب العربية وشعوره بالامتنان للثقافة العربية، وهو الشاعر والروائي المترجَم والمكرّم في مصر والعراق وسوريا والمغرب.
وتأتي قصيدة جوزيبي كونتي (المكتوبة بالإيطالية والتي تنشر هنا لأول مرة بالترجمة العربية) لتعبّر عن تضامن الشاعر مع الشعب الفلسطيني، وتنتقد عمى الغرب وتحديدا أوروبا، تجاه مأساته، مع لمسة أمل ويقين راسخ بتحقيق الحرية والسلام والكرامة. وتتخذ القصيدة المهداة إلى أنس الشريف، مراسل الجزيرة الذي وثّق بصدق وشجاعة معاناة أهل غزة، نبرة رثائية لكنها تتجاوز الرثاء لتتحول إلى ترنيمة تمجيدية لشهادة صحفي شجاع وحر، عبر الاحتفاء بعينيه رمزيا بوصفهما شاهدتان على الحقيقة.
ويبني الشاعر قصيدته على فكرة "الإبصار والبصيرة" كرمز للشهادة والإدراك، ويأخذ فعل الإبصار والرؤية شكلا أخلاقيا ووجوديا. إذ يبدأ الشاعر بمباركة عيني أنس الشريف، الذي "أبصر وأرادنا أن نبصر"، مما يجعله وسيطا بين المأساة في غزة والعالم الخارجي، وتصبح عيناه بوابة للحقيقة والرؤية الأخلاقية.
افتتاح الشاعر القصيدة بمباركة عيني أنس الشريف، كأنه في صلاة، يَظهر في بداية النص ونهايته، إذ ترمز العينان هنا إلى الوعي الأخلاقي الأشبه بالبصيرة النبوية، فأنس هو من يرى لكي نرى، وبالتالي يشارك الرؤية مع العالم الأعمى. والرؤية هنا ليست مشاهدة سلبية، بل إرادة لفضح الظلم، ومشاركة الألم، والتوثيق النبيل. ليشارك الشاعر بدوره المشاهد المنقولة عبر عيني أنس مع قارئه: أَطْرَافًا صَغِيرَةً تُبْتَرُ/أَطْفَالًا تَحْتَ مِبْضَعِ الجَرَّاحِ بِلَا بَنْجٍ.. بلغة مباشرة ومؤلمة، لا زخرفة فيها ولا استعارات، بل هي توثيقٌ صادق وشاعري في آن. فنحن هنا أمام حقيقة عارية، ينقلها أنس من خلال عينيه، ويعيد الشاعر نقلها إلينا كما هي.
وتأتي بعدها الصرخة السياسية بإدانة أوروبا التي عميت عن هذه المشاهد وما يصلها يوميا من صور مرعبة، وهي الإدانة التي تعود مرتين في النص، وتعكس أحد أهم ثيمات جوزيبي كونتي، وهي نقد الحضارة الغربية المنفصلة عن القيم الروحية. فالعمى هنا ليس عضويا، بل هو انطفاء للبصيرة، حيث يصف الشاعر أوروبا بالبلاد "العمياء"، وأهلها بـ"الشعب الضائع"، فهي لا ترى لأن عينيها أُغلقتا بالأنانية والنسيان، وهي بذلك فقدت بوصلتها الأخلاقية.
ولكن في مقابل الظلم ولامبالاة العالم تبقى غزة مشبعة بالكرامة، وتظهر في النص صور الإباء والأمل لدى الشعب الفلسطيني الذي يراه الشاعر "شعبا حزينا ولكنه أبيّ" يعرف كيف ينتصر لكرامته. وينتهي بيقين في "بزوغ فجر جديد" حيث تُحَلِّقُ الحَمَائِمُ فَوْقَ الدَّبَّابَة/لِيُولَدَ يَوْمُ الحُرِّيَّةِ. وهذه صورة شعرية قوية تنتمي إلى عالم كونتي ورموزه حيث يظهر المشهد وكأنه نبوي، رؤيوي، يعكس الإيمان بتجاوز الظلم والدمار نحو التحرر ودحر الاستعمار.
ويختم الشاعر بمباركة روح أنس الشريف وقلبه الشجاع، مشيرا إلى خلود الشهداء والمحبين. وهنا يظهر بوضوح تأثر كونتي بروحانيات الشرق والإسلام الصوفي، فالله يُذكر في هذا النص بأسمائه الحسنى (الرحيم، الرؤوف)، وتُرسم صورة جنة وردية شاعرية كما هي في المخيال الاسلامي، تليق بشهيد نوراني.
وهكذا نجد أنفسنا أمام قصيدة تحمل طابعا وجدانيا قويا، وتفيض بالتقدير والتمجيد لشهيد وثّق فظائع العدوان على غزة، وأيقظ الضمائر من خلال رؤيته النافذة. وقد جسّد الشاعر هذه النظرة من خلال الشكل الفني الذي اعتمده في القصيدة التي تنتمي إلى الشعر الحر، وهي بذلك لا تلتزم بقافية منتظمة أو إيقاع متري صارم، مما يعكس فوضى المشاهد والعاجلية في نقل الصورة. ومع ذلك، يحتوي النص على عناصر فنية تعزز التأثير العاطفي.
فرغم كوننا حيال شعر حر، فإننا نلمس إيقاعا داخليا من خلال التدفق الطبيعي للجمال، والاستخدام المكثف للأصوات المتشابهة، والذي نُقل بالترجمة في مواضع مختلفة مع محاولة الحفاظ على ذات الوقع، حيث تتكرر الأصوات الساكنة لتعزيز الشعور بالعنف. كما اعتمد الشاعر لغة بسيطة، غير معقدة، ليكون وقعها مباشرا كما هو حال مفردات الصحافة، مع مزيج من الكلمات اليومية والشعرية. وقد ربط التكرار الفني بين المقاطع الشعرية التي قُسمت بحسب المشهد أو الشعور المطروح حيث حمل كل مقطع فكرة محددة وأتت هذه الأداة الفنية لتعطي النص شكلا دائريا ويمنح القصيدة وحدة عضوية.
التكرار الذي تم توظيفه للتأكيد والحفاظ على الإيقاع العاطفي، نجده في "أبصرت وأردتنا أن نبصر" وهو بيت تكرر ثلاث مرات، بنى تراكما في الربط بين رؤية الفرد والوعي الجماعي. كما أن تكرار البيت الختامي عن "أوروبا العمياء" التي لم تبصر، مرتين، يعزز الاتهام ويجعله يتردد في ذهن القارئ كصدى. وهكذا نجد أن النص بالرغم من أنه ينتمي إلى الشعر الحر فثمة موسيقى داخلية تكتنفه ولّدتها خيارات فنية منحت النص توازنا صوتيا وإيقاعا داخليا هادئا جعله أشبه بصلاة.
قدرة الشاعر على المزج بين اللغة الصحفية السهلة والخطاب الروحاني الفخم والتنقل الانسيابي بينهما، يظهر أيضا في الصور الشعرية. إذ أتت القصيدة غنية بالصور البصرية والحسية مما يجعل المأساة ملموسة، مثل صور أطراف الأطفال المبتورة، والمخيمات الهشة، التي ترمز إلى زوال الحياة وفنائها، كل ذلك مقابل جنات الورد التي تستلهم من التراث الديني وتستحضر الجنة الإسلامية، والنعيم في الحياة الأبدية. توظيف التناقضات في النص يظهر أيضا في الرموز والاستعارات، وأبرزها "العينان" اللتان تمثلان رمزا مركزيا للنور والحقيقة، مقابل "العمى" المنسوب لأوروبا الذي يمثل الجهل المتعمد والضلال.
وحتى النبرة الرثائية للقصيدة أتت ممزوجة بالتسامي، يحفها حزن عميق، لكن دون يأس، بل بإيمان صادق بطلوع فجر للحرية. وأتى المزج بين المقدّس والإنساني، في الانتقال من المعاناة اليومية (الألم، التجويع ، بتر الأعضاء..) إلى الصور النورانية (العينان، الجنة، الله، الحرية) لتكريس قصيدة "عينا أنس الشريف" كعمل شعري يجمع بين المقدّس والإنساني في آن، ويعكس التزام جوزيبي كونتي بما هو أبعد من الجماليات الشعرية، أي: بالحق، الذاكرة، البصيرة، والكرامة. فالشاعر لا يرثي فقط، بل يمنح الشهادة معنى شعريا خالدا، ويعترف بأنس الشريف شاهدا وشهيدا، في مواجهة الظلم، وصمت العالم، وبشاعة الإبادة.