في زيارة تحمل رسائل استراتيجية واضحة، أعاد ملف الطاقة تصدّر مشهد العلاقات السعودية – الأمريكية، ليعكس حجم التحول الجاري في طبيعة الشراكة بين البلدين، واتجاهها نحو بناء منظومة طاقية جديدة تتجاوز حدود التعاون التقليدي.
فعلى الرغم من الإرث الطويل الذي يجمع الرياض وواشنطن في مجالات النفط والوقود الأحفوري، إلا أن زيارة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، للولايات المتحدة، تكشف عن انتقال هذه الشراكة من إطارها القديم إلى نموذج أكثر شمولاً يواكب التغيرات الحادة التي تشهدها أسواق الطاقة العالمية.
فلم تعد العلاقة الطاقية بين البلدين محصورة في إنتاج النفط واستقراره، بل تمتد اليوم إلى بناء “سلسلة قيمة متكاملة” تشمل البترول والغاز، والبتروكيماويات، وإدارة الكربون، والهيدروجين، والطاقة المتجددة والنووية. وهذا التحول يعكس إدراك الجانبين أن أمن الطاقة لم يعد مرتبطاً بالإنتاج وحده، بل بالتقنية والتنوع والابتكار.
ويمثل توقيع 34 مذكرة تفاهم واتفاقية بين أرامكو وشركات أمريكية بقيمة تقترب من 90 مليار دولار، نقطة انعطاف مهمة، فالاتفاقيات لا تركز فقط على زيادة الإنتاج أو التوسعات الصناعية، بل تنقل الشركة نحو مرحلة أعمق من الاستثمار التقني والابتكار الصناعي، ما يشير إلى رغبة المملكة في تحويل قطاع الطاقة من مصدر دخل إلى منصة صناعية وتقنية عالمية.
وشملت المباحثات التعاون في المفاعلات الكبيرة المتقدمة والمفاعلات المعيارية الصغيرة، وهو تطور لافت يضع السعودية في مسار إنشاء منظومة نووية مدنية متقدّمة ذات معايير أمنية عالية. كما أن إدراج الذكاء الاصطناعي ضمن إطار التعاون يعكس توجهاً أمريكياً–سعودياً لربط مستقبل الطاقة بالبنية الرقمية، بما يسرّع تطوير أنظمة التخزين وتوليد الكهرباء وحلول الكفاءة.
ويوضح تعزيز الاستثمارات في مصفاة “موتيفا” في تكساس، والتوسع في مشاريع الغاز الطبيعي المُسال عبر اتفاقيات تمتد لعشرين عاماً، أن المملكة لا تنظر للسوق الأمريكية كمجال تجاري فحسب، بل كساحة استراتيجية لبناء نفوذ طاقي طويل المدى وتنوع مصادر الدخل وتعزيز الحضور الصناعي.
وعلى امتداد عقود، شكّل التعاون السعودي–الأمريكي أكثر من 54 اتفاقية في البترول والغاز والبتروكيماويات. لكن زيارة ولي العهد تُظهر أن المرحلة المقبلة تتجه نحو الطاقة النظيفة والهيدروجين وكفاءة الاستهلاك، بما يتناغم مع رؤية 2030 ويتوافق مع التحولات العالمية نحو اقتصاد منخفض الانبعاثات.
من هنا، فإن الزيارة لا تأتي لإعادة تدوير الشراكة القديمة، بل لإعادة تعريفها، فما يجري هو انتقال مدروس من علاقة مبنية على النفط إلى علاقة مبنية على “مستقبل الطاقة”، حيث تتداخل التقنية والذكاء الاصطناعي والهيدروجين والنووي في مشهد واحد.
بهذا المعنى، تمثّل الزيارة إعلاناً صريحاً بأن المملكة والولايات المتحدة تتجهان إلى بناء منظومة طاقية عالمية تؤثر في الأسواق وتدعم الابتكار، وتمنح البلدين موقعاً متقدماً في إدارة التحوّل العالمي نحو الطاقة المستدامة.
المصدر:
سبق