في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
مثّلت عودة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى سدة السلطة السياسية في بلاده بداية عاصفة تجارية لم تكد تنجو من تداعياتها أي من الاقتصادات العالمية، في حين كان لها وقع خاص على الأسواق الكندية التي عاشت "شهر عسل" امتد عقودا طويلة مع الجارة الجنوبية، أفاقت منه على مشهد جديد بشكل كامل.
وفي ظل تصاعد الضغوط الاقتصادية الأميركية، وجدت أوتاوا نفسها أمام حتمية إستراتيجية للبحث عن أسواق وشراكات جديدة وإعادة رسم خريطتها الاقتصادية العالمية التي تبرز فيها أفريقيا بكل ما توفره من فرص كجزء من الحل للمأزق الاقتصادي ل كندا .
كان من الملاحظ صدور إستراتيجية كندية جديدة تجاه أفريقيا في مارس/آذار الماضي مع تزايد حالة اللايقين الناتجة عن سياسات الرئيس الأميركي.
View this post on Instagram
لطالما كانت الولايات المتحدة أبرز الشركاء التجاريين لكندا؛ إذ تميزت العلاقة بين البلدين في هذا القطاع بدرجة عالية جدا من التكامل والترابط الذي نما عبر العقود، وهو ما أدى إلى حالة من الحساسية العالية لاقتصاد أوتاوا حيال أي تطورات مرتبطة بديناميات السوق الأميركية وسياسات واشنطن حيالها.
وبلغة الأرقام، تشير ورقة بحثية ضمن "مكتبة البرلمان الكندي" إلى بلوغ حجم التجارة الثنائية في السلع بين الطرفين عام 2023 نحو 968.4 مليار دولار كندي، مثلت قيمة الصادرات الكندية منها 594.8 مليار دولار كندي، بفائض تجاري كبير لأوتاوا بلغت قيمته 221.1 مليار دولار كندي.
في حين استحوذت واشنطن وحدها على 77.4% من إجمالي الصادرات الكندية و49.5% من إجمالي الواردات الكندية في عام 2023، وهذا يؤكد موقعها المهيمن كأكبر شريك تجاري لكندا في التبادل التجاري.
هذه الأرقام نجد نظيراتها في قطاعات أخرى كالخدمات والاستثمار المباشر، إذ كانت كندا والولايات المتحدة أكبر وجهة أجنبية للاستثمارات المباشرة للأخرى عام 2023، فبلغ إجمالي مخزون الاستثمار الأجنبي المباشر الكندي في الولايات المتحدة 1.1 تريليون دولار كندي، والأميركي في كندا 618.2 مليار دولار كندي.
وقد مثّل انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب بداية لمرحلة جديدة في العلاقة مع أوتاوا تميزت بسياسات حمائية وفرض تعريفات جمركية متبادلة، شملت قطاعات كندية تمتد من منتجات الصلب والألومينيوم (50%) إلى السيارات والشاحنات الخفيفة وقطع الغيار (25%) ومنتجات الطاقة والبوتاس (10%).
وتركت هذه السياسات الأميركية الحمائية آثارها على اقتصاد جارتها الشمالية؛ إذ سجلت كندا في أبريل/نيسان أكبر عجز تجاري شهري لها على الإطلاق، كما انخفضت الصادرات من الولايات المتحدة بنسبة 10 نقاط مئوية بين مايو/أيار 2024 ومايو/أيار 2025، في حين تعاني القطاعات الكندية الحساسة للتجارة التي تمثل نحو ثلث الناتج القومي من ضعف الأداء؛ إذ يندرج تحتها قطاعات كالتصنيع والطاقة والزراعة.
أمام هذه الضغوط، لا تبدو معزولةً الدعوةُ التي تنادي بضرورة البحث عن أسواق بديلة، إذ يوضح تحليل منشور على منصة "إنفستنغ" أنه بحسب بيانات حكومية جديدة، تبحث الشركات الكندية عن أسواق بديلة إضافية لتقليل اعتمادها على الاقتصاد الأميركي.
وفي هذا السياق، تطالب السيناتورة عن مقاطعة كيبيك، أمينة جربا بالخروج من هذا "الوضع الهش" عبر الاستلهام من دول مجموعة السبع مثل اليابان وإيطاليا، التي ساعدت شركاتها بشكل استباقي على الاستفادة من الفرص الهائلة المتاحة في الأسواق الأفريقية الناشئة.
وعبر مقالها المنشور على موقع البرلمان الكندي، تلقي جربا الضوء على العديد من المميزات التي تتمتع بها أفريقيا من قبيل أن تطبيق منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية سينشئ سوقا موحدة تضم 54 دولة وأكثر من 1.3 مليار نسمة ومن المتوقع أن يصل إلى 2.4 مليار نسمة خلال 20 عاما، إذ ستعزز هذه الاتفاقية التجارة البينية الأفريقية، والقدرة التنافسية للفاعلين الاقتصاديين في أفريقيا، وتزيد الاستثمار الأجنبي المباشر.
وتحت عنوان "لماذا أفريقيا؟ بناء الروابط الاقتصادية بين كندا وأسرع قارات العالم نموا"، يشرح تحليل مطول أجرته سيورياك للاستشارات بالتعاون مع مجلس الأعمال الكندي المعنى الاقتصادي لهذه الزيادة السكانية، إذ إنه بحلول 2030 سيُصبح 212 مليون أفريقي من دول جنوب الصحراء جزءا من الطبقة المتوسطة، بزيادة 86% عن عام 2015، كما أن المتوقع نمو استهلاك الأسر من 1.4 تريليون دولار أميركي في 2015 إلى تريليوني دولار في 2025.
كما يتوقع التحليل المنشور عام 2020 أنه بحلول عام 2045 سيكون عدد سكان أفريقيا الحضريين أكبر من الصين أو الهند، ما سيجعل المستهلكين الأفارقة أكثر ارتباطا بالسوق العالمية، في حين يوضح بعض الاقتصاديين أن هذا النمو سيرافقه إمكانات استثمار في قطاعات مختلفة ناشئة كالنقل والخدمات اللوجيستية والعقارات والاتصالات والتعليم والتكنولوجيا الزراعية.
وإن كان التحليل السابق يتحدث عن تواريخ بعيدة نسبيا فإن البيانات المنشورة على "وان داتا" توضح أنه نتيجة ضعف الوجود التجاري الكندي في أفريقيا تفقد الشركات الكندية حاليا 1.7 مليار دولار كندي من عائدات التصدير المحتملة، مع احتمال تزايد هذه الفجوة إلى 2.7 مليار دولار كندي بحلول عام 2030 ما لم تُبذل جهود حثيثة لمعالجتها.
ويطرح التحليل المذكور نماذج لمنتجات وقطاعات تملك كندا فيها ميزات تنافسية عالية، فإثيوبيا هي ثالث أكبر مستهلك للبازلاء في العالم وتأتي كندا ضمن أكبر منتجيها عالميا، كما أن من المتوقع أن يشهد استهلاك الأرز زيادة ملحوظة في دول كمدغشقر (+36.3%)، ونيجيريا (+32.6%)، ومصر (+16.7%) خلال العقد المقبل، وهو يتيح لكندا إمكانية تنويع صادراتها من الأرز بعيدا عن الولايات المتحدة.
وإن ابتعدنا عن قطاع الزراعة، فإن التقديرات تشير إلى تجاوز استهلاك أفريقيا من البلاستيك والمطاط ما تستهلكه أميركا الشمالية وأوروبا بحلول عام 2035، مما يُتيح فرصة سانحة للمصدرين الكنديين. إضافةً إلى ذلك يُمكن لكندا دعم أفريقيا في إدارة النفايات البلاستيكية، نظرا لريادتها الدولية في هذا القطاع.
هذا التوسع الاستهلاكي الذي يفتح شهية الشركات الكبرى للتوجه نحو أفريقيا ليس وحده الدافع لوضعها تحت المجهر الكندي، إذ تبين بعض التحليلات أن القارة السمراء قد توفر بديلا عن المنتجات الأميركية في ظل الرسوم الجمركية المتبادلة مع الولايات المتحدة، وكذلك سعي المستهلكين والموردين الكنديين لتجنب بضائع جارتهم الجنوبية.
وفي هذا السياق، تضرب البيانات المنشورة على "وان داتا" العديد من الأمثلة، فـ61% من واردات كندا من البن المحمص تأتي من الولايات المتحدة، على الرغم من أن حبوب البن تأتي أصلا من مناطق أخرى، منها دول أفريقية كإثيوبيا وأوغندا.
كما تعد الشوكولاتة مثالا آخر، إذ تستورد كندا 56% من إنتاجها من هذه المادة من الولايات المتحدة التي تستورد حبوب الكاكاو الخام وتعالجها، ثم تصدر المنتجات النهائية، في حين يستطيع التجار الكنديون استيراد المادة نفسها من دول كغانا وساحل العاج اللتين تمثلان 50% من إنتاج الكاكاو العالمي.
وهكذا، تستطيع كندا من خلال بناء سلاسل توريد مباشرة مع مصدري البن والكاكاو الأفريقيين، تعزيز الاستفادة من القيمة في المنشأ وتقليل الاعتماد على الوسطاء الأميركيين.
شهدت السنوات الأخيرة اهتماما كنديا متزايدا بالسوق الأفريقية، ورغم تأخر أوتاوا عن نظيراتها من دول السبع في هذا المجال فقد أظهرت الأرقام الرسمية تصاعدا كبيرا في التبادلات التجارية بين الجانبين منذ عام 2020.
فقد نمت صادرات السلع من كندا إلى أفريقيا بنسبة 13% وواردات السلع من أفريقيا بنسبة 130% بين عامي 2019-2023، في حين بلغ إجمالي تجارة السلع في عام 2024 نحو 15.1 مليار دولار، بزيادة تقارب 30% في 5 سنوات.
وعلى المستوى الرسمي، عززت كندا بشكل ملحوظ مشاركتها السياسية مع أفريقيا على مدى السنوات الخمس الماضية، وشمل ذلك حوارات رفيعة المستوى مع القادة ومفوضية الاتحاد الأفريقي ، وتعيين مبعوثين خاصين جدد، وإنشاء سفارة جديدة.
وعام 2024 بلغ عدد مفوضي التجارة الكنديين والمحليين 50 يعملون في 22 مكتبا أفريقيا، وتنحصر مهمتهم في مساعدة الشركات الكندية على تحديد الفرص في الدول الأفريقية والسعي وراءها، كما تستفيد 40 من هذه الدول من إمكانية الوصول المعفى من الرسوم الجمركية إلى السوق الكندية على السلع كلها تقريبا من خلال التعرفة الجمركية لأقل البلدان نموا.
وفي سبيل تهيئة مناخ استثماري أكثر استقرارا للقطاع الخاص الكندي، عقدت أوتاوا اتفاقيات لتعزيز وحماية الاستثمار الأجنبي مع دول، كبنين وبوركينا فاسو والكاميرون وساحل العاج ومصر ومالي.
وتعد قطاعات كالتعدين والطاقة في مقدمة المجالات التي تنشط فيها الشركات الكندية في أفريقيا، كما تمتد الاستثمارات أيضا إلى النقل وتجهيز الأغذية والضيافة وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، بجانب الاستفادة من الخبرة الكندية في التعدين المستدام والتقنيات الخضراء.
الواقع الاقتصادي الجديد مثل دافعا نحو بلورة رؤية إستراتيجية رسمية لأوتاوا فيما يخص العلاقات مع القارة السمراء تتجاوز الدور التقليدي كمانح للدعم.
فقد استثمرت كندا ما يقارب 4.5 مليارات دولار كندي في برامج المساعدات الدولية الثنائية في أفريقيا على مدى السنوات الخمس الماضية، بهدف بناء الاقتصادات الأفريقية، ودعم الصحة والتعليم، وتلبية الاحتياجات الإنسانية، وقد زادت أوتاوا المساعدات الدولية المقدمة لأفريقيا بنسبة 52% خلال السنوات الثماني الماضية.
وتجسد "إستراتيجية كندا لأفريقيا: شراكة من أجل الازدهار والأمن المشتركين" التي أطلقتها الحكومة الكندية في 6 مارس/آذار 2025 تتويجا لهذا التوجه الجديد، إذ هدفت إلى الانخراط بشكل أعمق مع القارة السمراء، من خلال تعاون اقتصادي أكبر، وشراكات سلام وأمن مُعززة، ومشاركة مُعززة لمجتمعات الشتات الأفريقي في كندا، ومساعدات دولية تدعم التنمية الاقتصادية وتوظيف الشباب.
وبالتوافق مع "أجندة 2063: أفريقيا التي نريدها" التي أعلنها الاتحاد الأفريقي، ستعمل الإستراتيجية الكندية الجديدة في 5 مجالات رئيسية تشمل:
بينما توفر أفريقيا فرصا استثمارية كبيرة لكندا، فإن الطريق نحو هذه المكاسب ليس ممهدا دوما، إذ تشير دراسة منشورة على "مجلة عمليات الأوراق المالية والحفظ" في خريف 2024، إلى الاستقرار السياسي كعامل رئيسي في اجتذاب الاستثمارات الأجنبية، إذ يضمن بيئة عمل قابلة للتنبؤ، واتساقا تنظيميا، في حين يخلق عدم الاستقرار السياسي، الذي تتصف به الكثير من الدول الأفريقية، حالة من عدم اليقين تثبط الاستثمار الأجنبي.
ويتعلق تحدٍ آخر، كما يوضح متخصص تطوير الأعمال، ستان وايتينغ، في مقال نشره على منصة "موور جنوب أفريقيا"، بضعف البنية التحتية ونقص الخبرة في قطاع الخدمات اللوجيستية، ما يعيق عمليات استيراد وتصدير السلع والمعادن الإستراتيجية المجدية اقتصاديا، واللازمة لإنشاء أسواق وبنى تحتية جديدة.
ومع تأكيد العديد من الاقتصاديين الكنديين أن بلادهم "آخر الواصلين إلى الحفلة" الأفريقية، تجد الشركات الكندية نفسها في منافسة كبيرة مع القوى العالمية الأخرى، ما يفرض عليها المزيد من الأعباء المتعلقة بتبني إستراتيجيات قوية لإدارة المخاطر والاستفادة من الدعم المتاح للتنقل في هذه البيئة التنافسية، لضمان نجاح توجهها نحو القارة.
وتعد حالة الاعتمادية المتبادلة طويلة الأمد مع الاقتصاد الأميركي عائقا من نوع مختلف أمام التوجه الكندي نحو الخارج، إذ يشير تحليل منشور على موقع "سكوشيا بنك" إلى أن تنويع تجارة السلع نحو الأسواق الخارجية سيتطلب إعادة تفكير وإعادة تشكيل البنية التحتية التجارية الحالية لكندا والتخلص من "تحيزها" نحو التجارة مع الجارة الجنوبية.
هذا النوع من التحول يتضمن استثمارا كبيرا في البنية التحتية البحرية والجوية، التي تمثل حاليا المنفذ لحصة كبيرة من الصادرات إلى دول غير الولايات المتحدة، بما يعني تحولا في احتياجات الإنفاق الرأسمالي نحو توسيع الموانئ والمطارات المهمة للتجارة مع الأسواق غير الأميركية.