في مجموعته القصصية "متنزَّه الغائبين"، يحكي لنا القاص العراقي ميثم الخزرجي عن رجل غريب الأطوار يعيش في بيت قبالة مقبرة في مدينة (أخفى الإشارات الدالة عليها لتكتسب دلالة رمزية).
وهذا الرجل كثير الصمت، ويتحاشى الكلام، ويواظب بعزم على توديع الموتى. لا ينظر إلى المقبرة كمكان موحش لستر الأجساد المتحللة، بل كمتنزه للغائبين الذين رحلوا. كان يلبس أجمل ثيابه ليكون في مقدمة المشيعين كأنه المسؤول عن استقبال كل ميت جديد، وله اهتمام خاص بشواهد القبور، يتأملها وكأنها ألواح تحمل أهم المحطات في تاريخ الميت. ثم يتفحص وجوه المشيعين المنكسرة، ويزم بين شفتيه سيجارة ويمضي تاركًا خلفه تساؤلات تنمو كالحشائش التي في المقبرة. "وفي الليل، يستبدل السكون بعزف منفرد على عود ملتاع، تدق أنغامه مسامع أبناء المدينة بصورة غريبة". يفعل هذا بانتظام وانضباط جندي.
يستهل القاص نصه بقوله "لم يكن شأنًا عابرًا أن يعدُّوه من المصابين بحمى النفس واضطرابها، بل بالعكس من ذلك كونه معتدًا بوحدته، وحريصًا على أن ينمي ذلك أملًا في ابتعاده عن عيون المدينة". بهذا الاستهلال، يدخلنا القاص إلى عالم شخصيته الغريبة، لنكون مباشرة في قلب صراع محتمل بينها وبين المجتمع، بل إننا نستشف من هذا الاستهلال علاقة متوترة -قبل زمن القص- سببها اختلاف نظرة هذه الشخصية أو دعوتها للتغيير وإعادة التفكير، وانتهت العلاقة بانعزالها عن مجتمعها وعيشها قرب المقبرة مع الموتى. ونظرته للموت ليست الشيء الوحيد الذي يختلف فيه عن الآخرين، فهو يقول عن نفسه لاحقًا "لا أتحدث عن الموت بحد ذاته، ربما الرؤى والمفاهيم بعموميتها". وإذا اختلفت الرؤى والمفاهيم، ستختلف السلوكيات أيضًا ونمط الحياة.
إن وجهة النظر في هذا الاستهلال تشير إلى راوٍ عليم يروي لنا الحكاية من الخارج بحياد ولا علاقة له بأحداثها. ومع تقدم السرد، تختفي وجهة النظر هذه لنستمع إلى الراوي نفسه من داخل القصة كأحد أفراد المدينة، مستخدمًا نون الجمع، فيقول "صرنا نتطلع بصورة حذرة دون أن نعرف الغاية". ثم يتحول إلى راصد للمرة الثانية دون أن نعرف سر هذا التبدل المربك. ويحدث هذا التبدل نفسه عندما تنقطع حكاية الرجل غريب الأطوار وتحل محلها حكاية "سباهي العظم"، ذلك الدفّان الذي يسكن في المقبرة، وكأنه هو الرجل الغامض أو النسخة الأخرى منه، فكلاهما يسكن بين الأموات ويمارس هوايته في الاهتمام بهم.
إن الشخصية الغريبة التي لم يسمها الراوي ستتكشف للقارئ شيئًا فشيئا مع تقدم الحكاية، وتبلغ ذروة الانكشاف حين يلتقيها سباهي العظم وجهًا لوجه وكأنه ينظر في مرآة، حين يقول له "أنا الصوت الذي يدعوك للسؤال". وفي حين أن الراوي في الاستهلال يخبرنا عن مدى شهرة الرجل الغامض بين أهل المدينة، يقدم لنا مشهدًا يكاد فيه سباهي العظم يجهل هذا الرجل المواظب على توديع الموتى الذين يدفنهم هو بنفسه. وتسمع كل المدينة عزفه على العود إلا جاره في المقبرة.
إنها حالة من الارتباك تذكرنا ببطل فيلم "نادي القتال" كأننا هنا أمام حالة من اضطراب الهوية التفارقي، وهو اضطراب نفسي شديد ومعقد، يتميز بوجود هويتين أو أكثر منفصلتين، وكل هوية لها نمطها المميز في الإدراك والتفكير والعلاقة مع الذات والبيئة المحيطة. وهذا ما يدفعني للقول بأن الرجل الغامض هو الذات المصادمة التي تحافظ على اختلافها وعلى وعيها بهذا الاختلاف، فهي تصف إحدى ممارساته بقولها "وهذا خلق رفيع بمستواه، يتعالى عن النظرة السائدة التي أوصدت النقاش".
أما سباهي العظم، فهو الذات المثقفة المستسلمة التي أعياها الصراع مع المجتمع، فآثرت أن تتعايش مع ما هو سائد لتكون جزءًا منه، وذلك بعد سعي المجتمع إلى تقويمها بحسب مفاهيمه السائدة. وفي القصة، نجد الصراع بين السائد والمختلف في حوار بارع بين سباهي والرجل الغامض، حيث يقول سباهي "هذا عمل قبيح وشيطاني"، فيرد عليه "وما هو دليلك؟"، يجيب سباهي "كونه شيئًا غير معمول به البتة". فالمجتمعات حجتها المفضلة هي "هذا ما وجدنا عليه آباءنا"، وفي المقابل تميل إلى شيطنة أفعال المختلف.
ومن وجهة نظر سوسيولوجية، هي تفعل ذلك لأجل الحفاظ على تماسكها واستقرارها عبر استدامة الوضع القائم من خلال السلطة الرمزية التي تهيمن عليه والتقاليد الموروثة كآليات للضبط. فالسلطة الرمزية، كما يرى بيير بورديو، تسعى لتثبيت "الدوكسا" (doxa) أو ما يُعتبر بديهيًا، وبالتالي فإن دعاة التغيير يهددون هذه البنية الرمزية التي تستفيد من الامتيازات القائمة، مما يستدعي مقاومتهم. أما العادات والتقاليد فهي ليست مجرد ممارسات، بل آليات للحفاظ على الوجدان الجمعي، وكل خروج عنها يُعد تهديدًا للوحدة الرمزية للجماعة.
وآليات الردع الاجتماعي، كما يذكر إميل دوركايم، تعمل على إعادة الأفراد المختلفين إلى روح الجماعة بكل وسيلة ممكنة، سواء كانت ترغيبًا أو ترهيبًا أو ما هو أبشع من ذلك كالقتل مثلًا. وحالة السخرية من "سباهي الآخر" ووصمه بالاضطراب النفسي ليست سوى تفعيل المجتمع لما يسمى بـ"التفوق العدائي" (Hostile Superiority) كآلية دفاعية لإخفاء الشعور بعدم الفهم أو التهديد الذي تشكله الأفكار الجديدة لاستقرار الوضع القائم، على أمل أن يتخلى المختلف عن اختلافه وينصاع للمعايير السائدة.
والمختلف كإنسان لديه الحاجة الفطرية للانتماء، وهذا الصراع بين الحاجة الداخلية للتعبير الأصيل والحاجة الخارجية للانتماء يخلق حالة من الاغتراب النفسي، حيث يشعر المبدع بأنه غريب عن أهله، وقد يشك في نفسه، مما يؤدي إلى انخفاض تقديره لذاته.
يقول الراوي عن سباهي "مأخوذًا بالشك الذي انتزع منه إرادته، معللًا الذي حدث بأنه ضرب من الوهم". وإذا استمر سباهي في تصديق أن ما يمر به مجرد أوهام، فلا شك أنه سيصدق أن حكم المجتمع عليه بالجنون حقيقة لا تقبل الجدل. وبهذا سيوافق المجتمع بمبدأ أن الكثرة تغلب الشجاعة، وسيرحب به الجميع لعودته إلى حضن الجماعة، وهذا ما حدث مع النسخة المستسلمة من "سباهي العظم".
إن "سباهي الآخر" بشخصيته التأملية ينتمي إلى طائفة المثقفين الذين يريدون أن يغيروا من تفكير مجتمعاتهم، ويحصدون من العداء بقدر إلحاحهم على التغيير. ورغم اعتراف الجميع بأن التغيير أحد أكثر الثوابت رسوخًا في الحياة، فإن ظاهرة المقاومة الاجتماعية للتغيير تكشف عن تناقض جذري؛ فبينما يُعترف بالتغيير باعتباره شرطًا للتقدم والتحرر على المستوى النظري، يُستقبل في الممارسة الواقعية بالعداء والرفض. هذا الإشكال يثير تساؤلات مركزية: لماذا تميل المجتمعات إلى مقاومة من يطرح بدائل جديدة؟ وما هو منشأ هذه المقاومة؟ ولحسن الحظ، فإن العلوم الإنسانية وعلم الأعصاب لن تتركنا نعاني في رحلة البحث عن الإجابة.
مقاومة التغيير ليست حكرًا على المجتمعات، بل تستحوذ على الأفراد أيضًا. إن الجزء المادي في الإنسان يميل إلى ما يُسمى بـ"مبدأ أقل فعل"، فالمادة لا تريد إهدار الطاقة، وتكمن صعوبة التغيير في ما يتطلبه من طاقة عظيمة، لذا نميل للاستقرار. ومن منظور علم الأعصاب، يُعتبر الدماغ حارسًا للاستقرار باعتباره مركزًا للقرارات. فالعقل البشري مبني على آلية "الترميز التنبئي" (Predictive coding)، كما يذكر كارل فريستون، أي أنه يصنع نماذج ذهنية للتوقعات.
إن العقل الجمعي أيضًا يتوقع أن يتصرف الجميع بطريقة معينة في المواقف المحددة، وأن يتبنى الجميع التصورات نفسها. ولذلك، تنشط اللوزة الدماغية (amygdala) عند مواجهة الأفكار أو الأحداث غير المألوفة، مما يثير مشاعر الخوف والرفض. وفي القصة، يقول أحدهم عن الرجل الغامض "شكّل لدينا هاجسًا غائمًا لا نستطيع فك لغزه". إنه الخوف من المجهول الذي لا يريد الناس تجربته.
يقول أحد أبناء المدينة "وهذا خير نذير لعاقبة منكسرة لا يقبلها الشك". فليس التغيير بالأمر السهل، ورغم أن "اللدونة العصبية" (Neuroplasticity) تتيح للإنسان فرصة التكيف مع الجديد، فإنها عملية بطيئة ومرهقة إدراكيًا، مما يجعل الدماغ يميل إلى المقاومة أولًا قبل التكيف. فالأمر ليس سهلًا من الناحية العصبية كما يخبرنا نورمان دويدج. إذن، فعداء المجتمعات للمختلفين ودعاة التغيير يجد جذوره في بيولوجيا الدماغ، وأنه بوصفه آلة لتقليل المفاجأة أكثر من كونه آلة للابتكار أو لتقبل الجديد.
معظمنا لديه رؤيته الخاصة للحياة ولما يجب أن تكون عليه الأمور، إلا أننا نتخلى عن فرديتنا في مقابل الامتثال للجماعة (conformity)، وهي الظاهرة التي تجعل الأفراد يفضلون التماهي مع الأغلبية حتى لو كانت مواقفها خاطئة أو جامدة.
وقد أثبتت التجارب الكلاسيكية لعالم النفس الشهير سولومون آش (Asch, 1951) وتجربة سجن ستانفورد أن ضغط الجماعة يمكن أن يدفع الأفراد لرفض المختلف حتى لو كانوا مقتنعين بصوابه. فالأمان الجماعي مفضل على المخاطرة الفردية. ويتضح لنا مما سبق أن الجماعة تعادي أفرادها المختلفين، ليعودوا إليها حتى لو صارت قلوبهم مقابر لأحلامهم. ولا عجب إن فعل سباهي ذلك.
هذه القوقعة النفسية والعصبية والاجتماعية، رغم متانتها المحصنة ضد التغيير، لم تستطع الصمود أمام أناس أصحاب عزيمة لا تُقاوم، فقد خرجوا من القوقعة ودعوا غيرهم للخروج، رغم ميلهم كأفراد لأن يكونوا مع الجماعة لإشباع حاجتهم للانتماء أو الأمان. والتاريخ البشري حافل بأناس كسروا هذه القيود وفرضوا اختلافهم.
ويتأسس هذا الخروج عن القوقعة الاجتماعية على جملة من العوامل كالقدرة على العزلة الخلاقة. ليست كل عزلة سلبية، ويشهد لهذا ممارسات مسطرة في تاريخ الفكر، من اعتكاف الفلاسفة اليونانيين إلى صوفيي الإسلام، فعزلة كتاب الحداثة. فهي إستراتيجية لمراكمة الرأسمال الرمزي الذي يعيد لاحقًا تشكيل الأفق الجماعي، كما يرى بيير بورديو. وكذلك تُظهر الدراسات النفسية والسوسيولوجية أن ميل المبدعين إلى العزلة ليس مجرد اختيار شخصي، بل آلية معرفية ووجودية لمواجهة القيود التي تفرضها البنى الاجتماعية المحافظة.
فمن منظور علم النفس المعرفي، يشير عالم النفس المجري الأميركي ميهالي تشيكسينتميهالي في كتابه "الإبداع.. التدفق وعلم نفس الاكتشاف والابتكار" إلى أن الدخول في حالة "التدفق" (flow) يتطلب فضاءً من الانفصال الجزئي عن المثيرات الخارجية، حيث تسمح العزلة بتركيز الانتباه وتكثيف الحالة الذهنية نحو إنتاج أنماط جديدة من المعنى. أما على مستوى الهوية الثقافية، فيرى إدوارد سعيد في "صور المثقف" أن "الاغتراب البناء" (constructive exile) هو شرط لتجاوز السرديات السائدة وإعادة إنتاج الذات في مواجهة المركزيات المهيمنة.
ومن زاوية علم الأعصاب المعرفي، تبين دراسات بيتي ورفاقه أن "شبكة الوضع الافتراضي" (Default Mode Network) في الدماغ -المسؤولة عن التخييل والتوليف الإبداعي- تنشط بدرجة كبيرة في لحظات الانسحاب الاجتماعي والتأمل الداخلي، وهو ما يُفسر ارتباط العزلة بالقدرة على توليد حلول وأفكار غير تقليدية. وفي السياق ذاته، يشير مارتن ديل إلى أن الاستغراق في العزلة يحفز التنشيط الترابطي البعيد الذي يُعد أساس الابتكار الفني.
إن عزلة سباهي مفتاحها المحافظة على الذات حتى لا يذوب كليًا في مجتمعه، وليواصل اختلافه مع السائد. فطبيعة تفكيره التباعدي (Divergent thinking) لا يمكن أن تتفق مع تفكير مدينته، ذلك التفكير الذي يسلك مسارات مستقيمة نحو إجابة واحدة صحيحة. ولذلك، يصف الراوي سباهي بأنه "سالك الممرات المختصرة التي لا يعرف مداها إلا هو". فهو يبحث عن الاحتمالات العديدة والروابط غير المألوفة بين الأفكار.
وهذه العملية العقلية تكون في كثير من الأحيان انفرادية، غير قابلة للمشاركة الفورية مع الآخرين الذين قد لا يتبعون المسارات المعقدة نفسها، مما يخلق حاجزًا إدراكيا بين المبدع الذي يفضل عالم الأفكار ومحيطه الغارق في عالم الأشخاص والأحداث والأشياء. ولذلك، تكون العزلة ضرورية لحماية الذات. ولكن بالمقابل، "يأكل الذئب من الغنم القاصية".
وانسحاب سباهي من المجتمع وسكنه بجوار المقبرة يمكن أن نقرأه في سياق آخر؛ فالمقبرة يمكن أن ترمز إلى المكتبة حيث يلتقي سباهي المثقف بموتى لا يثيرون فيه الضجر، مثل كتّابه المفضلين، وشواهد القبور ليست سوى عناوين للكتب. فبهذا تكون المقبرة أقرب إلى المتنزه الذي يلتقي فيه بالغائبين الذين يتحولون إلى "جماعة مرجعية" (Reference group) تتكون من أناس يفهمونه ويتحدثون لغته ويقدرون عملية البحث والاكتشاف التي يقوم بها. وهذه الجماعة المرجعية تخفف من إحساسه بالوحدة، وتكون الحياة التي لا يريد أن يعيشها كمقبرة بالمعنى الحقيقي للكلمة.
لقد وفق الكاتب في إبداع شخصية معقدة ونص حافل بالدلالات، لم يتعمق في الإشارة إلى المكان أو وصفه ليكون فضاءً مفتوحا يمكن أن يمثل بيئات عربية مختلفة، يريد مثقفوها أن يصنعوا فارقًا ولكن ينقصهم النفس الطويل لمواصلة الصراع حتى تغيير "البرادايم" (النموذج)، فعاشوا ما بين صراع مرهق وعزلة بين الكتب في "متنزه الغائبين".