في زمنٍ تتقاطع فيه الحروب بالتحوّلات الجيوسياسية، يطلّ الكاتب الأكاديمي الأميركي ذو الأصل الإيراني محسن ميلاني في كتابه "صعود إيران وتنافسها مع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط" ليقدّم قراءة شاملة لمسارٍ طويل من التوتر والصراع. ليس الحديث هنا عن سردٍ زمني تقليدي، بل عن تشريح دقيق للبنية العميقة التي صنعت العداء بين طهران وواشنطن، وما يرافقه من مواجهة مفتوحة مع إسرائيل وحلفائها.
ولا يكتفي المؤلف باستعادة الماضي، بل يحاول أن يقرأ المستقبل عبر عدسة "الموازنة الناعمة" التي تتبناها إيران في مواجهة القوة الأميركية الساحقة.
كيف تحوّل غزو العراق عام 2003 إلى "أعظم انتصار جيوسياسي لطهران منذ الثورة الإسلامية"؟ ولماذا اعتبرت القيادة الإيرانية أن أي نظام أمني في المنطقة لا يمكن أن يقوم إلا بمشاركتها لا بتطويقها؟ وكيف استخدمت " محور المقاومة " في قلب توازنات القوة وإعادة تعريف مفهوم الأمن الإقليمي؟
بهذه الأسئلة المقلقة، يفتح ميلاني نافذة على لحظة عربية إيرانية أميركية مشبعة بالتناقضات، من البرنامج النووي المعلّق، إلى توقيع الاتفاق النووي عام 2015 الذي "لم يغير سلوك إيران الإقليمي"، وصولًا إلى انسحاب ترامب وإطلاق حملة "الضغط الأقصى". وفي قلب هذا المشهد، تبقى إسرائيل خصمًا ملازمًا لإيران، ومسرحًا دائمًا لحرب الظل.
إنه كتاب يضيء على مفارقة الشرق الأوسط، حيث إيران قوة إقليمية صاعدة تحصد مكاسب غير مسبوقة، لكنها مهدَّدة في الوقت ذاته بعزلة دولية وأعباء اقتصادية هائلة، في ظل مواجهة مفتوحة مع أقوى قوة في العالم وحلفائها. كل ذلك يجري وسط فراغ عربي تسبب به التردد الأميركي بشكل أو بآخر.
يذكر أن محسن ميلاني هو أحد أبرز الخبراء الأميركيين من أصول إيرانية في شؤون الشرق الأوسط، ويشغل منصب المدير التنفيذي لمركز الإستراتيجية والدبلوماسية في جامعة جنوب فلوريدا. ويتميّز عمله بزاوية تحليلية تجمع بين الفهم البنيوي لطبيعة النظام الإيراني ومعرفة معمقة بالسياسة الخارجية الأميركية، وهو ما يجعل كتابه هذا مساهمة فريدة في تحليل صعود إيران الإقليمي ضمن معادلة الصراع مع واشنطن.
وصدر الكتاب في 11 فبراير / شباط 2025 بنسخته الأولى الإنجليزية، ثم أصدرته دار "نوفل/ هاشيت أنطوان" في بيروت بترجمة أسامة الأسعد في يوليو/ تموز 2025.
نُشرت النسخة الإنجليزية قبل المواجهة الأميركية الإسرائيلية المفتوحة ضد إيران، وقبل اغتيال شخصيات محورية مثل حسن نصر الله وقيادات حزب الله . وهذا يعطي الكتاب أهمية بالغة، فقد كُتب قبل انفجار المواجهة، مما يمنحه بعدًا استباقيًا تنبؤيًا، ويجعل من محتواه وثيقة تحليلية لفهم كيف رأت النخبة الإيرانية نفسها وموقعها قبل لحظة التحوّل الكبرى.
يتناول المؤلف تحولات السياسة الإقليمية الإيرانية منذ الثورة الإسلامية عام 1979 وحتى ما بعد الاتفاق النووي في 2015، ويركز على فهم عناوين أهمها:
يأتي هذا الكتاب في توقيت شديد الحساسية، بعد سنوات من المواجهات الساخنة والباردة بين واشنطن وطهران، وبعد اغتيال قاسم سليماني، وفشل الاتفاق النووي، والانتفاضات الشعبية في لبنان والعراق وإيران نفسها، مما يجعل من قراءة تحليلية كهذه بمثابة خريطة إرشادية لفهم المشهد الإقليمي.
ويقدم ميلاني ما يشبه التأريخ الجيوسياسي المركب لصعود إيران الثورية، من منظور واقعي سياسي، دون أن يقع في التبسيط الأيديولوجي. بل يسعى، بتوازن حذر، إلى توضيح منطق إيران الإستراتيجي مقابل المقاربة الأميركية.
يُصرّ ميلاني منذ المقدمة على تأطير العلاقة بين إيران والولايات المتحدة في إطار "حرب باردة إقليمية"، تُخاض على أرض الآخرين (العراق، لبنان، سوريا، اليمن، فلسطين )، وذلك بين قوة عظمى تضمن الوضع القائم (الولايات المتحدة)، وقوة إقليمية صاعدة تسعى لتغييره (إيران). وتبتعد هذه المقارنة الشاملة عن تبني خطاب المظلومية أو التخوين، بل تحاول الإمساك بجوهر اللعبة الإستراتيجية كما تراها طهران وواشنطن معًا.
يرى ميلاني أن الصراع المستمر بين إيران والولايات المتحدة هو في المقام الأول أن "الحرب الباردة" بين هذين الطرفين مدفوعة بمصالح جيوسياسية متضاربة، وليس بالخلافات الأيديولوجية أو مخاوف حقوق الإنسان، فمنذ الثورة الإيرانية ، اعتبر القادة الإيرانيون الولايات المتحدة تهديدًا وجوديًا، مما دفعهم لتبني إستراتيجية "الدفاع المتقدم"، وفق توصيف ميلاني. وتهدف هذه الإستراتيجية إلى توسيع ساحات الصراع خارج الحدود الإيرانية، واستخدام أساليب الحرب غير المتكافئة، وبناء قدرات ردع فعالة ضد واشنطن وحلفائها.
يرى ميلاني أن مخاوف إيران من التهديد الأميركي الوجودي دفعتها إلى تبني إستراتيجية "الدفاع المتقدم" حيث أن هذه الإستراتيجية، التي نُفذت ببراعة، تعتمد على نقل الصراع إلى خارج الحدود الإيرانية، وتجنب المواجهة المباشرة، وتطوير قدرات ردع غير متكافئة.
يُقدم الكتاب للقارئ فهمًا شاملاً لكيفية تحول إيران إلى قوة إقليمية، ليس بفضل قدراتها العسكرية التقليدية، بل عبر شبكة من الحلفاء والجماعات الوكيلة التي أصبحت تُعرف بـ "محور المقاومة". ويعرض ميلاني تفاصيل دقيقة عن دور إيران في العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن، وكيف استغلت الفوضى والصراعات المحلية لتعزيز نفوذها.
وتعد فكرة "الهدية الإستراتيجية" التي يقدمها ميلاني في كتابه عن صعود إيران واحدة من أبرز وأعمق النقاط التحليلية، إذ يرى أن الغزو الأميركي للعراق عام 2003، رغم أنه كان يهدف إلى عزل إيران وتطويقها، قد أحدث تأثيرًا عكسيًا تمامًا، حيث قدم لطهران فرصة تاريخية لتوسيع نفوذها بشكل لم تكن لتحلم به.
كان الغزو الأميركي للعراق عام 2003 بمثابة "هدية إستراتيجية" لإيران، إذ أدى إلى إزالة نظام صدام حسين ، الذي كان أكبر خصم عسكري لها، مما خلق فراغًا إستراتيجيًا مكن طهران من مد نفوذها. وسمح هذا التطور لإيران بدعم الأحزاب الشيعية في العراق وتحويله من خصم إلى بوابة إستراتيجية نحو العالم العربي.
الأهم من ذلك، أن الغزو أتاح لإيران تحقيق حلمها بإقامة جسر بري يربطها بالبحر المتوسط عبر العراق وسوريا، مما سهّل إمداد حلفائها، كنظام الأسد وحزب الله. كما أدى انشغال الولايات المتحدة في مستنقع الحرب العراقية إلى تحويل تركيزها بعيدًا، وهو ما منح إيران فرصة ثمينة لتطوير برنامجها النووي وتعزيز نفوذها الإقليمي دون ضغوط أميركية مباشرة.
يتميز الكتاب ببنية متينة ومترابطة، تتألف من مقدمة نظرية وتحليلية عن صعود إيران، تليها 8 فصول، كل فصل منها يركز على ساحة صراع محددة: العراق، سوريا، لبنان، اليمن، فلسطين. وفي الأخير، ثمة خاتمة تحليلية تتساءل: هل هذا الصعود مستدام؟
وكل فصل في الكتاب يُبنى على قاعدة تاريخية صلبة، ثم ينتقل إلى التحليل الجيوسياسي، مما يجعل السرد متدرجًا ومدعومًا بالأرشيفات والمقابلات والوثائق المرفوعة السرية، بالإضافة إلى الأدبيات الأكاديمية في العلاقات الدولية، مثل أعمال كينيث والتز وهنتنغتون ومورغنثاو.
ما يميز هذا الكتاب أنه لا يكتفي بسرد تطور السياسة الإيرانية، بل يربطها بتطورات داخلية في كل دولة محل دراسة مثل الديناميات الطائفية، وانهيار الدولة، والانقسامات المجتمعية. بمعنى أنه يقدم تفسيرًا مزدوجًا، صعود إيران كقوة فاعلة من جهة، وسقوط النظام الإقليمي القديم الذي مهّد لها المجال من جهة أخرى.
يضيء الكتاب على المفارقة المركزية في النظام الإيراني، وهي كيف لنظام يحمل مشروعا أيديولوجيا أن يُجيد اللعب الواقعي مع قوى دولية وإقليمية متنافرة؟
الجواب لدى ميلاني يكمن في مبدأ "الحفاظ على النظام أولاً"، فإيران، في سرديته، مستعدة للتفاوض مع الشيطان الأكبر إذا ما ضمنت بقاءها وتفوقها الإقليمي.
وهنا تظهر أهمية المشروع النووي الإيراني، ليس فقط كرهان عسكري محتمل، بل كبُعد رمزي وإستراتيجي يفتح لإيران أبواب التفاوض الدولي، ويجعلها رقما صعبا في معادلة التوازنات.
من أبرز مساهمات الكتاب، تحليله لآلية التمدد الإيراني في الدول العربية عبر نموذج "الدولة الهشة". ويسجل ميلاني أن طهران لم تفرض حضورها بالقوة، بل وجدت الفُسح داخل الدول المنهارة لتنسج تحالفات تعوّض بها عن غياب العمق الجغرافي أو التفوق العسكري التقليدي.
كل هذه الأذرع ليست أدوات للاحتلال، كما يوضح ميلاني، بل جزء من شبكة دفاع أمامية تمنع نقل المعركة إلى الداخل الإيراني.
يقدم ميلاني أطروحته المحورية بوضوح فيقول إن إيران لم تعد مجرّد "ثورة" تسعى لتصدير الأيديولوجيا، بل أصبحت دولة توازن بين الثورية والمصالح الإستراتيجية. ووفق هذا المنظور، يفكّك الكاتب ازدواجية الدولة والثورة في النظام الإيراني، ويقرأ تحولات السياسة الخارجية الإيرانية من مرحلة ما بعد 11 سبتمبر/أيلول 2001، مرورًا باحتلال العراق 2003، ثم الاتفاق النووي عام 2015، وصولًا إلى مرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي من الاتفاق، وتبدلات النظام الدولي مع صعود الصين وعودة روسيا .
الرسالة الرئيسة هنا أن إيران تطمح للهيمنة الإقليمية، ولكن بمنطق "رد الفعل"، لا بمنطق "الهجوم العشوائي" كما تصوّرها وسائل الإعلام الغربية، وفق ميلاني.
إن إحدى النقاط الأكثر إثارة للاهتمام في الكتاب هي تركيزه على آليات الردع الإيرانية، حيث يشير ميلاني إلى أن إيران، غير القادرة على مواجهة القوة الأميركية التقليدية، طورت قدرات غير متكافئة تشمل الصواريخ الدقيقة والطائرات المسيرة . ويتخذ من هجوم إيران عام 2024 على إسرائيل مثالًا رئيسيًا، حيث يرى أنه لم يكن هجومًا عشوائيًا بل كان جزءًا من إظهار القوة والقدرة على الردع، مما يفرض قواعد جديدة للعبة.
يرى ميلاني أن "النظام الإقليمي العربي الإسرائيلي الغربي" ما بعد الحرب الباردة سعى لتهميش إيران وتطويقها إقليميًا. لكنه يُظهر كيف استغلت طهران الأخطاء الغربية، بدءًا من الغزو الأميركي للعراق ، إلى دعم الثورات المضادة، لتملأ الفراغات، وتتمدد سياسيًا وأمنيًا وثقافيًا.
ويُبرز الكتاب أبرز أدوات إيران في بناء نفوذها:
إنه لا يرى هذا التمدد مجرّد تدخل، بل إعادة صياغة لـ"أمن إيران عبر العمق الجيوسياسي".
يُفرد ميلاني فصولًا متميزة لتتبع العلاقة المضطربة بين طهران وواشنطن، بدءًا من إسقاط حكومة مصدق (1953)، مرورًا بالثورة الإسلامية، ثم أزمة الرهائن، والبرنامج النووي، والاتفاق التاريخي، وانسحاب ترامب، وصولًا إلى احتمالات الاصطدام في زمن ما بعد بايدن.
ويجادل ميلاني بأن العقل الإستراتيجي الإيراني يسعى دومًا لتفادي الحرب المفتوحة مع الولايات المتحدة، لكنه لا يمانع استخدام أدوات غير مباشرة لردعها أو الضغط عليها.
ونجد في تحليله إحاطة دقيقة بأدوات اللعب الإيراني التالية:
إنه يرى أن الصراع الإيراني الأميركي يتحول إلى مواجهة دبلوماسية استخباراتية أكثر من كونه حربًا تقليدية.
رغم أن ميلاني يقدّم تحليلاً بارعًا وبعيدًا عن "شيطنة إيران"، فإن القارئ الفاعل لا بد أن يطرح أسئلة جوهرية:
لا يبدو أن ميلاني يتبنى الرؤية الرسمية الإيرانية، ولكنه ينطلق من نقد الرواية الغربية وتقديم بديل تحليلي رصين لها، وقد يكون هذا في حد ذاته استفزازًا لكثير من دوائر التفكير الإستراتيجي الأميركي.
يضع محسن ميلاني العلاقة بين إيران وإسرائيل في قلب كتابه، بوصفها أحد أعمدة التوتر الإستراتيجي في الشرق الأوسط. فإسرائيل ترى في إيران تهديدًا وجوديًا، لا بسبب خطابها المعادي فحسب، بل بسبب برنامجها النووي وشبكة "محور المقاومة" الممتدة من لبنان إلى غزة واليمن. أما إيران، فتنظر إلى الصراع مع تل أبيب باعتباره جزءا من عقيدتها الأمنية وعمقها الإستراتيجي.
منذ الثمانينيات، أسست طهران "محور المقاومة" لتتحول المواجهة مع إسرائيل من صدام مباشر إلى "حرب ظل". ويوضح ميلاني أن دمج فصائل سُنّية في المحور "زاد من حدة الحرب الخفية مع إسرائيل"، وجعل الصراع يتجاوز البعد الطائفي إلى مشروع سياسي وعسكري جامع، حسب قوله.
الخلاصة التي يخرج بها ميلاني أن العلاقة بين إيران وإسرائيل محكومة بالتناقض البنيوي، فإسرائيل متمسكة بتفوقها النوعي، وتعتبر أي اختراق إيراني تهديدًا وجوديًا، بينما ترى إيران أن بقاءها وأمنها يمران عبر مواجهة إسرائيل، لا مهادنتها. وبين هذين الموقفين، يظل الشرق الأوسط يعيش على وقع حرب غير معلنة، قد تشتعل في أي لحظة إلى مواجهة أوسع.
ويرى المؤلف أن إسرائيل اعتمدت تاريخيًا على عقيدة "الردع بالتصعيد"، أي الرد على أي هجوم "بقوة أكبر" لضمان عدم تكراره. لكن دخول إيران على خط الصراع غيّر المعادلة؛ إذ أصرت طهران على أن أي ضربة إسرائيلية ستقابل برد أعنف وأشد ضررًا من الضربة الأولى. هذا المنطق أنتج حالة من الردع المتبادل الهش. ويبرز ميلاني كيف أن إسرائيل لم تكتفِ بالردع من بعيد، بل انخرطت في حرب ظل ضد إيران شملت عمليات استخباراتية واغتيالات وتخريبًا للبنية التحتية النووية والصاروخية.
ويفسّر المؤلف في كتابه طبيعة العداء بين إيران وإسرائيل، ويضعه في سياق أوسع ضمن المواجهة الإيرانية الأميركية، حيث يرى ميلاني أن المواجهة مع إسرائيل ليست منفصلة، بل هي جزء من حرب باردة أوسع مع الولايات المتحدة. فإيران تجد نفسها في صراع متواز، مع واشنطن كقوة كبرى تسعى للبقاء في الشرق الأوسط، ومع تل أبيب كحليف وثيق لواشنطن.
وفي هذا السياق تمثل إسرائيل الذراع المتقدمة للسياسة الأميركية في المنطقة، فهي تضغط على إيران عسكريًا واستخباراتيًا، بينما تتولى واشنطن العقوبات والاحتواء السياسي والاقتصادي. وعليه فإن العداء مع إسرائيل يغذي منطق الصراع مع أميركا، والعكس صحيح. فكل ضربة إسرائيلية داخل إيران أو ضد حلفائها، تُقرأ في طهران كجزء من "المعركة الكبرى" مع واشنطن.
والنتيجة حسب ميلاني، فإن إيران لا ترى مواجهة إسرائيل مجرد ملف ثنائي، بل حلقة في سلسلة الصراع مع الولايات المتحدة، لذلك يتعامل النظام الإيراني مع إسرائيل باعتبارها تهديدًا مضاعفًا، فهي دولة معادية بحد ذاتها، ولكنها أيضا وكيل أو شريك متقدّم للولايات المتحدة في المنطقة.
يعتبر الكتاب هجوم إيران على إسرائيل عام 2024 لحظة حاسمة، حيث يرى ميلاني أن هذا الهجوم لم يكن يهدف إلى تدمير إسرائيل، بل كان يهدف إلى إثبات قدرة إيران على اختراق الدفاعات الإسرائيلية والرد مباشرة على أي عمل عسكري ضدها. كان الهجوم بمثابة رسالة واضحة وهي أن إيران قادرة على الرد، وقد تغير قواعد الاشتباك.
يعتبر الكتاب هجوم إيران على إسرائيل لم يكن بهدف تدميرها بل لإثبات قدرة طهران على اختراق الدفاعات الإسرائيلية (رويترز)يُجادل المؤلف بأن هذا الهجوم أرسى مفهوم "الردع المتبادل"، حيث أصبحت إسرائيل تدرك أن أي هجوم مباشر على إيران سيواجه برد مباشر على أراضيها.
في النهاية، يرى الكتاب أن العلاقة بين إيران وإسرائيل هي علاقة صراع معقدة، لا تقتصر على العداء الأيديولوجي، بل هي جزء من إستراتيجية أكبر لإيران لترسيخ مكانتها كقوة إقليمية وتغيير ميزان القوى في الشرق الأوسط. إسرائيل ليست مجرد خصم، بل هي طرف رئيسي في معادلة الردع الإيراني، ومواجهتها هي جزء أساسي من إستراتيجية طهران.
لا يقدّم محسن ميلاني في هذا الكتاب مجرد تحليل سياسي لصراعٍ ممتد، بل يصوغ سردية إستراتيجية مكتملة الأركان عن صعود إيران، ويقدّمها ضمن مشهد مركّب تنكشف فيه حدود القوة الأميركية، وحدود القصور الإيراني أيضًا. هذه ليست فقط دراسة في التوسّع الإيراني، بل أيضًا قراءة معمّقة في اللحظة التي سمحت لإيران بالصعود، وفي البنية التي حكمت خياراتها.
منذ الصفحة الأولى، يؤطر ميلاني كتابه باعتباره محاولة لفهم "اللغز" لا "الخطر"، إذ يرى أن اختراق إيران للمجال العربي لم يكن قدَرًا ولا نتيجة تفوّق ذاتي بحت، بل جاء نتيجة فراغاتٍ أحدثتها القوة الأميركية نفسها، أو تحوّلت فيها من ضامن للنظام الإقليمي إلى محفز لتفككه.
يتّخذ الكتاب من الجغرافيا المتنازع عليها وحدة أساسية للسرد: العراق، سوريا، لبنان، اليمن، وفلسطين. عبر هذه المحاور، يكشف ميلاني كيف تحولت إيران من "أمّة منبوذة" إلى قوة إقليمية تنافس واشنطن، ليس من خلال الحروب النظامية، بل عبر بناء شبكات من الردع غير المتكافئ، واستخدام "محور المقاومة" كآلية انتشار دون إعلان.
أما المسكوت عنه وفق الكتاب، وبعيدًا عن سرديات المديح أو الشيطنة، فإن ميلاني يرى أن صعود إيران هو عارضٌ لانهيار النظام العربي، وليس بديلا له. فقد استطاعت إيران ملء فراغ ما بعد صدام حسين، وما بعد الانسحاب الأميركي، وما بعد انكفاء مصر وسوريا. هذه نظرة غير شائعة في السرديات الغربية، التي غالبًا ما تُعيد كل شيء إلى "النية الشريرة لطهران".
يقول ميلاني بصراحة فكرية إن ما تفعله إيران لا يخرج عن منطق الدولة القومية التي تحاول ضمان أمنها، وتوسيع نفوذها عبر تحالفات مع وكلاء محليين، مثلما تفعل دول كبرى وصغرى.
ميلاني: ما تفعله إيران لا يخرج عن منطق الدولة القومية التي تحاول ضمان أمنها وتوسيع نفوذها بتحالفات مع وكلاء محليين (إيميجز)في الختام، فإن القراءة النقدية للكتاب تدفعنا للتساؤل، هل صعدت إيران فعلاً، أم أن المحيط هو من غرق؟
قد تكون الإجابة في الاثنين معًا. فإيران بنت مشروعها بصبر طويل، لكن الفرصة لم تكن لتُفتح لولا انهيار مركز الدولة العربية، وانسحاب بعض القوى من ساحة الفعل.
ولا بد أيضا من الانتباه إلى أن كتاب ميلاني يُقدم قراءة تبدو متوازنة في الظاهر، لكنه لا يخلو من انحياز بنيوي خفي. فرغم لغته الأكاديمية، يُلاحظ ميل المؤلف إلى تخفيف مسؤولية إيران عن عسكرة النزاعات الإقليمية، ويُصوّر الحرس الثوري فاعلا عقلانيا لا مصدرا للتوتر. كما أنه يميل إلى تحميل واشنطن وحلفائها مسؤولية التصعيد أكثر من طهران. هذا "التوازن" المختل يُثير تساؤلات حول مدى تأثر ميلاني بخلفيته الإيرانية أو بانتمائه لمدارس فكرية تنظر للصراع من زاوية ما بعد الاستعمار الأميركي.
من جهة أخرى، يُعاني الكتاب من غيابٍ لافتٍ لصوت الضحايا من المجتمعات المتضررة من الصراع الإيراني الأميركي، كاليمنيين والسوريين والعراقيين واللبنانيين. هذا التغييب ليس بريئًا، بل يُبقي النقاش محصورًا في مستوى النخبة الجيوسياسية فقط. وعندما يتحول السكان إلى بيادق أو "أضرار جانبية" في صراعات النفوذ، تفقد التحليلات بعضا من شرعيتها الأخلاقية.
وبعد القراءة يترك الكتاب العديد من الأسئلة الجوهرية التي تستحق النقاش. فإلى أي مدى يمكن تبرير التوسع الإيراني بذريعة "الردع"؟ وهل تتصرف إيران حقًا كدولة عقلانية تحكمها البراغماتية؟ وما أثر عسكرة "المقاومة" على شعاراتها التحررية؟ وهل فشلت واشنطن في قراءة البعد الحضاري الرمزي للسياسة الإيرانية؟ وأخيرًا، هل ثمة فرصة لتحوّل إيران إلى قوة إقليمية غير صدامية، خاصة في ظل صعود الصين وتراجع الغرب؟
إن كتاب "صعود إيران ومنافستها للولايات المتحدة" ليس مجرد عمل تقريري تقليدي، بل هو نص جدلي غني بالمعرفة، ولكنه يتطلب قراءة نقدية تضعه في سياقه، وتُثير تساؤلات حول من يروي القصة، ولماذا تُروى بهذه الطريقة.
في نهاية المطاف، تبقى المنطقة في سباق مفتوح على القوة والنفوذ. قراءة هذا العمل ليست ترفًا فكريًا، بل دعوة لفهم منطق الصراع بعمق، واستشراف مآلاته على مستقبل الشرق الأوسط بأسره.