داخل غرفة متواضعة بقطاع غزة، يجلس الطفل الفلسطيني أمير الشندغلي (12 عاما) بهدوء على فراش إسفنجي وقد ترك المرض وسوء التغذية آثارا قاسية على جسده النحيل، بعد فقده جزءا كبيرا من وزنه خلال الأشهر الماضية.
تبدو عظام صدره وذراعيه بارزة بوضوح، بينما يتحاشى النظر طويلا، مكتفيا بالتحديق في الأرض أو سقف الغرفة، في مشهد يلخص معاناة طفل لم يتمكن الأطباء من تشخيص مرضه بعد، وسط نقص حاد في الأجهزة الطبية والإمكانات التشخيصية، جراء الحصار الإسرائيلي وتداعيات حرب الإبادة.
وفي 21 ديسمبر/ كانون الأول 2025، رجح المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس، معاناة أكثر من 100 ألف طفل و37 ألف حامل ومرضع في غزة من سوء تغذية حاد بحلول أبريل/ نيسان 2026، موضحا أن جهود مكافحة المجاعة في القطاع لا تزال "هشة للغاية".
يأتي هذا المشهد وسط التداعيات الكارثية التي خلفتها حرب إبادة إسرائيلية لمدة عامين، إلى جانب استمرار الحصار الذي قيد إدخال المساعدات الطبية، وأعاق تحويل آلاف المرضى وبينهم أطفال للخارج، من أجل الحصول على فرصة علاج مناسبة ومتكاملة.
ورغم انتهاء الإبادة مع دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2025، لم تشهد الأزمة الإنسانية تحسنا ملحوظا في قطاع غزة.
يعود ذلك إلى تنصل إسرائيل من الإيفاء بالتزاماتها التي نص عليها الاتفاق، خصوصا ما يتعلق بفتح المعابر، وإدخال الكميات المتفق عليها من المواد الغذائية، والإغاثية، والطبية.
وتواصل تل أبيب، وفق أحدث معطيات وزارة الصحة بغزة، تقليص دخول الشاحنات الطبية للقطاع إلى ما دون 30 بالمئة من الاحتياج الشهري، ما فاقم تدهور توفر الأدوية بعجز بلغ 52 بالمئة، والمستهلكات الطبية بنسبة نقص وصلت إلى 71 بالمئة.
وخلال مدة قصيرة، تدهورت الحالة الصحية لأمير بشكل ملحوظ، بعد تعرضه لنوبات متكررة من الإسهال والتقيؤ، ما أدى إلى فقدانه نحو 19 كيلوغراما من وزنه بعد أن كان نحو 40 كيلوغراما، دون التوصل إلى تشخيص طبي نهائي يفسر حالته أو يحدد مسار علاجه.
ويعزو أطباء ذلك إلى محدودية الفحوص الطبية المتقدمة داخل غزة، نتيجة استمرار الحصار الإسرائيلي الذي قيد دخول المعدات الطبية والأدوية، وفاقم الأزمة الصحية الناجمة عن الحرب.
وتتنقل عائلة الطفل بين المستشفيات والمراكز الصحية في محاولة للحد من الأعراض وتخفيف آلام ابنها، في وقت يزداد فيه تدهور وضعه الغذائي، وسط انتظار طويل لموافقة تسمح بتحويله لتلقي العلاج خارج قطاع غزة.
قال مصطفى الشندغلي والد الطفل أمير إن ابنه كان يتمتع بصحة جيدة ولم يكن يعاني أي مرض قبل تدهور حالته خلال الأشهر الأخيرة.
وأوضح أن معاناة أمير بدأت في سبتمبر/ أيلول الماضي، عندما ظهرت عليه أعراض الإسهال والاستفراغ، مضيفا: "في البداية كنا نذهب به إلى المستشفى كأي حالة عادية، وكان يتلقى إبرة للاستفراغ ومحلولا للجفاف".
وأشار إلى أن حالة ابنه تفاقمت تدريجيا، ما أدى إلى فقدانه نحو 19 كيلوغراما من وزنه، مؤكدا أنه لم يفقد القدرة على المشي بالكامل، لكنه بات غير قادر على السير لمسافات طويلة بسبب شدة الآلام والإرهاق.
وذكر أن أمير كان يتناول غذاء صحيا في بداية مرضه، يشمل الفواكه والخضراوات واللحوم، قبل أن يقتصر طعامه لاحقا على محاليل الإشباع خوفا من الجفاف نتيجة الإسهال الحاد.
وأضاف أن الأطباء، منذ منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي وحتى اليوم، وصفوا لابنه علاجات شملت الكورتيزون، وأدوية للمعدة، وفيتامينات، إضافة إلى مضادات حيوية، دون تحسن ملموس في حالته.
وبشأن مسار التشخيص، قال الشندغلي إن الأطباء أبلغوه في البداية بأن الحالة قد تكون مرض "كرون" (مرض التهابي مزمن يصيب الجهاز الهضمي)، ما تسبب بسوء تغذية حاد، قبل أن يتغير التقييم الطبي لاحقا.
وأضاف: "بعد الفحوص والتصوير، أخبرونا أن المرض مجهول ولم يتم تشخيصه بسبب نقص الإمكانيات الطبية في غزة".
ومع استمرار تدهور الحالة الصحية لابنه، طالب الشندغلي بإجلاء أمير لتلقي العلاج خارج قطاع غزة، قائلا: "أناشد العالم، وأوجه نداء لكل إنسان حر، من أجل إجلاء ابني للعلاج بالخارج قبل أن تتفاقم حالته أكثر".
وخلال عامي الإبادة، تعمد الجيش الإسرائيلي استهداف المنظومة الصحية في القطاع بقصف المستشفيات والمرافق الطبية ومخازن الأدوية، والطواقم العاملة في هذا المجال واعتقال عدد منها، ومنع دخول الأدوية والمستلزمات الطبية، ما جعل العلاج بالخارج هو أمل كثير من المرضى لإنهاء معاناتهم.
وفي بيانات سابقة، قال المدير العام لوزارة الصحة بقطاع غزة منير البرش إن 19 ألفا و989 مريضا مسجلون على قوائم الانتظار لدى الوزارة، للسفر للعلاج خارج القطاع، بينهم 4 آلاف و300 طفل.
وأضاف البرش أن منظمة الصحة العالمية اعتمدت 18 ألفا و500 حالة، بينها 3 آلاف و788 حالة مُصنفة على أنها "حرجة جدا" وتحتاج إلى السفر الفوري، وفق تصنيف الأمم المتحدة.
وأشار إلى أنه منذ إغلاق إسرائيل معبر رفح الحدودي (جنوب) في مايو/ أيار 2024، ومع تعقيد إجراءات الحصول على الموافقات، توفي 1156 مريضا أثناء انتظارهم السفر لتلقي العلاج.
ويتخوف آلاف الفلسطينيين على حياة ذويهم من المرضى والجرحى، جراء تعذر سفرهم للخارج لتلقي العلاج وسط الأوضاع الصعبة التي تعانيها المنظومة الصحية بغزة.
المصدر:
القدس