آخر الأخبار

الجميع يتساءل: كيف يصمد أهل غزة وسط الخراب؟ حياة يومية، عزيمة لا تنكسر، وأمل لا يموت

شارك

معجزة العيش اليومي تحت سماء غزة التي احترقت بالذكريات أكثر مما احترقت بالقذائف، يعيش الناس يومهم وكأنهم يمارسون فعلا إنسانيا استثنائيا لا يراه العالم إلا بدهشة، في غزة لا تقاس الحياة بعدد ساعات الكهرباء ولا بوفرة الماء والطعام، بل بقدرة الإنسان على الوقوف مجددا، على الضحك وسط الركام، وعلى صناعة معنى من تفاصيل كان يفترض أن تسحق تحت ثقل الدمار.

أصوات المدينة لا تقتصر على صدى القصف، بل تختلط بضحكات الأطفال، بخطوات المارة، بنداءات الباعة، وبحركة بشر يواصلون حياتهم كأنهم يوجهون سؤالا صامتا للعالم: هل تروننا؟ هل تصدقون أننا بشر مثلكم، نخاف ونحب ونتعب، لكننا نرفض أن نموت ونحن أحياء؟

بشر يقاومون بالحياة في غزة، يلتقي العالم بعالم آخر؛ عالم لا يفهمه إلا من شهد الألم، حيث يراقب الخارجون المدينة من بعيد متسائلين بدهشة: هل هؤلاء بشر مثلنا؟ كيف يمكنهم أن يضحكوا أن يتعلموا أن يتزوجوا ويبنوا بيوتهم ويصنعوا إنجازاتهم في قلب هذا الركام؟ لكن أهل غزة يجيبون بصمتهم، بابتسامة طفل، وفنجان شاي يحضر على عجل، وبكتاب يقرأ على ضوء شمعة.

هنا لا يتوقف الإنسان عن العيش لمجرد أن الحرب حاولت محوه، غزة ليست مجرد مكان على الخريطة، بل تجربة وجودية تحفر في النفس معنى الثبات والكرامة، حيث يتحول اليأس إلى إرادة، والخوف إلى عزم، والحياة نفسها إلى مقاومة يومية، كل منزل مهدم، كل شارع مكسر، كل لحظة نقص في الغذاء أو الماء، هي اختبار لصبر الإنسان، ومحطة تذكر العالم أن هؤلاء الناس، رغم كل الصعاب، ما زالوا بشرا يعيشون، يحلمون، ويقاومون.

وسط حي الشيخ رضوان، تجد أم إسلام محمد، ربة أسرة في الخمسينات من عمرها، تقف عند خزان المياه، تنتظر دورا لا يضمنه الزمن، لكن ابتسامة خفية ترتسم على وجهها حين يتذكر أن كل خطوة صغيرة نحو تأمين الماء والطعام لأطفاله هي انتصار على الواقع القاسي.

تقول أم إسلام بصوت منخفض، وكأن كلماتها نفسها تحاول أن تهزم الحزن: "اليوم لا يبدأ قبل أن أضمن أن أولادي شربوا الماء، وأن لدينا فطورا متواضعا، هذه اللحظات البسيطة تمنحني شعورا بأن الحياة لم تنه بعد"، التفاصيل الصغيرة، بالنسبة لها، هي مساحة نجاة من بحر من الألم والدمار، ومجال لاستعادة إنسانيته وسط الخراب.

في غزة لا تقاس الحياة بعدد ساعات الكهرباء ولا بوفرة الماء والطعام، بل بقدرة الإنسان على الوقوف مجددا، على الضحك وسط الركام.

وسط هذه الصعوبات، يجد المواطنون قوتهم في ما يبدو للآخرين تافها، لكنه بالنسبة لهم مركز الثقل الذي يمنعهم من السقوط، جولة تسوق في السوق، زيارة جار أو قريب، قراءة كتاب، أو حتى شرب قهوة في المساء مع العائلة، كلها طقوس صغيرة تعيد التوازن النفسي وتذكرهم بأنهم ما زالوا أحياء، وأن هناك غدا يستحق الانتظار.

ويصف البعض أن التكيف مع الواقع ليس مجرد مهارة، بل ضرورة فطرية فرضتها الحياة. في كل شارع، ترى أما تهتم بأطفالها رغم نقص الغذاء، وأبا يسعى لتأمين أقل متطلبات الحياة، وشابا يحاول الحفاظ على تعليمه رغم الانقطاعات المتكررة للكهرباء والمدارس.

غزة ليست فقط صمودا على الأرض، بل صمود الفكر والثقافة، حيث المثقفون والمهندسون والمعلمون يستمرون في تعليم الأجيال الجديدة، في ورش صغيرة، في كتب، في كلمات يكتبونها على جدران البيوت المهدمة، وكأنهم يقولون للعالم: "لن تنكسر إرادتنا، لن يقتلنا الخراب".

ولا يمكن فصل صمود غزة عن شعور أعمق بالهوية والإنجاز، فهي ليست مجرد مدينة منكوبة، بل مجتمع متعلم ومثقف، يفتخر بإنجازاته رغم الحصار والتحديات، من رياضيين ومعلمين ومبدعين، إلى شباب يبنون شركات صغيرة ويواصلون التعليم عن بعد، كل هؤلاء يشكلون صورة المدينة الحقيقية: مدينة تتحدى الموت كل يوم، وتعيد تعريف معنى الحياة بكرامة.

إذن، غزة ليست مجرد مكان يتعرض للقصف، بل مختبر حقيقي للصبر البشري، في غزة يصنع التاريخ بصمت، في قلوب الناس وبيوتهم، وفي كل ضحكة طفل، وكل فنجان شاي، وكل خطوة على طريق العودة إلى الحياة الطبيعية، وما يجعلها أكثر إثارة للإعجاب هو أن كل هذا الصمود لم يأت من اليأس، بل من إرادة حية، من رغبة في الاستمرار، ومن إدراك أن الحياة، مهما كثرت التحديات، تستحق أن تعاش.

وبالرغم من كل شيء، غزة تعلم العالم درسا يوميا في الصبر والعزيمة: أن الإنسان قادر على النهوض من تحت الركام أن الروح أقوى من الحجر، وأن الكرامة لا تقهر، حتى لو خسر المكان كل شيء. إنهم يعيشون الآن، بصمتهم وصمودهم، ليخبروا العالم بأن الحياة هنا تستمر، وأن الأمل موجود، رغم كل الدمار.

القدس المصدر: القدس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا