كشفت صحيفة نيويورك تايمز الخميس، في تحقيق موسّع، أن وقف إطلاق النار في غزة، الذي دخل حيّز التنفيذ منذ أكثر من شهرين، لم ينجح في وضع حد حقيقي لسفك الدماء. فعلى الرغم من تراجع العمليات العسكرية الواسعة، تشير الوقائع الميدانية التي وثّقها التحقيق إلى أن القتل لم يتوقف إلا لفترات متقطعة لا تتجاوز يومًا أو يومين، ما يعكس هشاشة الهدنة وطابعها المؤقت.
يركز التحقيق على ما يُعرف بـ"الخط الأصفر"، وهو حد فاصل غير معلن بوضوح بين شرق غزة، حيث تتمركز القوات الإسرائيلية، وغربها الخاضع لإدارة فلسطينية. هذا الغموض الجغرافي تحوّل، بحسب شهادات السكان، إلى مصيدة قاتلة للمدنيين الذين قُتل العشرات منهم لمجرد اقترابهم من المنطقة، أحيانًا من دون علمهم أنهم تجاوزوا خطًا عسكريًا غير مرسّم.
تنقل نيويورك تايمز عن الجيش الإسرائيلي تأكيده أن إطلاق النار يتم فقط ردًا على خروقات للهدنة، وأن التعليمات تنص على توجيه تحذيرات قبل استخدام القوة. إلا أن شهادات فلسطينيين، وثّقها التحقيق، تناقض هذه الرواية، وتكشف أن التحذيرات غالبًا ما تكون غائبة، وأن القوة المميتة تُستخدم حتى في سياقات مدنية بحتة، مثل جمع الحطب أو تفقد منازل مدمرة.
ويبرز التحقيق البعد الإنساني للمأساة من خلال قصص فردية مؤثرة. ميساء العطار قُتلت برصاصة بينما كانت نائمة في خيمة عائلتها، وعلي الحشاش سقط أثناء محاولته تأمين الوقود لعائلته في ظل انعدام الغاز. أما عائلة شُعبان وأبو شُعبان، فقد أُبيدت تقريبًا خلال رحلة عائلية قصيرة للاطلاع على منازلهم المدمرة، في اعتقاد منها أن الهدنة توفر حدًا أدنى من الأمان.
بحسب أرقام نقلتها الصحيفة عن مسؤولين فلسطينيين، قُتل أكثر من 400 شخص منذ بدء وقف إطلاق النار، بينهم 157 طفلًا. ورغم أن هذه الحصيلة تبقى أقل من أرقام الحرب الشاملة السابقة، إلا أنها، كما يشير التحقيق، تؤكد أن منطق القوة لم يتغير، وأن الهدنة لم تُنهِ نمط العمليات العسكرية الذي يوقع خسائر مدنية كبيرة.
كما يسلط التحقيق الضوء على سياسة "الرد الواسع" التي تتبعها إسرائيل، حيث تقابل أي هجوم محدود بضربات جوية مكثفة في مناطق أخرى من القطاع. قصف منازل عائلة أبو دلال في النصيرات مثال صارخ: هدفان عسكريان مفترضان، وفق الرواية الإسرائيلية، مقابل عشرات الضحايا المدنيين، بينهم أطفال رُضّع، قُتلوا من دون أي إنذار مسبق.
وتؤكد نيويورك تايمز أن الجيش الإسرائيلي يتجنب عادة تحذير السكان عند استهداف شخصيات محددة، بحجة منع هروب الهدف. غير أن التحقيق يثير تساؤلات أخلاقية وقانونية حول مدى "تناسب" هذه الضربات، في ظل المعرفة المسبقة بوجود أعداد كبيرة من المدنيين في محيط الأهداف.
أهمية هذا التحقيق لا تكمن فقط في توثيق الوقائع، بل في كشفه للطابع البنيوي للهدنة نفسها. فوقف إطلاق النار، كما يظهر في التقرير، ليس انتقالًا نحو تسوية سياسية، بل إطار أمني هش يسمح باستمرار العنف بأشكال أقل وضوحًا. الهدنة هنا تتحول إلى أداة لإدارة الصراع لا لإنهائه، مع بقاء المدنيين الحلقة الأضعف.
كما أن غموض "الخط الأصفر"، كما تبرزه الصحيفة، ليس تفصيلًا تقنيًا، بل عنصرًا حاسمًا في استمرار القتل. في قطاع دُمّرت معالمه، يصبح أي خط غير مرئي مبررًا لإطلاق النار. هذا الغموض يمنح القوات الإسرائيلية سلطة تقديرية واسعة، ويحوّل الخط إلى مساحة قتل رمادية تُلقى فيها مسؤولية الموت على الضحية نفسها.
وبحسب الخبراء، فإن نشر هذا التحقيق في نيويورك تايمز، إحدى أكثر الصحف تأثيرًا عالميًا، يضفي عليه وزنًا خاصًا، ويعكس صعوبة تجاهل ما يجري في غزة حتى داخل الإعلام الغربي السائد. غير أن الفجوة تبقى قائمة بين التوثيق الصحفي ورد الفعل السياسي، حيث لا يزال هذا النوع من التقارير عاجزًا عن ترجمة الحقائق إلى مساءلة فعلية أو تغيير في السياسات
المصدر:
القدس