في ظلال الليل، حين يهدأ صخب النهار ويستكين الناس على وسائدهم، يتحرك "الخط الأصفر" بصمت، لا أبواق ولا إعلان، فقط صمت مدو يبتلع البيوت ويفقد الأسر مأواها، كل مكعب أصفر هو لحظة اختراق للهدنة، وقطعة جديدة من أرض غزة تسجل في دفتر الاحتلال، بينما العالم يكاد لا يشعر بما يحدث، هكذا، تصبح ليالي غزة أطول، والسماء أكثر قتامة، والأحياء تتحول إلى حدود لا يسمح لعبورها إلا بالقوة.
الخط الأصفر هو مصطلح أطلقته الجهات الرسمية في غزة لوصف تقدم الاحتلال على الأرض، والذي يتمثل في وضع مكعبات خرسانية ضخمة لتحديد مناطق السيطرة العسكرية. هذه المكعبات لا تظهر على الخرائط، لكنها تغير الواقع اليومي للأحياء بشكل ملموس، وتحد من حركة السكان، وتفرض قيودا على حياتهم وطرق وصولهم إلى منازلهم.
وفق المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة، يستخدم الخط الأصفر لإعادة هندسة السيطرة على القطاع بطريقة تدريجية، وهو أشبه بـ"حدود تشغيلية" تحول الأحياء الشرقية إلى مناطق مغلقة، بينما تبقى المناطق الغربية خارج السيطرة المباشرة، مع قدرة الاحتلال على التحرك فيها عبر عمليات محدودة وخاطفة.
أم أحمد المصري، وهي من سكان حي الشجاعية قرب "الخط الأصفر"، تصف حياتها بعد التقدم الأخير للمكعبات: "الليلة الأخيرة كانت صعبة جدا، لم نعد نعرف إلى أين نذهب، المكعبات وضعت فجأة على أطراف شارعنا، وما عاد بإمكاننا العودة إلى منزلنا، لم يعد هناك بيت نعود إليه، كل شيء أصبح خطرا".
وتضيف: "نحن لا نعرف متى سنتمكن من العودة، كل مكعب أصفر يعني منطقة جديدة نضطر لمغادرتها، وحياتنا أصبحت مؤقتة دائما، لا نستطيع التخطيط، ولا حتى الحفاظ على ممتلكاتنا".
لا يختلف الواقع كثيرا عن المواطنة أم رياض حمد، وهي من سكان منطقة شرق حي التفاح، تحدثت عن الخوف اليومي من التحرك: "نحن لا نحرك خطوة إلا بحذر، كل شارع أصبح محدود الحركة، والأطفال لم يعد لهم مكان للعب، وحتى الوصول إلى أي منطقة أصبح مغامرة، المكعبات الصفراء تغير كل شيء بصمت، لا أحد يسمع صوتها سوى من يعيش هنا".
التقدم الصامت للخط الأصفر، وفق تصريحات المسؤولين في غزة، يعني عمليا إفراغ مناطق كاملة من سكانها بالقوة، سواء عبر القصف، أو التوغل البري، أو التهديد المباشر، ومع كل تقدم جديد، تتبدل الخريطة السكانية؛ مناطق تصبح شبه خالية، وأخرى مكتظة بشكل غير إنساني، ما يولد ضغطا هائلا على البنية التحتية والخدمات، ويزيد من معاناة السكان.
إحدى آثار هذا التقدم هي اضطرار الأسر للانتقال من منازلها إلى مراكز إيواء أو مساكن مؤقتة، ما يفاقم التفكك الأسري والتشتت المجتمعي. كما أن تقدم الخط الأصفر يخلق شعورا دائما بعدم الأمان؛ فالظلام، وانقطاع الكهرباء، وأصوات الآليات والقصف المدفعي، جميعها عوامل تولد هلعا جماعيا، خصوصا للأطفال وكبار السن.
المكتب الإعلامي الحكومي في غزة يؤكد أن تقدم المكعبات الصفراء يشكل اختراقا واضحا للهدنة، لأنه يتم دون إعلان رسمي، ويمثل ضغطا مستمرا على السكان لإجبارهم على النزوح المتكرر. هذه السياسات تعكس محاولات لإعادة تشكيل الخريطة الاجتماعية والديمغرافية للقطاع قسرا، مع آثار طويلة الأمد على الاستقرار المجتمعي ومستقبل العيش.
رغم ذلك، يصر السكان على التمسك بالأمل، ويعملون على تأمين حياتهم بأدنى المقومات، ويعولون على العودة إلى منازلهم عندما تسمح الظروف، لكن كل ليلة يمر فيها الخط الأصفر، تسجل في ذاكرة غزة قصة جديدة من الألم والمقاومة، ويضاف تحد جديد لحياة عائلات فقدت الأمان.
المصدر:
القدس