نظم المركز الدولي للعدالة من أجل الفلسطينيين وبالتعاون مع منصة العرب في بريطانيا، ندوةً جمعت بعضا من الفلسطينيات اللواتي نقلنَ شهادات حيةٍ عن القهر والعنف الذي تعرّضن له خلال تواجدهن في قطاع غزة، وظروف الحياة المستحيلة التي واجهتهن في مسارهن التعليمي والعملي في آن واحد.
وجرى عقد اللقاء في قاعة الندوات بجامعة SOAS وسط لندن، وكان عبارة عن كلمات مؤثرة وشهادات حية ألقتها المشاركات الفلسطينيات تروي معاناة أسرهن وجميع الناس من حولهن من ظلم الاحتلال والاستيطان الذي حاول بكل قوته إبادة الفلسطينيين ومنعهم من أدنى الحقوق الإنسانية.
وتحدثت المشاركات عن حكايات حية عن ظلم النظام الذي فرض عليهن من انعدام الغذاء وقلة المال واستحالة استعماله إن وُجد.
لم يخل اللقاء من الدموع التي عبرت عن عمق الوجع الذي عانت منه الفلسطينيات والألم الذي ترسخ في قلوبهن بعد المشاهد المروعة التي تعرضن لها خلال البقاء في غزة، فمنهن من فقدن العديد من أفراد الأسرة، ومن تعرضن للقصف اليومي لغزة ولا إنسانية الاحتلال في التعامل مع أهالي غزة ومحاولاته المستمرة في إبادتهم بشكل كامل ومباشر.
شارك في اللقاء كذلك المستشارة القانونية الفلسطينية دانية عبد الحق، التي سلطت الضوء على مجهودات المركز الدولي للعدالة من أجل الفلسطينيين في ترسيخ هاته الأصوات التي تأتي مباشرة من غزة وتعكس حقائق واقعية عن الحياة هناك التي يرفض السياسيون هنا رؤيتها أو الاعتراف بها بشكل يعكس العنصرية التي تخفيها الديمقراطيات الغربية في التعامل مع القضية الفلسطينية والتي يتحملون جزءا كبيرا من مسؤولية تشكيلها.
ويهدف اللقاء إلى إعطاء مساحة كافية وآمنة لهاته الأصوات التي تم تهميشها من قِبَل الأبواق الإعلامية الأخرى والتي تخدم السياسة الصهيونية هنا في بريطانيا، وترفض بشكل لاإنساني إعطاء فرصة التعبير عن واقع حياة الفلسطينيين وإجرام الاحتلال في غزة.
وقالت الطالبة والكاتبة الفلسطينية سجى حمدان، إن الفعالية خُصصت لنقل شهادات حيّة عن تجربة النزوح القسري من قطاع غزة، ووصفت الحدث بأنه كان “ثقيلا ومؤثرا للغاية”، إذ شاركت فيه أربع فتيات فلسطينيات من غزة عشن الإبادة بكل تفاصيلها، وتحدثت كل واحدة منهن لنحو عشر دقائق عن تجربتها الشخصية.
وأعربت حمدان عن فخرها بالمشاركات وبشجاعتهن في الوقوف أمام الجمهور وسرد تجاربهن المؤلمة، مؤكدة أنها كانت من بين المتحدثات، حيث نقلت تجربتها قبل الإبادة وخلالها، في ظل بقاء أهلها وأحبائها داخل قطاع غزة، مشيرة إلى أنها كانت تعيش في بريطانيا “بين عالمين متوازيين”: عالم الحياة اليومية والدراسة الأكاديمية، وعالم غزة الذي لم يفارق وعيها وقلقها.
وأضافت أن المجتمع الأكاديمي كان يطالبها بالاستمرار في التزاماتها الدراسية كطالبة، في وقت كانت تتابع فيه لحظة بلحظة أخبار عائلتها وأهلها في غزة. واعتبرت أن حضور مثل هذه الفعاليات والاستماع إلى الشهادات هو “أقل واجب يمكن تقديمه لشعب غزة”، مؤكدة أن الرسالة التي حملتها المشاركات واحدة، مفادها أن الفلسطينيات في بريطانيا لا يحملن أصواتهن الفردية فقط، بل يمثلن صوت شعب كامل.
وشددت حمدان على أن المشاركات يتحملن مسؤولية أخلاقية في إيصال صوت الطلاب والأطفال الذين يُقتلون ظلما، والأمهات والآباء الذين يعيشون القهر اليومي، مثمنة دور المنصات المنظمة والجمهور الحاضر، ومؤكدة أن التغيير لا يحدث دفعة واحدة، بل يبدأ بسلاح الوعي والمعرفة.
من جهتها، قالت الطالبة الفلسطينية سهى سلامة أبو عيد، التي وصلت إلى بريطانيا قبل نحو ثلاثة أشهر بعد خروجها من غزة في أيلول/ سبتمبر 2025، إن هذا اليوم كان من أكثر الأيام تأثيرا عليها على المستوى الشخصي.
وأوضحت أنها تحمل في داخلها العديد من القصص، قصصا تمثلها شخصيا، وأخرى تمثل أشخاصا ما زالوا في غزة، وأشخاصا فقدوا حياتهم خلال الحرب على القطاع. وأضافت أن الاستماع إلى شهادات الفتيات المشاركات جعلها تدرك أن الألم مشترك، وأن التجربة واحدة رغم اختلاف تفاصيلها.
وأعربت أبو عيد عن شعورها بالفخر لكونها قادرة على التحدث عن صوتها وعن أصوات الآخرين، والاستماع في الوقت ذاته إلى تجارب ناجيات أخريات، مؤكدة أن رواية القصة بأصوات أصحابها أمر بالغ الأهمية، لأن الفلسطينيين هم الأقدر على سرد ما عاشوه ونجوا منه.
وأكدت امتنانها لهذه الفرصة، معربة عن أملها في أن تُنقل مزيد من القصص، سواء كانت موجعة أو أكثر أملا، من أجل إيصال حقيقة ما جرى في قطاع غزة إلى العالم.
بدورها، قالت الأستاذة زينب كمال، التي أدارت اللقاء، إن هذا الحدث يشكل محطة بالغة الأهمية في توثيق التاريخ، ولا سيما تاريخ نساء غزة اللواتي خرجن من تحت الإبادة وعشن التهجير القسري والمجازر، وواجهن ظروفا إنسانية لا يمكن قبولها أو نسيانها.
وأشارت إلى أن هؤلاء النساء، رغم كل ما مررن به، استطعن الخروج من تحت الركام ليصبحن اليوم طالبات ونساء ناجحات في الجامعات البريطانية، وعلى المستويات العلمية والعملية والعائلية.
وأضافت أن روايتهن لقصصهن لا تهدف فقط إلى البوح، بل إلى التوثيق التاريخي، خاصة في دولة كالمملكة المتحدة التي تتحمل، بحسب تعبيرها، مسؤولية مباشرة عن الفوضى التي أُنشئت في فلسطين.
وأكدت كمال أن اللقاء أتاح مساحة حقيقية للتعبير العاطفي والنفسي، وأسهم في احتواء المشاركات ضمن المجتمع العربي في بريطانيا، مشددة على أن على المجتمع مسؤولية مضاعفة في مساندتهن وتوفير الدعم والاحتواء لهن بوصفهن “أخوات قبل كل شيء”.
ووجهت الشكر للجالية العربية في بريطانيا، ولمركز العدالة من أجل الفلسطينيين (IPJP) على حضوره وتوثيقه القانوني والتاريخي لما طُرح، معربة عن أملها في استمرار هذا التكاتف دعما لأهالي غزة.
من جانبها، أوضحت المستشارة القانونية الفلسطينية دانيا أبو الحاج أن هذه الشهادات لا تُجمع فقط لأغراض التوثيق، بل تُستخدم عمليا في المسارات القانونية، من خلال تزويد الفرق القانونية، بما فيها الفريق القانوني لجنوب أفريقيا، الذي يستند إلى هذه الإفادات في القضايا المعروضة أمام محكمة العدل الدولية، وكذلك في الملفات المقدمة إلى المحكمة الجنائية الدولية، وفي الإجراءات القانونية داخل المملكة المتحدة.
وأكدت أبو الحج أن هناك واجبا يتمثل في إجبار السياسيين في بريطانيا وأوروبا والغرب عموما على الاستماع إلى أصوات الفلسطينيين، وإدراك أن روايات الضحايا يجب أن تكون في صلب أي نقاش أو قرار سياسي.
وأضافت أن النضال من أجل إيصال هذه الأصوات ما زال قائما، حتى بعد مرور عامين على الإبادة الجماعية، واصفة ذلك بالواقع المؤلم، لكنه جزء من المسؤولية الوطنية والأخلاقية تجاه الفلسطينيين، لا سيما من لا يزالون في غزة، ويعيشون تحت ما يسمى “وقف إطلاق نار” لا يمثل، بحسب قولها، وقفا حقيقيا.
وشددت على أن الفلسطينيين في الغرب يتحملون اليوم مسؤولية مضاعفة، تتمثل في استخدام هذه الشهادات للضغط على الحكومات الغربية من أجل تغيير سياساتها الداعمة لإسرائيل، سواء بالدعم المادي أو العسكري أو السياسي، مؤكدة أن هذه الشهادات تمثل أدوات مساءلة وأدلة قانونية وسلاحا أخلاقيا في مواجهة الإفلات من العقاب.
أما طالبة الدكتوراه الفلسطينية حلا حنينة، فقالت إن الفعالية خُصصت لتوثيق شهادات حيّة من غزة، مشيرة إلى أن أربع مشاركات من الطالبات اللواتي تم إجلاؤهن حديثا من القطاع تحدثن عن تجاربهن خلال عامين من الإبادة، وعن اضطرارهن لترك عائلاتهن وأحبائهن خلفهن.
وأوضحت أن بعض المشاركات قُبلن في برامج بكالوريوس وماجستير ودكتوراه، وتحدثن عن محاولات التقديم للجامعات والمنح الدراسية في ذروة القصف، في ظل الخوف والإصابات وفقدان الأحبة، بينما كان الموت يحيط بهن من كل اتجاه.
واعتبرت حنينة أن التجربة كانت شديدة الأهمية ومؤلمة في آن واحد، مؤكدة أن هذا النوع من التوثيق نادر في الغرب، وخاصة في بريطانيا، ما يمنحه قيمة كبيرة. وأعربت عن فخرها بالمشاركات وبالمساحة التي أُتيحت لهن للحديث عن الإبادة التي عشنها.
وأضافت أن ما جرى يمثل بداية رحلة طويلة من العمل القائم على الاستمرارية في التوثيق، والعمل الاستراتيجي المنظم، لضمان وقف الإبادة في غزة، والشروع في إعادة الإعمار، بمشاركة أهل القطاع أنفسهم. وأكدت أن ما سُمع في اللقاء لا يمثل سوى جزء يسير من تجارب أكثر من مئة طالب وطالبة تم إجلاؤهم من غزة، سيكون لهم دور أساسي في إعادة بناء القطاع مستقبلا.
المصدر:
القدس