آخر الأخبار

الضفة الغربية والولايات المتحدة: إدارة الإنفجار لا منعه

شارك

في مشهد نادر لكنه كاشف، التقى السفير الأميركي لدى إسرائيل مايك هاكابي بنائب رئيس السلطة الفلسطينية حسين الشيخ في رام الله، في خطوة تعكس ارتباك السياسة الأميركية أكثر مما تعكس تحولًا حقيقيًا في مقاربتها للصراع. فاللقاء، الثاني فقط منذ بدء الولاية الثانية للرئيس الأميركي دونالد ترمب، جاء في لحظة انفجار بطيء في الضفة الغربية، حيث يتصاعد عنف المستوطنين بلا رادع، وتتوسع العمليات العسكرية الإسرائيلية، فيما تكتفي واشنطن بدور المراقب القَلِق لا الفاعل المؤثر.

اللقاء لم يكن ثمرة مبادرة سياسية أميركية مدروسة، بل استجابة اضطرارية لتدهور ميداني بات يهدد بانهيار ما تبقى من "الاستقرار" الهش في الضفة. ومع ذلك، فإن مضمون النقاش يكشف حدود الدور الأميركي: قلق لفظي، وضغوط خلف الكواليس، وغياب شبه كامل لأي أدوات إلزام حقيقية تجاه إسرائيل، الحليف الذي تُمنَح له عمليًا حرية التصرف.

أحد أبرز الملفات التي طُرحت كان عنف المستوطنين، الذي تحوّل من ظاهرة هامشية إلى سياسة أمر واقع تحظى بحماية ضمنية من الجيش الإسرائيلي. ورغم اعتراف مسؤولين أميركيين بأن واشنطن تحث إسرائيل على التحرك، إلا أن هذا "الحث" لم يتجاوز الخطاب الدبلوماسي الناعم، في وقت ترفض فيه الإدارة الأميركية استخدام أدوات الضغط المتاحة لها، من مشروطية المساعدات إلى المحاسبة السياسية. وهكذا، تبدو السياسة الأميركية شريكًا سلبيًا في تكريس الإفلات من العقاب.

الملف المالي لا يقل دلالة على هذا النهج. استمرار إسرائيل في احتجاز أموال المقاصة الفلسطينية، التي تشكّل عصب ميزانية السلطة، حوّل الأزمة السياسية إلى أزمة معيشية خانقة. ورغم علم واشنطن بأن هذا الإجراء يدفع السلطة نحو الشلل وربما الانهيار، فإن تدخلها بقي شكليًا، محكومًا بحسابات داخلية أميركية وبخشية دائمة من أي صدام مع الحكومة الإسرائيلية، خصوصًا في ظل نفوذ اليمين المتطرف داخلها.

المفارقة أن الإدارة الأميركية تدّعي القلق من ضعف السلطة الفلسطينية، لكنها تتسامح مع السياسات الإسرائيلية التي تقوّض هذه السلطة يوميًا. هذا التناقض يكشف جوهر المقاربة الأميركية: الحفاظ على السلطة كجهاز إداري وأمني دون تمكينها سياسيًا أو ماليًا، بما يضمن إدارة الاحتلال لا إنهاءه.

البعد الديني والإنساني في اللقاء، والمتعلق بحرية حركة المسيحيين الفلسطينيين خلال الأعياد، يكشف بدوره ضيق أفق التدخل الأميركي. فبدل معالجة بنية السيطرة الإسرائيلية التي تخنق الضفة الغربية بالحواجز، تُختزل القضية في تسهيلات موسمية، وكأن المشكلة إنسانية ظرفية لا سياسية بنيوية.

سياسيًا، يحمل اللقاء دلالة إضافية تتعلق بإعادة تعريف العلاقة الأميركية–الفلسطينية. فإغلاق القنصلية الأميركية في القدس خلال الولاية الأولى لترمب لم يكن إجراءً إداريًا فحسب، بل إعلانًا سياسيًا بتخفيض مكانة الفلسطينيين في الحسابات الأميركية. واليوم، ورغم عودة الحوار، فإن هذا التخفيض ما زال قائمًا، إذ تُدار العلاقة مع السلطة الفلسطينية من السفارة الأميركية لدى إسرائيل، في تكريس عملي للرواية الإسرائيلية.

قبول السلطة الفلسطينية بهذا الواقع لا يعكس رضًا، بل اضطرارًا. فالعزلة السياسية، والضغط المالي، وتراجع الاهتمام الدولي، دفعت رام الله إلى تبنّي مقاربة براغماتية تقوم على الحد الأدنى من التواصل مع واشنطن، حتى وإن كان ذلك على حساب الموقف السياسي. غير أن هذه البراغماتية قد تتحول إلى عبء داخلي، إذا استمرت من دون نتائج ملموسة.

في المحصلة، لا يبدو لقاء هاكابي–الشيخ مؤشرًا على تحول في السياسة الأميركية، بقدر ما هو دليل إضافي على سياسة إدارة الأزمات بدل حلّها. فواشنطن، المنشغلة بحساباتها الداخلية وتحالفاتها التقليدية، تفضّل إبقاء الصراع في حالة "توازن هش"، حتى لو كان الثمن مزيدًا من العنف والتآكل السياسي في الأراضي الفلسطينية.

تكمن المشكلة الأساسية في السياسة الأميركية في كونها تفصل بين التشخيص والفعل. فواشنطن تدرك تمامًا مخاطر عنف المستوطنين وانهيار السلطة الفلسطينية، لكنها تفتقر، أو تفتعل الافتقار، إلى الإرادة السياسية لاستخدام نفوذها الحقيقي. هذا التردد لا يعكس ضعفًا، بل خيارًا واعيًا بتغليب التحالف مع إسرائيل على أي التزام بالقانون الدولي أو الاستقرار طويل الأمد.

أما فلسطينيًا، فإن التعويل المستمر على دور أميركي منحاز أثبت فشله مرارًا. فالانخراط مع واشنطن، دون إعادة بناء أوراق قوة سياسية وشعبية، يحوّل السلطة إلى طرف يتلقى الوعود بدل أن يفرض الوقائع. وفي ظل انسداد الأفق السياسي، قد يصبح هذا النهج أحد عوامل تآكل الشرعية الداخلية، بدل أن يكون مدخلًا لتخفيف الأزمة.


القدس المصدر: القدس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا