آخر الأخبار

انتهاكات إسرائيل المتواصلة تفرغ وقف إطلاق النار من مضمونه وتمهد لتقسيم فعلي في غزة

شارك

واشنطن – "القدس" دوت كرم -سعيد عريقات

رغم مرور شهرين على الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة في 9 تشرين الأول، فإن الوقائع اليومية تشير بوضوح إلى أن الاتفاق لم يتحول يومًا إلى حقيقة. فمنذ اللحظة الأولى تقريبًا، استمرت العمليات العسكرية الإسرائيلية بوتيرة متفاوتة، فيما تصاعدت الانتهاكات بشكل جعل الحديث عن “هدنة” يبدو أقرب إلى وصف سياسي منه إلى واقع ميداني.

فبحسب إحصاءات موثوقة، سجلت إسرائيل 591 انتهاكًا لوقف النار بين 10 تشرين الأول و2 كانون الثاني ، شملت غارات جوية وقصفًا مدفعيًا وإطلاق نار مباشر، أسفرت عن مقتل 347 فلسطينيًا وإصابة 889 آخرين، بينهم نساء وأطفال وصحفيون. وعلى الجانب الإسرائيلي، يكاد يغيب أي سجل لإصابات خلال الفترة ذاتها، باستثناء حادثة واحدة في رفح ادعت فيها إسرائيل مقتل جندي، بينما نفت حماس مسؤوليتها.

وتجسدت قواعد الاشتباك الإسرائيلية بأوضح صورها في حادثة مقتل الشقيقين الفلسطينيين، الطفلين الشقيقين فادي تامر أبو عاصي وجمعة تامر أبو عاصي (9 سنوات و 10 ستوات)، قرب خان يونس، في نهاية تشرين الثاني الماضي حين قال الجيش إنه رصد "مشتبهين" يقومان بـ"نشاطات مشبوهة"، قبل أن يعلن تصفيتهما بغارة جوية. غير أن "التهديد" لم يكن سوى طفلين يبلغان 9 و10 أعوام خرجا لجمع الحطب. حادثةٌ، يقول الخبراء، تعكس مزاجًا عامًا أصبح فيه الفلسطيني ألأعزل هدفًا مشروعًا بمجرد الاشتباه به أو بمجرد وجوده في المكان الخطأ.

ولم يقتصر هذا النهج على غزة. ففي لبنان، ورغم التوصل إلى وقف لإطلاق النار في نوفمبر 2024، سجلت قوة اليونيفيل أكثر من 7500 انتهاك جوي و2500 انتهاك بري من الجانب الإسرائيلي. وهو ما وصفه أحد المقررين الأمميين بأنه "تجاهل تام لروح الاتفاق". وبحسب مراقبين ميدانيين، فإن هذه السلوكيات باتت جزءًا من سياسة ممنهجة ترى الهدنة مجرد مساحة زمنية للتهيئة العسكرية أكثر منها اتفاقًا ينبغي احترامه.

يشار إلى أن هذا النمط تكرر أيضًا بعد اتفاق وقف النار في غزة في كانون الثاني الماضي، حين رحبت إسرائيل بالإفراج الجزئي عن الرهائن ثم استخدمت الهدوء المؤقت لإعادة تنظيم قواتها، قبل أن تنسحب من الاتفاق وتستأنف العمليات في يوم 18 آذار . ويشير خبراء إلى أن هذا السلوك يكشف "توظيفًا تكتيكيًا" لوقف النار، بحيث يتحول الاتفاق إلى محطة لالتقاط الأنفاس بدل أن يكون قاعدة لبناء مسار سياسي.

على هذه الخلفية، طُرحت "خطة النقاط العشرين" الخاصة بغزة، التي صاغتها إدارة ترمب مع مشاركة غير معلنة من إسرائيل. خطةٌ تُجمِع القراءات على أنها صُممت بما يتوافق إلى حد بعيد مع الرؤية الإسرائيلية، وهو ما يفسر رفض حماس لها، وخصوصًا أنها لم تُشرك في صياغتها من الأساس. وتقدم الخطة تصورًا لحكم القطاع عبر هيئة دولية يترأسها دونالد ترمب، مع احتمال ضم رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير—وهو اسم يثير حفيظة شريحة واسعة من العرب بسبب دوره في غزو العراق وفشله في مهامه الخاصة بملف السلام.

وتنتقد حماس ما تعتبره "انحيازًا فاضحًا" للخطة، خصوصًا في ما يتعلق بتفويض قوة دولية بمهام نزع سلاح المقاومة، وهو ما يجعلها، وفق بيانها، "طرفًا في الصراع إلى جانب الاحتلال". ويرى خبراء أن هذا البند وحده كفيل بتقويض أي محاولة لإقناع الدول بالمشاركة في القوة الدولية المقترحة، لأن نزع سلاح المقاومة مهمة لم تنجح إسرائيل نفسها في تحقيقها رغم حرب مدمرة طالت عامين.

ورغم أن الخطة جاءت بمنحٍ سياسية وأمنية كبيرة لإسرائيل، فإن حكومة نتنياهو تتعامل معها بحذر لافت، لأن أحد بنودها يتيح لإسرائيل مواصلة احتلال أجزاء من غزة إلى أجل مفتوح إذا رأت—بشكل منفرد—أن شروط الانسحاب لم تتحقق. ويقول محللون إن هذا البند يمنح إسرائيل قدرة على التحكم بمصير الخطة نفسها، ما يجعل تنفيذها الكامل غير مرجح.

في المقابل، لا تزال إدارة ترمب تواجه صعوبة واضحة في تجنيد دول للمشاركة في قوة الاستقرار الدولية. فغياب وقف إطلاق نار فعلي، واستمرار العمليات العسكرية، يجعلان أي مشاركة بمثابة انخراط في صراع مفتوح يصعب التنبؤ بتداعياته. كما أن الدول العربية على وجه الخصوص لا ترغب في الظهور كمنفذة لمهام أمنية تصبّ في مصلحة إسرائيل، "وفق قول الخبراء"، الذين يشيرون إلى أن تكلفة مثل هذا الدور أكبر بكثير من مكاسبه السياسية.

أما داخل إسرائيل، فلا تزال حسابات بقاء نتنياهو السياسي تلعب دورًا حاسمًا في استمرار الحرب. فرئيس الوزراء الإسرائيلي يعتمد على ائتلاف يميني متطرف يرفض أي وقف للعمليات ويطالب بخطوات أكثر تشددًا تجاه الفلسطينيين. ويشير خبراء سياسيون إلى أن فكرة "العفو القضائي" عن نتنياهو مقابل خروجه من المشهد السياسي—وهي فكرة يروج لها بعض حلفائه ويدعمها ترمب—لا تزال مثار جدل واسع داخل إسرائيل، ما يجعل رئيس الحكومة أكثر تمسكًا بنهج التصعيد.

ويبرز اتجاه مقلق آخر: بناء واقع تقسيمي دائم في غزة على طول "الخط الأصفر"، مع إنشاء بنى تحتية توحي بأن إسرائيل تستعد لاحتلال طويل الأمد لأكثر من نصف القطاع. وفي الوقت نفسه، تسعى إدارة ترمب—كما يُنقل عن مصادر أميركية—إلى إنشاء تجمعات سكنية في الجانب الذي تهيمن عليه إسرائيل من أجل تقديمه كـ"نموذج معيشي أفضل"، بينما يبقى القسم الآخر غارقًا في الفقر والدمار، وسط تقييد شديد لدخول المساعدات، حيث لم يُسمح سوى بدخول 20% من الشاحنات التي نص عليها اتفاق وقف إطلاق النار.

في ضوء هذه الصورة، ومع انشغال واشنطن بملفات أخرى كأوكرانيا وإيران، يبدو أن آفاق أي حل سياسي لغزة تتراجع أكثر فأكثر. فلا هدنة قائمة، ولا خطة قابلة للتنفيذ، ولا نية إسرائيلية لرفع السيطرة، ولا بيئة دولية مستعدة للانخراط. وهذا كله، وفق قول الخبراء، يجعل احتمال تحقيق سلام حقيقي في المنطقة أبعد من أي وقت مضى.

القدس المصدر: القدس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا