بعد 6 أشهر على انطلاقها، أعلنت "مؤسسة غزة الإنسانية" الأميركية انتهاء عملها في القطاع، تاركة خلفها سجلا طويلا من تجويع مليوني فلسطيني، وقتل أكثر من ألف منهم أثناء محاولاتهم الحصول على الطعام على أعتاب نقاط التوزيع الخاصة بها.
ورغم أن المؤسسة قالت إنها تُنهي مهمتها "التاريخية" بعد توزيع 187 مليون وجبة مجانية، فإنها أبقت جروحا مفتوحة لآلاف المصابين الشهود على الجرائم التي ارتكبها الجنود والمرتزقة بحق المجوعين.
فهل يُغلق ملفها مع انتهاء عملها؟ أم يبقى مفتوحا لمحاسبتها على مشاركتها في حرب الإبادة التي شنتها إسرائيل على غزة؟
لا يزال جسد عبد الله أبو شاويش يحمل أوجاعا على إثر إصابته بطلق ناري في قدمه أطلقه عليه قناص أثناء محاولته الحصول على الطعام من مركز توزيع المساعدات الأميركية، الذي أقامته المؤسسة في منطقة "نتساريم" وسط القطاع.
ويعاني من سقوط في قدمه ويحتاج إلى علاج في الخارج، وتحتفظ ذاكرته بمشاهد مؤلمة كثيرة لضحايا قتلوا أمام عينيه، بعدما انتظروا لساعات طويلة وهم جوعى للحصول على وجبة طعام.
ويعاني أيمن أبو شنب من إصابة قاتلة، حيث أصابت عدة رصاصات بطنه وأدت لتقطع أحشائه، بعدما اندفع مع غيره من المجوعين للحصول على الطعام من أحد مراكز توزيع المساعدات.
ورغم أن "مؤسسة غزة" قالت إنها نجحت في توزيع 187 مليون وجبة، لكن هذا الرقم يكشف مشاركتها في تجويع القطاع.
وتكشف عملية حسابية بسيطة، بتقسيم عدد الوجبات المعلن الذي تم توزيعه خلال 6 أشهر من عملها على عدد سكان غزة البالغ 2.4 مليون شخص، أن حصة الفرد الواحد تبلغ 78 وجبة خلال 180 يوما، أي إنه يتناول 13 وجبة فقط خلال الشهر الواحد، ويبقى أكثر من نصف الشهر جائعا.
وبدأت المؤسسة عملها بغزة في 27 مايو/أيار الماضي، أي بعد شهرين كاملين من إغلاق قوات الاحتلال جميع معابر القطاع، وفي الوقت الذي كانت ترفض فيه إدخال أي مساعدات إنسانية عبر المؤسسات الدولية.
وقال جون أكري المدير التنفيذي للمؤسسة "كان هدفنا إثبات أن نهجا جديدا يمكن أن ينجح، حيث فشلت الأساليب السابقة، وذلك بقيادة فريق أميركي من محترفي العمل الإنساني، وعسكريين سابقين".
إلا أن الإحصاءات الخاصة التي حصلت عليها الجزيرة نت من الجهات المختصة في غزة تثبت استشهاد 1109 فلسطينيين، سقطوا بصورة مباشرة نتيجة إطلاق النار أو القصف خلال الاقتراب أو الدخول إلى مراكز التوزيع الأميركية، من بينهم 225 طفلا، و852 بالغا، و32 من كبار السن.
وتشير البيانات إلى أن 464 شهيدا منهم سقطوا في مركز توزيع "نتساريم"، و645 شهيدا في مراكز توزيع رفح.
وبلغ مجمل عدد الشهداء الذين استهدفوا أثناء انتظار المساعدات طوال عامين من الحرب 1506 شهداء، و19 ألفا و182 إصابة، أي أن مراكز توزيع المؤسسة قتلت 73% من إجمالي عددهم، في مشاهد تجسد جريمة تجويع وقتل مقصود.
كما يقول إسماعيل الثوابتة مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي في غزة.
وأكد الثوابتة أن الاحتلال حوّل مراكز توزيع المساعدات التابعة للمنظومة الأميركية-الإسرائيلية إلى مصائد للموت والقتل الجماعي، وارتكاب جرائم منظمة تحت غطاء "مراكز إنسانية".
وشدد على أن هذه الانتهاكات تشكّل جرائم حرب مكتملة الأركان وجزءا من سياسة الإبادة الجماعية عبر التجويع التي ينفذها الاحتلال بحق سكان القطاع.
وعملت مؤسسة "غزة الإنسانية" من خلال 4 مراكز فقط في وسط القطاع وجنوبه، يقول الثوابتة إن الاحتلال روّج أنها تتبنى نظاما آمنا ومنظما لتوزيع المساعدات.
إلا أن الوقائع الميدانية أثبتت سريعا أن الهدف الحقيقي كان إدارة وهندسة التجويع وتوجيه حركة المدنيين إلى نقاط مكشوفة تتخذها قوات الاحتلال كأدوات للتحكم والسيطرة.
وشهدت المؤسسة عدة استقالات من القائمين عليها خلال فترة عملها احتجاجا على ممارساتها وانتهاكاتها بحق المجوعين.
وكانت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) قد طالبت، في بيان لها، المؤسسات القانونية والمحاكم الدولية، "بملاحقة المؤسسة والقائمين عليها، ومحاسبتهم على جرائمهم بحق الشعب الفلسطيني، حتى لا تتكرر المأساة، ولحماية الإنسانية من الإرهاب الدولي المنظم".
قانونيا، قال محمد الخيري، منسق أعمال مركز غزة لحقوق الإنسان، إنهم تابعوا بقلق بالغ الدور الخطير الذي قامت به هذه المؤسسة، وما رافق عملها من ممارسات أثبتت الانحياز الواضح والتسييس الفاضح للمساعدات الإنسانية.
ووثق المركز شهادات ووقائع تشير إلى أن نموذج عمل المؤسسة اعتمد على عسكرة المساعدات، وربط عمليات توزيعها بجهات عسكرية وأمنية، مما أدى إلى تعريض المدنيين للموت أو الإصابة أثناء محاولتهم الوصول إلى الغذاء.
إلى جانب خلق بيئة تمييزية في توزيع المساعدات، وحرمان شرائح واسعة حقها في الوصول إلى الغذاء والدواء، استنادا إلى اعتبارات لا علاقة لها بالمعايير الإنسانية.
وأوضح الخيري أن هذه الممارسات تشكل انتهاكا صارخا للقانون الدولي الإنساني، ولأحكام اتفاقيات جنيف لعام 1949، خاصة ما يتعلق بحماية المدنيين.
وأكد أن نمط عمل المؤسسة الأميركية يتعارض بشكل مباشر مع الإجراءات والتوجيهات الصادرة عن الجنائية الدولية التي شددت في قراراتها الأخيرة بشأن الوضع في غزة على حظر استخدام التجويع كوسيلة حرب.
وحسب الخيري، فإن الجرائم والانتهاكات التي ارتكبتها هذه المؤسسة لا تسقط بالتقادم، ولا يمكن إغلاق ملفها بمجرد إعلان توقف أنشطتها أو مغادرتها الميدان.
وطالب بفتح تحقيق جنائي دولي عاجل في دورها والمسؤولين عنها، وكل جهة قدمت دعما أو غطاء لهذه السياسات المخالفة للقانون.
ودعا السلطات في دول تسجيل المؤسسة إلى فتح تحقيق رسمي في عملها وارتباطاتها، واتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة، بما في ذلك تجميد نشاطها أو سحب ترخيصها إذا ثبت تورطها في انتهاكات.
وأكد على ضرورة ضمان حق الضحايا وذويهم في اللجوء إلى القضاء، وطلب تعويضات عادلة عن الخسائر البشرية والمادية والمعنوية التي تسبب بها نموذج عملها.
كما دعا المجتمع الدولي إلى إعادة المساعدات الإنسانية إلى القنوات المحايدة والمعترف بها دوليا، وعلى رأسها وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية المستقلة، بعيدا عن أي تدخل سياسي أو عسكري.
المصدر:
القدس