آخر الأخبار

تراجع تاريخي بالتعاطف مع الاحتلال الإسرائيلي ببريطانيا.. وصعود للتضامن مع فلسطين في 2025

شارك

لم يعد المشهد في بريطانيا يشبه ما كان عليه قبل عامين، فالمجتمع الذي اعتاد متابعة ما يجري في الشرق الأوسط من مسافة آمنة، بدأ يتحدث اليوم بصوت أكثر وضوحا وحسما عن موقفه الأخلاقي من الإبادة في غزة.

يمكن القول بلا مبالغة إن ما يحدث الآن يمثل أكبر تحوّل تشهده علاقة الرأي العام البريطاني بالقضية الفلسطينية منذ عقود طويلة.

فوفق ما نُشر خلال خريف 2025، تراجع مستوى التعاطف مع الاحتلال الإسرائيلي إلى نحو 12 في المئة فقط، وهو أدنى مستوى مُسجّل حتى الآن، مقابل صعود ملحوظ في التعاطف مع الفلسطينيين وصل في بعض التقديرات إلى نحو 38 في المئة.

والأهم من ذلك أن شريحة واسعة من البريطانيين لم تعد ترى ما يجري في غزة قابلا للتبرير أخلاقيا أو قانونيا، مهما تغيّرت التفاصيل أو تبدّلت السرديات.

ومع ذلك، تبقى هذه الأرقام مجرد مدخل لقصة أكبر مما يمكن أن تقوله استطلاعات الرأي.

فالتحوّل لم يكن نتيجة تبدّل سياسي داخل الأحزاب، ولا بسبب تغير في الخطاب الرسمي، بل بدأ من مكان أبسط وأكثر مباشرة: حجم الجرائم الهمجية التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي على مرأى العالم.

ومع اتساع دائرة الإبادة، واستهداف المستشفيات والمدارس والمخيمات، وسياسات العقاب الجماعي، أصبح من الصعب على الجمهور البريطاني قبول العبارات المتكررة حول 'الدفاع عن النفس' أو 'الحق في الرد'.

فصور الأطفال تحت الأنقاض، والأسر التي أُبيدت بالكامل، والمرضى الذين أُخرجوا من المستشفيات بعد انقطاع الكهرباء والوقود، لم تمرّ هذه المرة عبر شاشات بعيدة أو روايات رسمية جاهزة، بل وصلت مباشرة إلى كل بيت، وفرضت على الناس مواجهة سؤال بسيط وقاسٍ في آن: ماذا يعني الصمت أمام مشهد بهذا الوضوح؟

ومع كل محاولة من الاحتلال لإنكار مسؤوليته عن قصف مستشفى أو مجزرة في مخيم، كان الدليل المرئي يكشف الحقيقة خلال ساعات قليلة.

وهكذا بدأ الوعي البريطاني ينتقل تدريجيا من الحديث عن 'صراع بين طرفين' إلى إدراك أن ما يحدث هو عملية إبادة ينفّذها طرف يملك القوة الكاملة ضد شعب محاصر منذ سنوات طويلة.

وعلى مدى عامين كاملين، شهدت بريطانيا ما لم تشهده في أي قضية خارجية أخرى في تاريخها الحديث.

فمنذ الأسابيع الأولى للإبادة، خرجت في لندن ومدن أخرى مسيرات وُصفت بأنها الأكبر في أوروبا الغربية، تجاوز بعضها مئات الآلاف من المشاركين، واستمرت أسبوعا بعد أسبوع دون أن تتراجع أو تتحول إلى موجة موسمية.

ثم تطوّرت أشكال التضامن؛ من الشوارع إلى الجامعات، ومن الاتحادات المهنية إلى المجالس المحلية، وصولا إلى النقاش البرلماني حول وقف تصدير السلاح للكيان المحتل ومراجعة التزامات بريطانيا القانونية.

والمهم أن هذا التضامن لم يكن حكرا على العرب أو المسلمين، بل شاركت فيه شرائح واسعة من المجتمع البريطاني: طلاب وأكاديميون وأطباء ومحامون وفنانون وعمال ورجال دين من خلفيات مختلفة.

كما برزت أصوات يهودية بريطانية أعلنت رفضها لسياسات الاحتلال الإسرائيلي في غزة، وأسهمت في مواجهة محاولات تشويه الحركة التضامنية أو عزلها عن الفضاء العام.

وبعد مرور عامين، لا تزال المسيرات تخرج في لندن، ولا يزال الحراك حاضرا وملتهبا على الأرض رغم القيود المتزايدة على التجمّع واللافتات.

وهذا وحده كافٍ للقول إن الأمر لا يتعلق بانفعال عابر، بل بتحوّل عميق في الضمير العام.

ولعل اللافت أن هذا التحوّل لم يبقَ في حدود التعاطف الإنساني، بل امتد إلى إعادة قراءة الجذور.

فقد بدأ كثير من البريطانيين، خصوصا الجيل الشاب، يسألون عن أسباب استمرار الاحتلال والحصار، وعن معنى المقاومة بالنسبة لشعب يعيش تحت الإبادة.

لم يعد الخطاب العام أسير الثنائية القديمة بين 'إرهاب' و'دفاع عن النفس'، بل بات أكثر وعيا بأن المقاومة ليست خيارا طارئا، بل نتيجة طبيعية لغياب العدالة واستمرار القمع.

أما على مستوى السياسة البريطانية، فإن صنّاع القرار يدركون حجم ما يجري، حتى وإن لم ينعكس ذلك بعد في تغيير واضح في المواقف الرسمية.

فقد بدأت الضغوط تظهر من خلال الدعوات إلى وقف تصدير الأسلحة للاحتلال الإسرائيلي، والمطالبة بفتح تحقيقات حول التواطؤ المحتمل، واتساع دائرة النواب الذين يتجنبون الدفاع العلني عن الاحتلال.

وقد تبيّن أن استمرار الإبادة هو العامل الأكثر تأثيرا في تبدّل المزاج العام، ومع كل مجزرة جديدة يتراجع الخطاب الذي كان يمنح الاحتلال غطاء أخلاقيا.

لقد بدّلت الإبادة في غزة طريقة نظر كثير من الناس إلى العالم، لكنها قبل ذلك غيّرت طريقة نظرهم إلى أنفسهم.

وفي بريطانيا تحديدا، لم يعد التضامن مع فلسطين تفصيلا سياسيا أو موقفا احتجاجيا، بل أصبح مرآة للضمير الإنساني ومقياسا للعدالة.

ومع أن الطريق لا يزال طويلا، فإن ما حدث خلال عامين فقط يثبت حقيقة بسيطة: حين تتعرّى الحقيقة من الروايات الوسيطة، يسقط الخوف، وتبقى العدالة حتى لو تأخرت.

وهكذا، فإن تراجع التعاطف مع الاحتلال الإسرائيلي لا يمثل نهاية القصة، بل بدايتها.

ففلسطين لم تعد عنوانا بعيدا، بل قضية مركزية في الوعي الأخلاقي للبريطانيين، وذاكرة يصعب أن تُمحى في المستقبل القريب.

تراجع مستوى التعاطف مع الاحتلال الإسرائيلي إلى نحو 12 في المئة فقط.
القدس المصدر: القدس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا