آخر الأخبار

من يبلسم الجراح النفسية والمادية للمعتقلين وأهالي المفقودين السوريين؟

شارك

دمشق- كغريق تعلق بقش، ناشدتني -مثل أخريات- نشر قصتها وحكايات فقد ابنتها أم كلثوم ياسر درويش وعدد من أفراد عائلتها منذ 12 عاما 'بلك (لعل وعسى) حد يساعدني'. تنازعن الحديث إليّ عن روايات الفقد المر، عن معاناتهن، عن بحثهن الدؤوب عن فلذات أكبادهن، وعن الإخفاق حتى مع انتصار الثورة التي علقن عليها آمالا عراضا في الإنصاف.

لا تفتأ إنعام محيى الدين الدبس -وهي زوجة شهيد وأم لثلاثة شهداء سقطوا جميعا في الثورة- تذكر ابنتها وهي تساق مع زوجها وابنها الرضيع ذي الشهور السبعة وعمها وحماتها واثنين من أبنائها، مع نسائم الفجر الأولى للرابع من أغسطس/آب 2013 من قبل جهة مجهولة بحيهم في 'دف الشوك' في دمشق، لتنقطع أخبارهم إلى اليوم.

ذرعت إنعام طول البلاد وعرضها بحثا عن أي خبر يقود إلى ابنتها وعائلة زوجها، فزارت كل الأفرع الأمنية والعسكرية، ونقبت -عبثا- بعد سقوط النظام بين جدران سجن صدنايا السيئ الصيت. وها هي اليوم تتلقى كلاما عاما 'غير ذي جدوى' على هامش لقاء أقامته 'الهيئة الوطنية للمفقودين' مع الأهالي في دومة بريف دمشق.

وهذه لمياء العبد الله تستعطف لنشر قصة فقد ابنها المولود عام 1982 محمد غصاب الحسين وزوجها غصاب هلال الحسين المولود عام 1959، اللذين اختطفا من الشارع في عام 2013. وتقول لمياء إن الجهة التي اختطفت ابنها من الشارع وبحوزته ألفا دولار أميركي هي 'لجان السومرية'، وهي مليشيا علوية كما تقول.

أما زوجها فقد سيق هو وسيارته من حي الميدان في الشارع العام في العام ذاته. وتتفق لمياء مع إنعام وأخريات هنا في أن هذه الاجتماعات 'لا فائدة منها' وتشكَّين جميعا من ضآلة المخصصات التي توفرها بعض الجمعيات المحلية لبعض أهالي المفقودين.

وإزاء حالات كهذه وكغيرها يدخل كثير من أهالي المفقودين، ومن المعتقلين السابقين ممن عانوا صنوف التعذيب، في نوبات نفسية تأخذهم من الاكتئاب إلى الإدمان والتفكير بالانتحار.

ويقول عبد الله الأعرج، منسق برنامج الصحة النفسية في رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا إن مركز الدعم النفسي التابع للرابطة قدّم منذ مطلع يونيو/حزيران إلى اليوم 297 من الخدمات النفسية لأشخاص بينهم 165 من الناجين من الاعتقال بينما الباقي من العائلات.

كما قدم 1500 خدمة دعم نفسي منذ بداية 2022 إلى فاتح يونيو/حزيران 2025. فالناجي من الاعتقال، وفق الأعرج، 'مر بتجارب صادمة من قبيل التعذيب وامتهان كرامته الآدمية، وهو ما يبقى ملازما له لدرجة يصل معها إلى تكيفات سلبية تصل -أحيانا- حد الإدمان وقد توصله إلى محاولة الانتحار'.

ويوضح أن تلك الأعراض تبدأ من الاكتئاب إلى انعدام الثقة بالآخر إلى الكوابيس إلى الآلام الجسدية إلى تسارع دقات القلب وآلام مزمنة وصعوبات في العلاقات الاجتماعية وأحيانا إلى مشاكل جنسية وتوتر وإدمان وتفكير بالانتحار.

أما أهالي المفقودين، فإنه حتى بعد فتح السجون بسوريا وإدراك الجميع أنه لم يعد هناك سجناء أحياء، فإن الكثير منهم -ما داموا لم يتسلموا جثامين أحبائهم أو يجدوا لهم قبورا- فإنهم يظلون أحياء بالنسبة لهم، ويتشبثون أحيانا بآمال كاذبة بأنهم نقلوا إلى الساحل السوري أو إلى دول الجوار كالعراق وإيران ولبنان.

وتفاقم ذلك شبكات الاحتيال التي تبتز الأهالي للدفع مقابل 'معلومات' عن أبنائهم.

ووفق رياض أولار، الرئيس المؤسس المشارك لـ'رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا'، يضاعف الآلامَ النفسية لبعض الأهالي شعورهم بالذنب بأنهم ربما كانوا هم أنفسهم 'وراء' اختفاء أبنائهم، حيث يتصور أحدهم أنه لو لم يرسله -مثلا- إلى الفرن لإحضار الخبز لما اعتقل، أو أنه لو لم يطلب منه أداء مشوار بين مدينتين لما اعتقل، وهكذا تتضاعف الآلام وتشتد الجراح النفسية المبرحة.

ويخضع الجميع من أهال ومعتقلين سابقين لدورات نفسية وعلاجات فيزيائية لآلامهم الجسدية المرتبطة بأوضاعهم النفسية هنا في هذه العيادة، في دعم مسار العدالة الانتقالية، حيث يُعد العلاج -وفق مسؤوليها- أحد الركائز الأساسية للتعافي النفسي والاجتماعي للناجين من الاعتقال والتعذيب وذوي المفقودين.

ووفق قاعدة بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان، بلغ عدد المختفين قسريا منذ مارس/آذار 2011 حتى أغسطس/آب 2025 أكثر من 177 ألفا، بينهم 4536 طفلا ونحو 9 آلاف سيدة، أغلبيتهم الساحقة، أي أكثر من 90% منهم كانوا معتقلين لدى النظام.

ورغم انكشاف الخراب وتحرير المعتقلين الأحياء ووقف شلال الانتهاكات الحقوقية المتدفق، يبقى ملف المفقودين الجرح الأكثر نزيفا في سوريا الجديدة، وهو ما يقتضي تضافر الجهود الوطنية والدولية لترميم هذا الجرح الغائر، وكسر هذه الدوامة القاتلة.

الجميع من أهالي المفقودين يعانون من آلام نفسية مبرحة بسبب غياب المعلومات عن أحبائهم.
القدس المصدر: القدس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا