آخر الأخبار

رحلة جوهانسبرغ ... وكلاء الدم وتُجّار التهجير

شارك

د. سهيل دياب: ما جرى قد يكون اختباراً لآلية ترحيل محتملة بعد قياس ردود فعل المجتمع الدولي تمهيداً لإمكانية تطبيق النموذج على نطاق أوسع

نعمان توفيق العابد: هناك ضرورة لتكثيف الجهود الدبلوماسية لمنع الدول من التعاون مع شبكات التهجير التي ينشئها الاحتلال

د. حسين الديك: طالما بقي قطاع غزة بلا إعمار وبلا أفق فسيظل مرشحاً لموجات تهجير متتابعة وربما أكبر مما ظهر حتى الآن

سليمان بشارات: ما يجري جزء من استراتيجية تهجير وترحيل إسرائيلية ممنهجة تهدف إلى خلق واقع ديمغرافي جديد في القطاع

د. تمارا حدّاد: جنوب إفريقيا قبلت وصولهم بدافع إنساني انسجاماً مع مواقفها التاريخية تجاه القضية الفلسطينية وليس تشجيعاً للتهجير

سامر عنبتاوي: الاحتلال يسعى لتوسيع هذا النموذج عبر الضغط على دول مختلفة لقبول فلسطينيين مُهجَّرين مستخدماً سياسة "العصا والجزرة"

تفتح حادثة خروج 153 فلسطينياً من قطاع غزة عبر مطار رامون الإسرائيلي ووصول 130 منهم إلى جوهانسبرغ في دولة جنوب إفريقيا، في ظروف اتسمت بالسرية وغياب الرواية الرسمية، باباً واسعاً أمام أسئلة حول الجهات التي تقف خلف العملية ودلالاتها السياسية والأمنية، وكيف تمت.

وبحسب كتاب ومحللين ومختصين وأساتذة جامعات، في أحاديث منفصلة لـ"ے"، فإن أهمية الحدث تبرز في مساره غير التقليدي، بدءاً من انطلاقه من مطار يخضع لسيطرة إسرائيلية كاملة، مروراً بمحطة التوقف في نيروبي ذات الارتباط الأمني التاريخي بتل أبيب، وصولاً إلى التسوية المؤقتة التي اعتمدتها جنوب إفريقيا لمنح إقامة لعدد من الواصلين، وسط احتجاز واستجواب امتد لساعات.

ويرون أن العملية قد تشكّل اختباراً أولياً لآلية تهجير محتملة لأهالي قطاع غزة، أو نموذجاً يُراد قياس ردود الفعل الدولية عليه قبل توسيعه، خصوصاً في ظل الحديث عن دور أمريكي وتنسيق استخباري أوسع يشمل أطرافاً إقليمية. ويتقاطع هذا السيناريو مع تحذيرات من تمدد شبكات "التهجير الناعم" باستغلال الضائقة الإنسانية العميقة في القطاع لإقناع المدنيين برحلات غامضة تُسوّق كفرص إنقاذ، بينما تُجرّدهم من الأوراق وتضعهم في مواجهة مصير مجهول، بما يتواءم مع الأهداف الإسرائيلية بفرض التهجير.

النقطة الجوهرية تبدأ من مطار رامون

يؤكد أستاذ العلوم السياسية والمختص بالشأن الإسرائيلي د. سهيل دياب أن خروج 153 فلسطينياً عبر مطار رامون الإسرائيلي إلى جنوب إفريقيا، في عملية اتسمت بالسرية التامة وغياب الرواية الرسمية من جميع الأطراف، يفتح الباب أمام ضرورة تجميع المعطيات وتحليلها لمعرفة الجهات المستفيدة من هذه الخطوة ومن خطط لها.

ويشير دياب إلى أن النقطة الجوهرية تبدأ من مطار رامون، الواقع تحت سيطرة إسرائيلية كاملة، والذي لا يمكن أن تقلع منه طائرة أو يتحرك داخله شخص دون معرفة أمنية دقيقة، وعليه، فإن خروج هؤلاء الأشخاص دون تأشيرات أو أوراق ثبوتية -بحسب ما كشفته السلطات الجنوب إفريقية- يشير إلى أن إسرائيل كانت على علم كامل بالعملية، وأن السرية التي أحاطت بها كانت مقصودة، لا سيّما وأن ركّاب الطائرة احتُجزوا في جوهانسبرغ لمدة 12 ساعة للتدقيق، قبل منح 130 منهم إقامة مؤقتة، وترحيل 23 إلى بلد ثالث.

ويشدد دياب على أن محطة التوقف في نيروبي ليست تفصيلاً ثانوياً، فالعلاقات الأمنية العميقة بين كينيا وإسرائيل الممتدة منذ السبعينات تطرح دلالة واضحة على وجود تنسيق استخباري.

ويرى دياب أن نقل هذا العدد من الأشخاص دون وثائق أو تأشيرات لا يمكن أن يتم دون تفاهم كامل مع الولايات المتحدة الأمريكية، خصوصاً مع وجود قيادة مشتركة في قاعدة "كريات جات" التي يعقد فيها الأميركيون والإسرائيليون تنسيقاً دائماً.

ويشير دياب إلى اجتماع جرى قبل أيام بين مسؤولين أمريكيين و"ياسر أبو شباب"، الذي يتعامل مع إسرائيل ومجموعات في رفح.

من خلال جمع هذه الخيوط، يصل دياب إلى استنتاجات واضحة بشأن وصول أولئك الأشخاص إلى جنوب إفريقيا: اليد إسرائيلية، والمعرفة أمريكية، والتعاون إفريقي استخباري.

أما دوافع العملية، فيضعها دياب تحت احتمالين رئيسيين: الأول: أن تكون اختباراً لآلية ترحيل محتملة عبر إرسال مجموعات صغيرة لقياس ردود فعل المجتمع الدولي، تمهيداً لإمكانية تطبيق النموذج على نطاق أوسع، والثاني: أن يكون الخارجون عناصر متعاونة مع إسرائيل، جرى إخراجهم لأسباب أمنية تتعلق بحمايتهم أو لأدوار مستقبلية محتملة، على غرار ما حدث مع قوات سعد حداد في لبنان خلال الثمانينيات.

الصمت الإسرائيلي ليس تفصيلاً عابراً

ويؤكد دياب أن الصمت الإسرائيلي الكامل حتى الآن ليس تفصيلاً عابراً، بل رسالة بحد ذاتها، تعكس طبيعة العملية وأهدافها المركّبة.

ويحذر دياب من توسّع "التهجير الناعم" للفلسطينيين، وذلك من خلال شبكات وشركات يجري الترويج لها بواجهات عربية، تعمل داخل الأراضي الفلسطينية أو في مناطق أخرى، وتستغل الظروف الإنسانية والمعيشية الصعبة لدفع الفلسطينيين نحو مغادرة البلاد بصورة غير مباشرة.

ويشير إلى ما أعلنته دولة جنوب إفريقيا حول تورّط شركة فلسطينية تعمل من الضفة الغربية في تسهيل خروج المجموعة التي وصلت إلى جنوب إفريقيا قبل أيام، وهو ما يشكّل مؤشراً خطيراً على دخول وسطاء محليين وإقليميين في عملية التهجير، بما يخدم أجندات وأهداف إسرائيل.

ويلفت دياب إلى أن هذه الدفعة من الفلسطينيين الذين خرجوا من غزة إلى جنوب إفريقيا لم تكن الأولى من نوعها، ولكنها الأولى التي تسربت لوسائل الإعلام.

تقليل عدد سكان القطاع أحد مرتكزات الحرب

يؤكد الكاتب والباحث السياسي والمختص في العلاقات الدولية نعمان توفيق العابد أن تقليل عدد سكان قطاع غزة يشكّل أحد المرتكزات الأساسية في الحرب الإسرائيلية.

ويوضح العابد أن الاحتلال يسعى لتحقيق هدف التهجير عبر الإبادة الجماعية المباشرة أو من خلال التجويع الممنهج الذي ما زال مستمرًا رغم وقف إطلاق النار واتفاق شرم الشيخ وخطة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب.

ويشير إلى أن استمرار سقوط شهداء بعد وقف العدوان، وإغلاق المعابر، ومنع إدخال المساعدات الحيوية والمواد الأساسية والأدوية وحليب الأطفال، كلها شواهد تؤكد وجود استراتيجية ثابتة لإضعاف السكان ودفعهم إلى ترك القطاع.

ويبيّن العابد أن الدمار الذي لحق بقطاع غزة، وقُدّر بنحو 80% من المباني والبنية التحتية، بما يشمل المستشفيات والمدارس والمراكز الصحية والإسعافية، حوّل القطاع إلى منطقة غير قابلة للسكن.

ووفق رؤية العابد، فإن هذا الواقع يدفع الفلسطينيين إلى التفكير بما تسميه إسرائيل "الهجرة الطوعية"، أو ما يمكن وصفه بـ"التهجير الصامت"، في ظل انعدام الأمل بالحياة الطبيعية والبقاء.

ويلفت العابد إلى وجود مكاتب إسرائيلية سرية متخصصة في تنظيم عمليات ترحيل عبر طرق غير قانونية، ومن دون أوراق ثبوتية، ونقل فلسطينيين إلى دول مختلفة دون تنسيق مسبق، وهو ما أكدته حادثة جنوب إفريقيا، التي يعتبرها "نموذجًا واحدًا مما خفي أكثر مما ظهر".

ويرى العابد أن الاحتلال استغل وقف إطلاق النار لتوسيع عمليات التهجير وتسهيلها لوجستيًا، بهدف الوصول إلى أدنى مستوى ديموغرافي ممكن في القطاع.

ويحذر العابد من أن استمرار نجاح هذه العمليات -سواء أعلنت الدول استقبال المهجرين أو رفضتهم كما فعلت جنوب إفريقيا- يعني اتساع دائرة الهجرة القسرية في ظل غياب الإعمار، وتعثر جهود الإيواء، وتآكل الأمل لدى السكان، خاصة مع دخول فصل الشتاء وغياب فرص العمل والحياة.

ويؤكد العابد أن مواجهة هذه المخططات تتطلب تحركًا فلسطينيًا عاجلًا يشمل الإسراع في إعادة الإعمار، وإقامة أماكن الإيواء، وضمان وقف إطلاق نار شامل ودائم، وانسحاب قوات الاحتلال، وتفعيل دور الشرطة الفلسطينية، وإعادة إدخال المساعدات إلى جميع المناطق. ويشدد العابد على ضرورة تكثيف الجهود الدبلوماسية لمنع الدول من التعاون مع شبكات التهجير التي ينشئها الاحتلال داخل إسرائيل وخارجها.

ويشير العابد إلى أن التصريحات العلنية لرموز الحكومة الإسرائيلية، من إيتمار بن غفير إلى بتسلئيل سموتريتش، وحتى نتنياهو نفسه، إضافة إلى فتاوى عدد من الحاخامات التي تدّعي "أحقية اليهود بالأرض وطرد الفلسطينيين"، كلها تؤكد أن مشروع التهجير ليس اجتهادًا عابرًا، بل عقيدة سياسية راسخة في بنية العقلية الإسرائيلية.

التهجير لم يسقط من أجندتي أمريكا وإسرائيل

يوضح أستاذ العلوم السياسية والمختص بالشأن الأمريكي والعلاقات الدولية د. حسين الديك أن مخطط التهجير القسري لسكان قطاع غزة لم يسقط بعد من أجندتي واشنطن وتل أبيب، مؤكدًا أن الموضوع ما زال حاضرًا بقوة في التفكير السياسي الأمريكي الإسرائيلي، رغم الإعلان عن اتفاق شرم الشيخ ضمن ما يُعرف بـ"خطة ترامب".

ويشير الديك إلى أن المرحلة الأولى من الاتفاق لم تُنفّذ كما وُعد؛ فعدد الشاحنات التي تدخل غزة لا يتجاوز 170–175 شاحنة يوميًا، وهو أقل بكثير من الحد المتفق عليه البالغ 600 شاحنة، فيما يبقى معبر رفح مغلقًا، ما يعمق الأزمة الإنسانية ويعطل أي تقدم سياسي.

ووفق الديك، جاء الرئيس الأمريكي دونالد ترمب في هذه المرحلة بهدف إنقاذ رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من ثلاثة ضغوط مركزية: الضغط الداخلي الإسرائيلي المتصاعد نتيجة الفشل السياسي والأمني، وملف المحتجزين والجثث الإسرائيليين لدى حركة حماس، ووقف المظاهرات العالمية التي هزّت العواصم الغربية وأضعفت وحدة الموقف الدولي المؤيد لإسرائيل.

ويلفت إلى أن المواقف الأوروبية تخلخلت بشكل واضح، إذ ابتعدت بروكسل ولندن وباريس عن الاصطفاف التقليدي خلف تل أبيب، تاركة واشنطن وحيدة في الدعم المطلق، ما دفع ترامب للتدخل لاحتواء هذا التحول.

ويؤكد الديك أن وقف الحرب شكّل إنجازًا مهمًا من حيث تقليل عدد الضحايا المدنيين، رغم استمرار الاحتلال بتنفيذ عمليات عسكرية محدودة.

بيئة طاردة للحياة..

ويشير الديك إلى أن عدم الانتقال إلى المرحلة الثانية من الاتفاق في خطة ترمب يكشف نوايا إسرائيل الحقيقية، وأنها غير ملتزمة بما وُقّع، وتمضي نحو تحقيق أهدافها بعيدة المدى، وفي مقدمتها التهجير بصوره المختلفة؛ قسري، أو طوعي، أو مغطّى بمبررات إنسانية مثل العلاج ومرافقة المرضى.

ويصف الديك الواقع في غزة بأنه بيئة طاردة للحياة: خيامٌ لا تقي حر الصيف ولا برد الشتاء، وأمطار تُغرق الملاجئ، وحصارٌ خانق، وانعدام مطلق لمقومات العيش.

ويشير الديك إلى أن غزة اليوم "رمال وخيام فقط"، ما يدفع المواطنين إلى البحث عن أي منفذ للخروج، سواء عبر معبر كرم أبو سالم أو معبر رفح أو رحلات غير نظامية إلى دول مختلفة، مثل حادثة وصول 130 مواطنًا إلى جنوب إفريقيا.

ويوضح أن التهجير لا يحتاج دائمًا إلى سلاح؛ فالمجاعة والإغلاق وغياب الإعمار تشكل أدوات تهجير قسري بصيغة جديدة.

ويرجّح الديك تكرار تجارب الهجرة إلى دول أخرى، سواء أُعلن عنها أو جرت بصمت، خاصة في ظل استمرار الحصار وتلاشي الاستقرار السياسي والاقتصادي في قطاع غزة.

ويؤكد الديك أن غزة، طالما بقيت بلا إعمار وبلا أفق، ستظل مرشحة لموجات تهجير متتابعة، وربما أكبر مما ظهر حتى الآن.

منهجية خداع واضحة

يوضح الكاتب والمحلل السياسي سليمان بشارات أن ما يتعرض له الفلسطينيون الذين غادروا قطاع غزة في الأسابيع الأخيرة يشير إلى "منهجية خداع واضحة" لتحقيق هدفين أساسيين، يتمثل الأول في الدفع نحو التهجير الصامت عبر إغراءات السفر ثم ترك المواطنين دون أوراق رسمية، ما يجعل عودتهم شبه مستحيلة.

أما الهدف الثاني، كما يوضح بشارات، فيكمن في استغلال حاجة الفلسطينيين للأمان والاستقرار لجرّهم نحو مصير مجهول، مستنداً إلى رغبتهم في الهجرة المؤقتة لحماية عائلاتهم، قبل أن يجدوا أنفسهم بلا وثائق معترف بها أو أختام رسمية، خلافاً لما كان يحدث في أي تحرك مشابه سابقاً.

ويؤكد أن كثيراً من هؤلاء الفلسطينيين وقعوا ضحية وعود مضللة بالسفر إلى دول أوروبية أو غربية، بينما تُصادر وثائقهم أو تُترك دون أختام رسمية، في خطوة غير مسبوقة وتشير إلى "نية مبيتة لدفعهم إلى التيه في دول متعددة، ومن ثم الادعاء بأنهم لا يملكون حق العودة".

ويرى بشارات أن هذه السياسة ليست مجرد خلل إداري أو نهج عصابات يوقعون المواطنين بالخداع، بل جزء من استراتيجية ترحيل إسرائيلية ممنهجة تهدف إلى خلق واقع ديمغرافي جديد في القطاع تحت غطاء "السفر" و"حماية المدنيين".

ويوضح بشارات أن آلاف الفلسطينيين في غزة، نتيجة الدمار الهائل وفقدان المأوى، باتوا يبحثون عن فرصة للالتحاق بأقارب سبقوهم أو إيجاد مرحلة انتقالية توفر لهم الحد الأدنى من الأمن، الأمر الذي يجعلهم عرضة أكبر لعمليات التضليل.

ويشير بشارات إلى أن الاحتلال يستغل هذا الوضع الإنساني القاسي لتحويل الرغبة الفردية في الهروب المؤقت إلى مشروع تهجير شامل مدفوع سياسياً.

ويلفت إلى وجود أطراف دولية قد تكون متورطة أو متواطئة في هذه العمليات، سواء عبر تقديم نفسها كهيئات إنسانية أو عبر شركات ومنظمات تُنشأ خصيصاً لتسهيل هذا المسار تحت غطاء "الدعم والحماية".

ويرى بشارات أن بعض تلك الجهات قد يعمل بوصفه امتداداً غير مباشر للاحتلال، مؤكداً أن هذا المسار لا يمكن قراءته بمعزل عن "شبكة مصالح" تتقاطع مع أهداف إسرائيل في إعادة تشكيل المشهد السكاني.

ويُرجع بشارات إمكانية إفشال هذا المخطط إلى عاملين رئيسيين: الأول هو رفع مستوى الوعي الشعبي وكشف أساليب الخداع والتضليل، والثاني هو فتح نافذة أمل حقيقية أمام السكان، سواء عبر مسار إعادة الإعمار أو عبر جهود عربية وإقليمية فاعلة تعزز صمود الفلسطينيين داخل القطاع.

ويؤكد بشارات أن على الفصائل والجهات الفلسطينية والعربية تحمل مسؤولياتها في خلق أفق واقعي يثبت الفلسطيني في أرضه ويُفشل محاولات الترحيل القسري المتخفية تحت ستار "الهجرة الإنسانية".

جزء من آلية تهجير منظّم

ترى الكاتبة والباحثة السياسية د. تمارا حدّاد أن وصول 130 فلسطينياً من قطاع غزة إلى جنوب إفريقيا عبر شركات غير مرخّصة، هي حادثة ليست هجرة فردية عادية بل جزء من آلية تهجير منظّم تستغل الظروف الإنسانية القاسية داخل القطاع.

وتوضح حدّاد أن خروج هؤلاء تم من دون أوراق أو تأشيرات رسمية، ما يعكس وجود شبكات تعمل بأسلوب ممنهج، مستفيدة من المعاناة والدمار وانهيار البنية التحتية، وغياب الأفق السياسي، وتآكل ضمانات وقف القتال، الأمر الذي يدفع العائلات إلى البحث عن أي منفذ للهروب من الواقع الكارثي.

وترى أن هذا النمط من الرحلات "المجهولة" يرتبط باستراتيجية تهدف إلى تقليل الديمغرافيا الفلسطينية في غزة عبر "تهجير ناعم" يستثمر اليأس والإحباط ويُسوّق حلولاً وهمية عبر الإنترنت، مقابل مكاسب مالية أو سياسية.

وتشير إلى أن هذه الشركات تتواصل مباشرة مع المواطنين أو تتلقى اتصالات منهم، فيما لا يمتلك الفلسطيني القدرة على التحقق من قانونيتها وسط بيئة مضطربة وانسداد كامل للأفق، خاصة مع تدمير المدارس وحرمان الأطفال من التعليم، وانعدام أي مؤشرات على إعادة الإعمار.

وحول موقف دولة جنوب إفريقيا، تؤكد حدّاد أن الدولة قبلت وصول المجموعة بدافع إنساني وتعاطفي، انسجاماً مع مواقفها التاريخية تجاه القضية الفلسطينية، وليس تشجيعاً للتهجير، وهي التي أعلنت فتح تحقيق أمني لمعرفة الجهات التي نظّمت الرحلة، معتبرة أن الأمر بدا وكأنه محاولة لـ"إحراج جنوب إفريقيا" عبر إيصال قادمين بلا أي أوراق رسمية.

وتشير حدّاد إلى أن دولاً أخرى لن تتعامل بالطريقة نفسها، وقد تلجأ إلى رفض الدخول أو الاعتقال أو حتى إبقاء الواصلين داخل الطائرة، ما يجعل عمليات الخروج غير النظامية محفوفة بمخاطر كبيرة.

وتتوقع حدّاد أن تتكرر هذه العمليات بسبب استمرار الانهيار الإنساني في غزة ورغبة الكثيرين في النجاة بحياتهم، إلى جانب نشاط شبكات التهريب التي تسوّق الخارج كخلاص وحيد.

لكن حداد تؤكد أن هذه الرحلات تحمل تبعات قانونية معقّدة، إذ قد تُجبر بعض الدول الفلسطينيين على طلب اللجوء أو الخضوع لتحقيقات مشددة، بينما ترفض دول أخرى استقبالهم كي لا تبدو جزءاً من آلية تهجير الشعب الفلسطيني.

وتحذر حدّاد من أن غياب خطة "اليوم التالي" لغزة، وتأخر المساعدات، وتعطّل الإعمار، سيعزّز في أذهان السكان فكرة الهجرة الاضطرارية الجماعية.

وتشير حداد إلى أن حادثة جنوب إفريقيا ستدفع دولاً عديدة إلى فرض ضوابط أمنية صارمة على أي فلسطيني يصل بطرق غير مشروعة، إلى جانب تحقيقات ستطال المكاتب والشبكات التي تقف وراء هذه العمليات.

مشروع راسخ في العقلية الصهيونية منذ تأسيسها

يؤكد الكاتب والمحلل السياسي سامر عنبتاوي أن هناك محاولات تهجير ممنهجة تستهدف الفلسطينيين، حيث إن التهجير ليس مجرد سياسة طارئة، بل مشروع راسخ في العقلية الصهيونية منذ تأسيسها، ويتجدد اليوم مع حكومة يمينية متطرفة تدفع باتجاه تقليص الوجود الفلسطيني بين البحر والنهر إلى أدنى مستوى ممكن.

ويرى أن الاحتلال يستخدم منظومة ضغوط مركّبة -أمنية واقتصادية واجتماعية- لخلق بيئة خانقة تدفع الفلسطينيين نحو الهجرة القسرية تحت غطاء "الهجرة الطوعية".

ويشير عنبتاوي إلى أن قطاع غزة يُدفع اليوم، بصورة ممنهجة، نحو أن يصبح منطقة غير قابلة للحياة، فالمناطق الواقعة خلف الخط الأصفر، غير الخاضعة لسيطرة مباشرة من الاحتلال، تواجه ظروفاً معيشية بالغة القسوة؛ من انعدام المساكن والملاجئ الصالحة للسكن، إلى الخيام المتداعية التي تتسرب إليها الأمطار وتعصف بها الرياح، وندرة المواد الغذائية بالنسبة لحاجة السكان.

ويؤكد أن ما يصل من مساعدات لا يتجاوز "كماليات" لا علاقة لها بالغذاء الأساسي، إلى جانب انهيار شبه كامل للمنظومة الصحية، مع غياب الأدوية والمشافي، ووجود خطر أمني يومي يهدد حياة كل فرد.

ويحذّر عنبتاوي من أن هذه الظروف، مجتمعة منذ عامين من القصف والتجويع والقتل وغياب العلاج والمأوى، تدفع السكان قسراً إلى البحث عن أي فرصة للهروب، وهو ما يسعى إليه الاحتلال لتسويق التهجير على أنه قرار فردي. ويشير عنبتاوي إلى أن خروج نحو 153 فلسطينياً من قطاع غزة وصل منهم 130 شخصاً إلى جنوب إفريقيا من دون أي أوراق ثبوتية يمثل مؤشراً خطيراً على توجه مدروس تشجعه إسرائيل والولايات المتحدة لدفع الآخرين إلى تقليده، بما يعني عملياً اقتلاعاً دائماً من الأرض والهوية.

ويوضح عنبتاوي أن الاحتلال يعمل على توسيع هذا النموذج عبر الضغط على دول مختلفة لقبول فلسطينيين مُهجَّرين، مستخدماً سياسة "العصا والجزرة"، في ظل رفض مصر والأردن لأي انتقال جماعي للفلسطينيين، وفي مقابل ذلك، تبحث إسرائيل عن دول بعيدة ومنافذ بديلة تتيح لها تنفيذ مخططها.

ويؤكد أن هذا التصور ليس جديداً، بل يعكس رؤية صهيونية قديمة تقوم على "النقاء العرقي"، حيث يُسمح للإسرائيلي فقط بالعيش على هذه الأرض، فيما يُدفَع الفلسطيني إلى ثلاثة خيارات: العمل كقوة عاملة رخيصة تخدم المنظومة الإسرائيلية، أو الموت، أو التهجير خارج الوطن.

ويرى عنبتاوي أن ما يحدث في غزة والضفة -من انفلات المستوطنين وتكريس الفوضى- ليس إلا أدوات لتحقيق هذا الهدف: القضاء على الوجود الفلسطيني وحق الشعب الفلسطيني في الحرية وتقرير المصير.

القدس المصدر: القدس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا