فرض الحضور السينمائي الفلسطيني نفسه على المهرجانات السينمائية، ليس فقط العربية بل العالمية. وفي مهرجان القاهرة السينمائي بدورته الـ43 نجد فيلما فلسطينيا في كل مسابقة وبرنامج تقريبا، تناول كل منها القضية من زاوية مختلفة؛ استخدم بعضها لغة سينمائية قوية ستجعله يصمد عبر السنوات، بينما لجأت أفلام أخرى إلى البساطة الشديدة، واثقة من أن قضيتها ستجعلها تمر أمام جمهور المهرجان.
فيلم "ضايل عنا عرض" (One More Show) وثائقي من إنتاج مصري فلسطيني، عُرض ضمن أفلام المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي في عرضه العالمي الأول، ومن إخراج المخرجة مي سعد والمصور الفلسطيني أحمد الدنف، وتركز أحداثه على فرقة سيرك غزة الحر، والشباب: يوسف خضر، محمد أيمن، محمد عبيد (جاست)، أحمد زيارة (بطوط)، إسماعيل فرحات، بالإضافة إلى فناني سيرك آخرين من غزة.
تدور أحداث فيلم "ضايل عنا عرض" في غزة ما بعد أكتوبر/تشرين الأول 2023، عندما بدأ فنانو سيرك غزة الحر جولاتهم في القطاع لبث الضحكة في الأطفال الذين يعيشون ظروفا أبعد ما تكون عن الإنسانية. يقيمون عروضهم على أطلال منازلهم المهدمة، وفي ساحات مدارس تحولت إلى منازل مرتجلة لعائلات قصفت قوات الاحتلال بيوتها.
يقدم كل فنان من فناني السيرك عرضه بمنتهى الإخلاص، فهو يرى أن هذه طريقته الخاصة لمقاومة الموت والدمار. يضحكون ويغنون ويرقصون ويدفعون الصغار إلى تقليدهم والانسجام معهم، لكن عندما يعودون إلى غرفتهم التي ينامون فيها على أفرشة على الأرض، يعودون مرة أخرى مواطنين غزيين، لكل منهم همومه الشخصية التي هي في النهاية انعكاس لأحداث غزة.
في الغرفة المشتركة الكبيرة يتحول فنانو سيرك غزة الحر إلى شباب يعيشون بعيدا عن أسرهم منذ فترة طويلة. أحدهم يفتقد طفله ولا يأمل سوى اتصال إنترنت جيد يسمح له بمشاهدة الصغير وهو نائم في مكالمة فيديو، وآخر عاد إلى غزة قبل الحرب ليخطب حبيبته، فأتى العدوان الإسرائيلي ويمنعه من السفر ويحرمه حتى منها.
لكل منهم قصته الخاصة من ناحية، وهي في الوقت نفسه تتشابه مع قصص باقي سكان القطاع لأن عنوانها هو الفقد غير المبرر، والقلق المستمر، والخوف من غدٍ لا ينجلي. تتجلى في الفيلم الأحلام البسيطة لفناني السيرك وغيرهم من سكان القطاع، فيحلم أحدهم بأن يقف إطلاق النار فقط ليستطيع النوم لساعات متصلة بدلا من هذا النوم الذي يسكنه رعب الاستيقاظ على قصف قد يفجر المنزل الذي يسكنه في تلك اللحظة.
بينما يغلف آخر أحلامه بطابع اليأس عندما يتمنى ألا يتقطع جسده عندما يموت، حتى لا يكلف الآخرين عناء البحث عن أشلائه. وبينما يقضي هؤلاء الفنانون نهارهم في الاستعداد للعروض القادمة أو تقديمها، فإن لياليهم مليئة بالشجن، سواء عند حدوث القصف بالقرب منهم فيهرعون هربا أو للمساعدة، أو عندما يجلسون يحاولون تمرير الوقت بقصص من ماضيهم وتمنيات للمستقبل أو حنين لأفراد من عائلتهم، سواء أحياء أو موتى.
بين هذا وذاك يحللون الأوضاع في غزة؛ فكما حدث للكثيرين حوّلت المأساة المواطن العادي إلى محلل سياسي بارع يرصد ما يحدث ويحاول إيجاد منطق إزاء كل هذه الفوضى.
يقدم فيلم "ضايل عنا عرض" قصة مؤثرة عن أشخاص نرى مأساتهم الآن على شاشات الهواتف المحمولة والتلفاز، ما يضفي ثقلا على الفيلم ويجعله إلى حدٍّ ما غير قابل للنقد؛ فكيف تعلّق على جوانب فنية في عمل ينقل حياة أشخاص يعيشون تحت الحصار والقصف وخطر الموت؟ غير أنه يبقى في النهاية شريطا سينمائيا، يُعرض خلال مهرجان سينمائي وفي مسابقة رسمية، ما يجعله محلا للنقد والمراجعة.
"ضايل عنا عرض" أحد هذه الأفلام التي تستدعي هذه الأسئلة، بسبب هناته الفنية التي تضعف عرض قصته الإنسانية. تسير قصة الفيلم عبر مسارين أساسيين: الأول هو المشاهد المصورة لعروض فرقة سيرك غزة الحر، والثاني جلسات الفنانين أمام الكاميرا، حيث يتبادلون الحديث حول حياتهم وماضيهم وأحلامهم لمستقبلهم ومستقبل عائلاتهم؛ قصص فردية لكنها تلتقي في الكثير من النقاط مع الهمّ العام للمجتمع في غزة الآن.
غير أن لكل من هذين المسارين عيبا فنيا كبيرا؛ فمشاهد السيرك دافئة بالفعل وموحية بالتناقض في مشاعر الفنانين الذين يبعثون البهجة في الأطفال بينما قلوبهم مثقلة بالهموم، لكنها في الوقت ذاته مكررة بالطريقة نفسها عدة مرات بدون أي تغيير حقيقي في أسلوب التصوير أو حتى تصميم العروض خلال الفيلم، الأمر الذي لا يقدم جديدا، بل يثير الملل ويزيد من طول الفيلم بلا مبرر.
أما الحوارات أمام الكاميرا فهي أسلوب كلاسيكي للغاية في الأفلام الوثائقية، ويميل إلى دفع الشخصيات السينمائية إلى خطابات محددة مسبقا تبعد الحوار عن التلقائية إلى حد كبير. كما أن البناء السردي لا يستفيد بما يكفي من التوتر الدرامي الطبيعي الموجود في حياة الشخصيات؛ فهناك لحظات كان يمكن تعميقها بصريا أو سرديا لتكشف مزيدا من طبقات التجربة بدون الاكتفاء بالعرض الخارجي لها.
بعض المقاطع تمر سريعا على الرغم من ثقلها الإنساني، بينما تُمنح مقاطع أخرى مساحات أطول مما تستحق مقارنة بوزنها الدرامي، ما يخلق حالة من عدم التوازن في الإيقاع العام للفيلم. هذا التفاوت يجعل المشاهد يتساءل أحيانا عن اختيار اللقطات وترتيبها، خصوصا أن المادة الخام تبدو أعمق وأكثر قدرة على توليد أثر نفسي لو تم استثمارها بشكل أكثر إحكاما وبناء سينمائي أكثر تركيزا.
المصدر:
القدس