الحدث الإسرائيلي
يقدّم يوسي هيرباز، الباحث في قسم علم الاجتماع بجامعة تل أبيب، قراءة معمّقة للتحوّلات الحادة التي أصابت ميزان الهجرة من إسرائيل خلال السنوات الأخيرة. فحتى العقد الماضي، بدت حركة المغادرة والعودة أقرب إلى الاستقرار، إذ تراوحت مغادرة الإسرائيليين بين 30 و35 ألفًا سنويًا، مقابل عودة 20 إلى 25 ألفًا، ما أدى إلى فائض هجرة سلبية محدود يتراوح بين 10 و15 ألف شخص كل عام بين 2010 و2020. وبرأي هيرباز، كان هذا الفارق “طبيعيًا”، لأن جزءًا كبيرًا من المغادرين كانوا يغادرون مؤقتًا للدراسة أو العمل قبل أن يعود بعضهم لاحقًا.
إلا أن هذا التوازن تبدّد مع عام 2022، الذي شهد نقطة انقلاب حقيقية في الاتجاهات الديموغرافية. فقد قفز عدد المغادرين إلى 60 ألفًا، ثم إلى 80 ألفًا في 2023، في وقت بقي فيه عدد العائدين شبه ثابت. ويعيد هيرباز القفزة الأولى إلى تداعيات الحرب الروسية–الأوكرانية، حيث استقبلت إسرائيل في ذلك العام نحو 60 ألف مهاجر من روسيا و15 ألفًا من أوكرانيا، وصل كثير منهم على عجل خشية التجنيد أو بسبب الفوضى التي خلّفتها الحرب. هؤلاء، كما يوضح، وصلوا دون تخطيط مسبق، تجنسوا سريعًا، ثم غادروا بالسرعة نفسها، ما يجعل أرقام عام 2022 غير معبّرة عن اتجاهات بين الإسرائيليين القدامى.
لكن عام 2023 يروي قصة أخرى بالكامل. فهنا تظهر تداعيات الأزمة السياسية التي أحدثتها خطة الحكومة لتغيير النظام القضائي. ويشير هيرباز إلى أن المخاوف التي أثارها ما سمّته المعارضة “الانقلاب القضائي” دفعت كثيرين إلى التفكير بخيارات احترازية: البحث عن جنسيات أجنبية، تحويل الأموال إلى الخارج، وفتح مسارات طوارئ تضمن الخروج من البلاد إذا تفاقم الوضع. هذه المرة، كما يؤكد، “نحن نتحدث عن مواليد البلاد”، الذين شعروا بأن مستقبل إسرائيل لم يعد مضمونًا، وأن السياسات الداخلية تهدد الاستقرار السياسي والاقتصادي على المدى الطويل. ورغم أن الحرب الأخيرة دفعت بعض الإسرائيليين إلى المغادرة بسبب المخاوف الأمنية، فإنّها في المقابل أعادت آخرين ممن عادوا للخدمة الاحتياطية أو لمن استعادوا شعورًا بأن “مكانهم الطبيعي هو هنا”. ولذلك، يبقى تأثير الحرب مزدوجًا: دافعًا إلى الخارج وجاذبًا إلى الداخل في آن واحد، وسط غياب صورة واضحة حول أي الاتجاهين سيطغى لاحقًا. ويظهر من تحليل هيرباز أن غالبية المغادرين ينتمون إلى الفئات الأكثر قوة من حيث الوضع الاقتصادي والاجتماعي. فمعظمهم بين العشرينيات والأربعينيات من العمر، وغالبًا من أصحاب التعليم العالي، مع تمثيل بارز للشرائح العلمانية والليبرالية.
كما تلعب طبيعة المهنة دورًا مهمًا في قابلية الهجرة: فالمهن المقيدة بترخيص محلي مثل المحاماة وعلم النفس تجعل الانتقال أصعب، بينما يملك العاملون في التكنولوجيا والطب قدرة أكبر على الهجرة السهلة، بحكم الطلب العالمي على خبراتهم ومكانتهم الاقتصادية المرتفعة. وتتوافق هذه المعطيات مع ما كشفه تقرير خاص أصدره مركز الأبحاث والمعلومات في الكنيست في أكتوبر الماضي، والذي وصف موجة الهجرة الحالية بأنها “تسونامي بشري” يهدد النسيج الداخلي للمجتمع الإسرائيلي. فبحسب التقرير، تجاوز عدد المغادرين بين عامي 2020 و2024 عدد العائدين بنحو 145.9 ألف شخص، وهو الفارق الأكبر منذ عقود، ويعكس فجوة متزايدة في الثقة بالمستقبل داخل دولة الاحتلال. وبيّن التقرير أن 2020 شهد مغادرة 34 ألف شخص مقابل 32.5 ألف عائد، ثم قفز الرقم في 2021 إلى 43.4 ألف مقابل 23.6 ألف عائد. أما الانفجار الحقيقي فكان في 2022 و2023، إذ سجلت إسرائيل 59.4 ألف مغادر في 2022 بزيادة 44 في المئة عن العام السابق، ثم 82.8 ألف في 2023 بزيادة إضافية بلغت 39 في المئة.
ومع اندلاع الحرب في أكتوبر 2023، تسارعت وتيرة المغادرة، لتسجّل ذروتها في نهاية العام وبداية 2024. وبين يناير وأغسطس 2024، غادر نحو خمسين ألف إسرائيلي، وهو رقم مشابه للفترة نفسها من العام السابق، ما يعني أن الظاهرة لم تتراجع رغم انتهاء مراحل القتال الواسع. وفي المقابل، تواصلت تراجعات العائدين إلى إسرائيل: فقد عاد 29.6 ألفًا فقط في 2022، ثم 24.2 ألفًا في 2023، وفي 2024 لم يتجاوز العدد 12.1 ألفًا حتى أغسطس، مقارنة بـ15.6 ألفًا في الفترة نفسها من العام الماضي. هذه الفجوة جعلت صافي الهجرة السلبية يقفز في 2023 إلى 58.6 ألف شخص، بينما خسرت إسرائيل حتى أغسطس 2024 نحو 36.9 ألفًا إضافيين، ما يعزز الاعتقاد بأن “النزيف الديموغرافي” يتسع ويضرب جوهر القوى المنتجة في الاقتصاد الإسرائيلي، ولا يقتصر على الفئات الهامشية أو العابرة.
وخلال نقاشات لجنة الهجرة والاستيعاب في الكنيست، حذّر رئيسها غلعاد كريب من أن الظاهرة لم تعد “هجرة طبيعية”، بل تحوّلت إلى أزمة قومية تهدد البنية الاجتماعية لإسرائيل. واعتبر أن ما يحدث هو نتيجة مباشرة “لسياسات حكومية مزّقت المجتمع قبل الحرب، ثم أهملت الجبهة الداخلية بالكامل خلال العامين الماضيين”، مضيفًا أن استمرار التجاهل يشجع مزيدًا من الشباب على البحث عن مستقبل خارج البلاد، في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة وتآكل الثقة بالمؤسسات. ويؤكد التقرير أن حكومة الاحتلال لا تملك حتى الآن خطة شاملة لوقف هذا الاتجاه أو تشجيع المهاجرين على العودة.
ووفق معطيات مكتب الإحصاء المركزي، غادر نحو 79 ألف إسرائيلي بين رأس السنة العبرية الماضية والحالية، موزعين على المدن الكبرى بنسب لافتة: تل أبيب – يافا في الصدارة بنسبة 14 في المئة من إجمالي المغادرين، تليها حيفا بـ7.7 في المئة، ثم نتانيا بـ6.9 في المئة، فالقدس بـ6.3 في المئة، فيما سجّلت مدن مثل هرتسليا وأشكلون وبئر السبع أدنى نسب للمغادرين. كما أظهرت البيانات أن الرجال يشكلون النسبة الأكبر بين المغادرين (42,605 مقابل 40,169 من النساء)، وأن الفئة العمرية الأكثر مغادرة هي بين 30 و49 عامًا، أي الفئة الأكثر إنتاجًا في سوق العمل، ما يجعل الأثر الاقتصادي للهجرة مضاعفًا في ظل استمرار هذا الاتجاه وتحوّله إلى مسار طويل الأمد.
المصدر:
الحدث