شاهدنا هذا من قبل: أخوة يقتسمون القتل كما اقتسموا طفولتهم، كالأخوة تسايرنايف في تفجير بوسطن.
شاهدنا أيضا أزواجاً تعاهدوا على الإرهاب المشترك كما في هجوم سان برناردينو.
لكن الهجوم الذي شهدته مدينة سيدني في ديسمبر 2025، حين قام ساجد أكرم (50 عاماً) وابنه نويد (24 عاماً) بإطلاق النار خلال احتفال بعيد الأنوار (حانوكا) في منطقة بوندي، كشف عن نمط هو الأكثر ندرة والأكثر رعباً في آن واحد: تطرف الأب وابنه. هذا النوع من “التعاون الجيلي” يمثل تحدياً فريداً ليس فقط للأجهزة الأمنية، بل للمنظومة النفسية والاجتماعية التي تفترض أن الأب هو “حامي الحياة” الأول، لا المحرض على إنهائها.
في دراسته المرجعية “عقل الإرهابي” (The Mind of the Terrorist)، يؤكد البروفيسور في علم نفس الأعصاب جيف فيكتورووف أن الإرهاب ليس بالضرورة نتاج اعتلال نفسي أو جنون، بل هو نتاج ما يسميه “المنطق النفسي”” (Psycho-logic). هذا المنطق يكتسب قوة ضاربة عندما يمر عبر قناة الأبوة.
تشير الاختصاصية النفسية لانا قصقص في حديث مع “الحرة” إلى أن العنف في حالة هجوم بوندي لا يُكتسب فقط عبر “التعلم الواعي” أو التلقين المباشر، بل ينتقل عبر “تماهٍ لا واعٍ”، يتشكل في رحم العلاقات الأولية. بالنسبة لـنويد، لم يكن والده ساجد مجرد والد، بل أصبح “النموذج الأخلاقي” الأعلى ومصدر الشرعية الرمزية، و”المعمار الأيديولوجي” لابنه.
يقتبس فيكتورووف في هذا السياق: “يمكن تصور الجماعات الإرهابية كـ ‘عائلات نفسية’ توفر شعوراً بالانتماء وهوية واضحة… حيث تندمج هوية الفرد تماماً مع هوية الجماعة”.
في حالة سيدني، لم تكن هناك “جماعة” خارجية يحتاج نويد للانضمام إليها؛ فقد كانت عائلته البيولوجية هي ذاتها “الخلية الإرهابية”، مما جعل “انصهار الهوية” كاملاً ولا رجعة فيه.
تضعنا لانا قصقص أمام تحليل بنيوي عميق لعلاقة ساجد ونويد، واصفةً إياها بـ “التعلق غير الآمن”. في هذا النمط من العلاقات، يختفي “الحد الفاصل” بين ذات الابن وذات الأب. بدلاً من أن يكون دور الأب وظيفياً في احتواء قلق ابنه وتوجيهه نحو النضج، قام ساجد بـ “وظيفة التعبئة والحقن”.
هذا الغياب للحدود، على الغالب جعل من نويد مجرد أداة لتنفيذ رغبات والده الدفينة. وتؤكد قصقص أن الأب على الأرجح قام “بحقن ابنه بالعنف وتحميله سردية لا آفاق لها”. ورغم صعوبة العثور على نماذج مشابهة في تاريخ الإرهاب، وندرة هذه الحالات، إلا أن قصقص توضح أن قوة السلطة الأبوية تجعل تأثير الأب على الابن هو المسار المرجح في هجوم سيدني، وان كانت لا تستبعد بالكامل احتمالات ان يكون الابن قد لعب دوراً في التأثير بأبيه، في حالة ضعف شخصية الأب، لكن هذا الاحتمال ضعيف.
الأب هنا لم يكتفِ بدور المعلم، بل كان “المرساة اللوجستية” والنفسية للابن، وتدرب معه على الإرهاب والقنص، تماماً كما يتدرب أولاد مع آبائهم على الصيد أو على “هوايات أخرى”، مما جعل الابن يتحرك في إطار “بر الوالدين” لكن بمنطق مشوّه أرساه الأب عبر أدوات دينية.
لماذا يختار أب أن يقود فلذة كبده إلى مقتلة محققة، فضلاً عن تدمير حياة عائلتهما؟ يجيب فيكتورووف بأن المحرك الأساسي يكون على الغالب “الشعور بأن الفرد أو الجماعة ضحية لظلم فادح”، لكن في حالة ساجد ونويد، هذا الشعور بالمظلومية تم “تأصيله” داخل البيت.
تصف لانا قصقص كيف يتحول البيت في هذه الحالات إلى “غرفة صدى أيديولوجية”، حيث يتم إعادة تدوير خطاب العنف وتبريره كفعل “دفاع عن النفس” ضد خطر وجودي. في هذه الغرف المغلقة: يتم مكافأة السلوك المتطرف عاطفياً ومادياً داخل الوحدة الأسرية، ويُنزع الطابع الإنساني عن الآخر (المحتفلين في بوندي) ويُصورون كأهداف مشروعة. يُصبح الإرهاب “مساراً تدريجياً” في علاقة الابن بابنه، يبدأ من قصص ما قبل النوم وينتهي بالرصاص على الشاطئ.
يقول فيكتورووف في دراسته المرجعية إن “الروابط الاجتماعية الإيجابية، مثل الحب والولاء العائلي، يتم تحويرها لتخدم أهدافاً معادية للمجتمع”. وهذا هو التفسير الأكثر إيلاماً لحادثة سيدني؛ فالحب الذي كان من المفترض أن يحمي نويد، هو ذاته الذي قاده إلى أن يصبح قاتلاً ومقتولا أو مسجوناً.
في تحليل لانا قصقص، نجد أن هذا الثنائي لم يكن يعاني بالضرورة من “اضطرابات نفسية” تقليدية، بل كان لديهما “تنظيم معرفي انفعالي متطرف”. هذا التنظيم يعتمد على فكرة “نزع الإنسانية” عن الضحايا لتسهيل عملية القتل دون شعور بالذنب.
عندما سار ساجد ونويد نحو بوندي، لم يشاهدا بشراً يحتفلون بالعيد، بل شاهدا “رموزاً للظلم” الذي زرعه الأب في عقل ابنه لسنوات. هذا ما جعل الهجوم يتسم بدموية باردة؛ فالابن يرى في والده “البطل والمشرع الأخلاقي”، والأب يرى في ابنه “الامتداد البيولوجي الطبيعي والعنفي الطبيعي”.
يمثل هجوم سيدني بالنسبة إلى علم نفس الإرهاب جرس إنذار عالمي. فالتحدي الأكبر يكمن في أن هذا النوع من التطرف ينمو في “النقطة العمياء” للأجهزة الأمنية والاجتماعية، داخل البيت، في قلب العلاقة الحميمة بين الابن وابيه. لا توجد خوارزمية يمكنها مراقبة ما يدور بين أب وابنه فوق مائدة الطعام او في غرف النوم، او في رحلات الصيد وممارسة الهوايات، ولا يوجد قانون يمكنه منع أب من غرس الكراهية في وعي طفله عبر التربية العائلية.
المصدر:
الحرة