بين عامي 1978 و1995، قُتل ثلاثة أشخاص وأصيب 23 آخرون في حملة تفجير عبر البريد في مختلف أنحاء الولايات المتحدة.
الحملة استهدفت أشخاصاً يُعتقد أنهم يساهمون في تقدم التكنولوجيا الحديثة وتدمير البيئة الطبيعية.
أطلقت التفجيرات أطول وأغلى تحقيق أجراه مكتب التحقيقات الفيدرالي في ذلك الوقت، وحمل الاسم الرمزي "UNABOMBER"، اختصاراً لعبارة مفجر الجامعات وشركات الطيران.
خلف هذه الجرائم المروّعة والفريدة من نوعها، كان يقف تيد كازينسكي الذي هاجم في 16 عملية مختلفة، خطوطاً جوية ومنشآت اقتصادية وأكاديميين، كان يعتقد أنهم يسهمون في "تقدم التكنولوجيا وإلحاق الضرر بالبيئة الطبيعية".
من 35 ألف كلمة، ألّف كازينسكي بياناً بعنوان "المجتمع الصناعي ومستقبله"، تضمّن نقداً اجتماعياً ومعارضة لجميع أشكال التكنولوجيا، ورفضاً للتوجهات اليسارية، بالإضافة إلى دعوة إلى شكل من أشكال الأناركية (اللاسلطوية) المرتكزة على الطبيعة.
وفي عام 1995، وعد كازينسكي بـ"التوقف عن الإرهاب" إذا نشرت صحيفة نيويورك تايمز أو واشنطن بوست بيانه الذي جادل فيه بأن تفجيراته "كانت متطرّفة ولكنها ضرورية لجذب الانتباه إلى تآكل الحرية والكرامة الإنسانية بسبب التقنيات الحديثة". وبالفعل قامت الصحيفتان الأمريكيتان بنشر بيانه ما أدى إلى الإسراع في توقيفه من قبل السلطات.
اعترف كازينسكي بجميع التهم الموجهة إليه عام 1998 وحُكم عليه بأحكام عدّة بالسجن مدى الحياة، دون إمكانية الإفراج المشروط. وفي عام 2021، شخصه الأطباء بالسرطان قبل أن يتوقف عن تلقي العلاج في مارس/ آذار 2023. ثم توفي منتحراً في السجن في يونيو/ حزيران 2023.
رؤية كازينسكي للعالم وأفكاره المتشددة كانت تُنبؤ باتجاه مقلق سينكشف على مراحل في دول الغرب حتى يومنا هذا: استغلال القضايا البيئية من قبل الأيديولوجيات اليمينية المتطرّفة ومعتنقيها.
كما أن مسيرة كازينسكي ألهمت في السنوات الأخيرة أشخاصاً اعتنقوا أفكاراً مشابهة لأفكاره، مثّلت بدورها وقوداً لهجماتٍ متطرفة أخرى. حتى أن البعض يرى أن الدراما التي أنتجتها نتفليكس وعرضتها بعنوان "مانهانت: يونابومبر" (2017) والتي تروي جرائم كازينسكي ساهمت بدورها في ازدهار هذا الاتجاه المعاصر.
ففي العام 2019، شهد العالم عمليتي قتل جماعي كانتا مدفوعتين بأفكار مرتبطة بما يسمّى بـ"الفاشية البيئية". إحدى العمليتين كانت هجوم إل باسو في ولاية تكساس الأمريكية والذي وُصف بأنه جريمة الكراهية الأكثر دمويةً في مجتمع الأمريكيين من أصول لاتينية في تاريخ الولايات المتحدة الحديث.
نشر الجاني في حينها منشوراً على الإنترنت، عن كراهيته للمهاجرين والاكتظاظ السكاني وتدهور البيئة كمحفز لغضبه. أما منفذ هجوم كرايستشيرش في نيوزيلندا في العام نفسه، والذي استهدف أشخاصاً مسلمين وقتل 51 شخصاً، فقد أعلن عن نفسه كمعتنق للفاشية البيئية وألقى باللوم على ارتفاع معدلات الولادة بين المهاجرين.
عندما نناقش سياسات تغيّر المناخ، غالباً ما نربط هذه السياسات بالحركات اليسارية، إذ اعتدنا على ميل الحركات اليمينية والشعبوية في الغرب عموماً إلى التقليل من أهمية هذه القضية، أو التشكيك في آثارها، أو حتى إنكارها تماماً.
مع ذلك، إذا نظرنا إلى القرن الماضي، نلاحظ أن العديد من الحركات اليمينية في أوروبا استغلت القضايا البيئية لتعزيز اجنداتها الخاصة. بل إن بعض الباحثين والكتّاب يعرّفون هذا الظاهرة بالفاشية البيئية، ويقولون إن لها جذوراً في الإيديولوجيات النازية والفاشية.
ويُعرِّف المؤرخ البيئي الأمريكي مايكل إي زيمرمان الفاشية البيئية بأنها "حكم شمولي يطلب من الأفراد التضحية بمصالحهم لصالح رفاهية الأرض، بما في ذلك الشعوب ودولهم".
ويجادل زيمرمان بأنه، على الرغم من عدم وجود حكومة تعتنق الفاشية البيئية حتى الآن، فإن "عناصر مهمة من (هذه الإيديولوجيا) يمكن العثور عليها في النازية التي كان أحد شعاراتها المركزية هو: الدم والتراب".
ويربط دعاة الفاشية البيئية بين تدمير الطبيعة وبين الحداثة والمجتمع الصناعي الذي يشعرون بأنه قلّل من الروابط بين "العرق والأرض". ومن بين اهتماماتهم الرئيسية ما يرون أنه مشكلة الزيادة السكانية، بالإضافة إلى الهجرة والتعددية الثقافية "ونقل الأعراق بعيداً عن أوطانها".
كما يُرجع البعض هذا النمط من التفكير في النهاية إلى شخصيات مثل الاقتصادي الأمريكي توماس مالتوس، الذي زعم في نهاية القرن الثامن عشر أن نمو السكان يتجاوز قدرة إنتاج الغذاء، ودعا إلى التحكم في زيادة السكان كحل لهذه المشكلة.
وتقول عالمة الأحياء والعلوم الإدراكية سماح كركي في حديثٍ لبي بي سي عربي إنه "في أوروبا كما في فرنسا، تستحوذ عدة مجموعات صغيرة من اليمين المتطرف على أسس الفكر البيئي ونظريات الانهيار، لتغذية الهواجس والهويات القومية وتبرير الخطابات القومية والوطنية. في الولايات المتحدة، يلجأ دعاة التفوّق الأبيض بشكل متزايد إلى السرّية وممارسة البقائية (Survivalism)"، وهي عقيدة يعتنقها أفراد ومجموعات يستعدون بشكلٍ استباقي لحالات الطوارئ، مثل الكوارث الطبيعية والكوارث الأخرى التي تسبب اضطراباً في النظام الاجتماعي. وتضيف كركي أن "النقطة المشتركة بين هذه الحركات هي وجود خيال يشمل الانحدار، والزوال، والاستبدال الحضاري المزعوم الناتج عن غزوات الأجانب".
غالبا ما تركّز مقاربات اليمين المتطرّف في أوروبا والولايات المتحدة على هذه النقاط:
توضح سماح كركي أن الفاشية البيئية "تقوم على الاعتقاد بأن الشعوب المهاجرة ستحلّ محل الشعوب الأصلية. هذا الاعتقاد بتفوق الشعوب الشمالية تم تبريره بواسطة العلوم العنصرية. وعندما يتم تصنيف الشعوب ضمن هرمية وفقاً للذكاء أو الأخلاق أو الصفات الجسدية، يصبح من الممكن الادعاء بحماية هذه الصفات عبر اعتبار الأجانب غزاة ومعادين، وعبر رفض التزاوج الثقافي".
ومع ذلك، تعتمد الفاشية البيئية أكثر على العنصرية النفسية الثقافية بدلاً من العنصرية البيولوجية. ففي الأولى، يتم رسم هرمية بين "الثقافات" أو "الحضارات" بدلاً من "الأجناس البيولوجية".
وتضيف "في خطابات الفاشية البيئية، يتم الإشارة إلى أزمة الهجرة باعتبارها السبب وراء الخطر المناخي. شعارات مثل "اقتلوا الغزاة" من أجل "إنقاذ البيئة" تشرعن رهاب الأجانب من خلال تحميل المهاجرين مسؤولية تهديد وجودي".
"تقاطع الكوارث"، وهو مفهوم شعبيّ روج له المنظّر الأيديولوجي الفرنسي غيوم فاي، يشير إلى أن المهاجرين سيفرّون من قاراتهم هرباً من الكارثة البيئية ليأتوا و"يلوثوا" الحضارة الأوروبية أو الأمريكية، التي تُعتبر "متفوقة في هذا التصور".
تجدر الإشارة إلى أنه من الصعب العثور حالياً على حركة أو حزب سياسي يتبنّى بشكلٍ علني وواضح أفكار الفاشية البيئية، لكن آثار هذه الأفكار موجودة عند العديد من الحركات اليمينية في أوروبا والولايات المتحدة، خصوصاً المجموعات غير الرسمية التي تنتشر عبر الانترنت.
كما يمكن على سبيل المثال التعرّف إلى أفكار مرتبطة بالفاشية البيئية بين معتنقي نظرية "الاستبدال العظيم"، وهي النظرية التي ظهرت قبل سنوات في أوروبا وتروّج لفكرة أن هناك خطة منظمة لاستبدال السكان الأصليين الأوروبيين بمهاجرين من إفريقيا والشرق الأوسط، غالباً من المسلمين.