تشكل الجهوية المتقدمة أحد أبرز التحولات المؤسساتية التي راهن عليها المغرب لإرساء لا مركزية القرار وتقليص الفوارق بين الجهات، غير أن التحدي الأكبر اليوم لم يعد ينحصر في النصوص القانونية بقدر ما يرتبط بمدى قدرة السياسات العمومية الترابية على استدماج المقاربة الحقوقية كمدخل رئيسي لضمان العدالة المجالية.
وفي ظل استمرار النقاش حول جدوى النموذج التنموي الحالي، يطرح سؤال عريض نفسه حول ما إذا كانت الجهة قد تحولت فعلا إلى فضاء لإنتاج الحقوق والحريات، أم أن تحقيق هذا الرهان لا يزال يصطدم بعقبات تحول دون ترجمة النصوص إلى واقع ملموس يخدم المواطن.
وفي هذا السياق، اعتبر عبد العزيز قراقي أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط أن أي سياسة عمومية مهما كان نوعها تظل محدودة الأثر والتأثير إذا لم تستحضر بعد حقوق الإنسان، مشددا في تصريح أدلى به لجريدة “العمق” على ضرورة أن تكون الغاية من هذه السياسات خدمة الإنسان وصيانة حقوقه، حيث يتوجب عند وضع كل السياسات العمومية استحضار المقاربة الحقوقية بجميع أبعادها، بدءا من المنطلقات وصولا إلى النتائج، بما في ذلك إشراك المواطن المعني الأول بهذه السياسات.
وأوضح المتحدث ذاته أن تنزيل البعد الحقوقي على المستوى المجالي يتطلب الإقرار بأن حاجيات الجهات تختلف وتتنوع من منطقة لأخرى، مستشهدا بنموذج جهة الدار البيضاء الكبرى التي قد تغلق فيها مدارس عمومية لعدم وجود تلاميذ، مما يعني أن الحق في التمدرس متوفر، بينما قد تعاني جهات أخرى من خصاص في هذا الجانب أو في جوانب صحية وغيرها، وهو ما يفرض أن تكون المقاربة الحقوقية مبنية على خصوصية كل مجال ترابي وعدم تعميم الوصفات الجاهزة.
ودعا الباحث الجامعي الجهات إلى اعتماد مقاربة علمية وبراغماتية تقوم أولا على تحديد الأولويات الحقوقية الخاصة بكل جهة انطلاقا من دراسات دقيقة وتشاركية يساهم فيها المواطنون، مؤكدا أنه حينما تحدد الجهة أولى أولوياتها الحقوقية، سواء كان الحق في التعليم أو الصحة أو غيرهما، يصبح ممكنا إدماج هذا البعد في السياسات الجهوية، مما يمكن الجهة من العمل على بصيرة وإنتاج مؤشرات للقياس والتحقق من الإنجاز، بدلا من تشتيت الجهود في مقاربة شمولية قد تبقي النتائج محدودة وصعبة التحقق.
وانتقد المحلل السياسي النخب المحلية التي لا تزال تفتقد لروح التملك والإيمان الحقيقي بالجهة، معتبرا أن الجهة ليست مجرد نص قانوني أو مؤسسات فوقية، بل هي تمثل واستحضار للبعد الجهوي على كافة مستويات التفكير، مسجلا أن حلم بعض النخب لا يزال منحصرا في الذهاب إلى العاصمة والاستقرار في الرباط أو الدار البيضاء، حيث تعتبر علاقتهم بالجهة محدودة ومرتبطة بالمناسبات فقط، وهو ما يحول دون إحداث القيمة المضافة المطلوبة تنمويا.
وسجل قراقي أن الترسانة القانونية، ورغم شعور البعض بأنها مقيدة ولا تمنح حرية أكبر، إلا أنها تتضمن بنصوصها إمكانيات كبيرة لاتخاذ المبادرات على المستوى الجهوي، لافتا إلى أن الإشكال لا يكمن فقط في النصوص بل في ضرورة توفر الإرادة السياسية والكفاءة لدى النخب لاجتراح الحلول والبحث عن سبل التنمية وخلق المعجزات داخل مجالاتهم الترابية، بدلا من البقاء رهينة لانتظارية المركز.
وخلص أستاذ التواصل السياسي إلى أن التنمية يجب أن تتجرد من الألوان السياسية وأن تكون غايتها الوحيدة خدمة الإنسان بغض النظر عن الانتماء السياسي للمدبر، مشيرا إلى أن التجربة الديمقراطية المغربية حققت تراكما أساسيا يجب تحويله إلى آليات للتنمية، مستحضرا التجربة الإسبانية التي اختارت بعد دستور 1975 نظاما يصلح لخصوصيتها التاريخية والمجالية، وهو ما يجب أن يسير عليه المغرب لاستثمار الفرص التي تتيحها الجهوية المتقدمة لتحقيق إقلاع تنموي حقيقي في ظرف وجيز.
المصدر:
العمق