قال محمد الأشعري، رئيس مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد، إن الدرس الكبير المستخلص من مسار السياسي اليساري والصحافي والحقوقي المقتول عمر بنجلون (1936-1975) هو أنه “لا سياسة بدون فكر وبدون مشروع واضح، ولا تغيير بدون ثقة وبدون أمل في المستقبل”، مشددا على أن “الكشف عن الحقيقة كاملة في جريمة اغتياله ما يزال مطلبا جوهريا لعائلته الصغيرة أولا، ولعائلته السياسية”.
وأفاد وزير الثقافة الأسبق، مساء الخميس، خلال لقاء نظمته المؤسسة ذاتها بمناسبة الذكرى الـ50 لاستشهاد عمر بنجلون (1975-2025)، بأن “هيئة الإنصاف والمصالحة لم تحرز أي تقدم في معالجة هذا الملف”، و”من واجب كلّ المدافعين عن الفكر الحر في بلادنا أن يواصلوا، وفاء للشهيد، ما سماه هو نفسه معركة التحرير؛ تلك التي تعني عدم التردد في ركوب مخاطر التوافق، ولكن مع التبصر في تقدير هذه المخاطر، والاستقلالية في اتخاذ أي قرار بشأنه”.
استند الأشعري، عضو أكاديمية المملكة المغربية، إلى الحوار الأخير للمناضل الاتحادي البارز آنذاك عمر بنجلون مع صحيفة “ليبيراسيون”، الذي كان آخر ما قاله قبل اغتياله، والذي سيتخذ بقوة الأشياء، وفق المتحدث، “صفة الوصية الأخيرة”، وفيه يقدم الراحل “صورة شديدة التعبير عن قلق المناضل وحيرته وحرجه، وعن رؤيته السياسية الواضحة ولكن المترددة أيضا، وقناعته بكون الرهان الديمقراطي ليس طريقا مستويا وبدون ألغام”.
ذكر الروائي والكاتب المغربي البارز أن عمر “دافع بشراسة، ربما يستغربها حتى رفاقه، عن مغربية الصحراء، وعن جوهرية هذه القضية في حاضر المغرب ومستقبله”، موضحا أن مرد هذا الدفاع أن “منطق نضال المغرب من أجل استكمال وحدته الترابية هو جزء لا يتجزأ من حركة المقاومة الشعبية، لأن المقاومة واحدة منذ انطلقت”.
ونقل رئيس مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد عن الراحل أن “راية هذه المقاومة الشعبية من أجل الاستقرار الوطني كانت دائما من نصيبنا نحن”، ثم أضاف بنجلون: “لسنوات كنا مكمّمي الأفواه؛ ثلثُنا في السجن، وثلثٌ في المنفى، وثلثٌ تحت التعذيب. كانت البلاد تغرق في جمود تام. قضية الصحراء تخلق ديناميكية جديدة. الحسن الثاني يستفيد من هذا الوضع ومن هذه الديناميكية، ولكننا نحن أيضا نستفيد. إنها لعبة دقيقة”.
وتابع المُحاوَر بنجلون: “نطالب بالحد الأقصى حتى ولو حصلنا مؤقتا على الحد الأدنى. استعادة الصحراء هي أحد الأسس التي ينبني عليها وجودنا، حتى ولو كان ذلك يعزّز الإقطاع مؤقتا. سأقول في أقصى الحدود: إنني لا أهتم. الإقطاع سيزول، والصحراء ستبقى”، وزاد: “من الممكن أن نُخدع، وأن يكون الحسن الثاني وبومدين قد تصالحا على ظهرنا، ولكن لا يمكن أن نختار الجمود على الديناميكية مهما كانت مطبّاتها وخيباتها المحتملة. نحن الذين علينا أن نحوّل الديناميكية إلى واقع جديد، وإلى فرص حقيقية للتغيير”.
وأكد الأشعري أنه “في قلب هذه المرافعة النادرة سنعثر على كل السمات البارزة لفكر عمر وممارسته السياسية: التوافق من أجل ديناميكية جديدة دون التخلي عن مقاومتنا الدائمة، ودون تحويل التوافق إلى تدجين وتبعية، واعتبار الوطن فوق كل حسابات الربح والخسارة، حتى لو استفاد خصومنا من التحرير”، مضيفا أن “الأهم هو أن يتحقق التحرير في الأرض وفي الإنسان”.
وذكر المتحدث أن “حيرة هذا المناضل وتساؤلاته، وفي الوقت نفسه شجاعته في أن يمشي في الطريق الصعب، كل ذلك ما زال مطروحا بعد 50 سنة من اغتيال الشهيد عمر بنجلون. ما زلنا إلى اليوم نردد نفس الحيرة ونفس التساؤل: هل نقبل المشاركة مع نظام يعدنا بنزاهة الانتخابات منذ نصف قرن ولم ينجح حتى الآن في تحقيق هذا المطلب الأساسي والجوهري في بناء كل ديمقراطية؟”.
قال بدر المقري، باحث أكاديمي أستاذ الجامعي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في وجدة، إن كتابات الصحافي عمر بنجلون نادرا ما تخلو من نزعة استشرافية للمستقبل، موضحا أن الرجل كان يعيش لحظته التاريخية بوعي عميق، وببصيرة نافذة جعلت قراءته للواقع دقيقة وسديدة، كما أن الوجه الآخر لهذه الشخصية الفكرية يتمثل في أن التألق السياسي طغى، في كثير من الأحيان، على صورة عمر المفكّر.
وذكر المقري، صاحب كتاب “أنثروبولوجيا تاريخ الأفكار في المغرب المعاصر – نظرات في كتابات عمر بنجلون”، أن الأمر يستدعي إعادة الاعتبار لمساره الفكري ضمن سياق مسارات أعلام تاريخية أخرى، خاصة في ظل التحولات العميقة التي يشهدها المجتمع المغربي، مؤكدا أن معادلة “من لا ذاكرة له، لا هوية له” تظل مدخلا أساسيا لهذا النقاش، خصوصا وأن “كتابات عمر بنجلون جاءت حبلى بتصورات متعددة، منها ما هو وصفي ومنها ما هو منهجي”.
واعتبر المتحدث ذاته أن هذه المتون تشكّل أرضية خصبة للتفكير في “أخلاقيات الذاكرة”، موردا أن “الذاكرة ليست مجرد استعادة للماضي، بل مجال تتكامل فيه الجهود من أجل الكشف عنها وصونها”، مشددا على “ضرورة عدم السماح بطمسها أو تجاوزها بدعوى أن الزمن قد طواها”.
ومن هذا المنطلق، يبوح الكاتب ذاته بتجربة شخصية تكشف حجم القطيعة مع الذاكرة، حين حاول قراءة هذا الكتاب في فضاءات رفاق عمر، ففوجئ بمن “لا يرى حرجا في القول إن تلك المرحلة قد طُويت صفحاتها”، مسجلا أن هذا “ما يفضي إلى التأكيد على أن للذاكرة جذورا وجدانية عميقة، وأن الحديث عن الهوية الجماعية، باعتبارنا مغاربة، يقتضي تحمّل المسؤولية، فالذاكرة والتاريخ يشكلان معا أحد المكونات الرئيسة للهوية الجماعية، وقال: “دلّني على ذاكرتك الجماعية، أقول لك من أنت”.
ووفق المعادلة ذاتها، قال المتحدث: “دلّني على اهتمامك بعمر، أقول لك أي وعي ووعي مشروع تحمل”، ما يعني أن الاهتمام بالحقوقي المقتول عمر بنجلون ليس مجرد وفاء لشخص، بل هو مؤشر على طبيعة الوعي الذي نحمله وشرعيته، مفيدا بأنه لا يمكن الكشف عن المسار الفكري للرجل دون “هذا الامتزاج الخلاق بين الذاتي والموضوعي”.
قال الاتحادي السابق محمد المريني إنه “في يوم الخميس قبل خمسين عاما، كان الموت متربصا بعمر بنجلون أمام منزله. فما إن غادر بيته، وهو يهمّ بركوب سيارته، حتى انقض عليه الإرهابيون. وفي أقل من لمح البصر، غرسوا خنجرهم في قلبه، فانفجر دمه وسقط شهيدا. لم يكن قد بلغ بعد سن الأربعين، لكنه كان في أوج العطاء والالتزام بقضايا بلده”.
وأكد المريني أن الكمين الذي نُصب لعمر “عمل مدبر بعناية، وبأسلوب احترافي لا يثير أي شكوك. تم الإعداد له بكل يسر ودقة، وهو ما يجعل من المؤكد أن من خطط للجريمة كان يتوفر على مستوى عالٍ من الاحترافية، وهو أمر لم يكن متوفرا للجماعة الظلامية”، في إشارة إلى العناصر المحسوبة على “الشبيبة الإسلامية” بزعامة عبد الكريم مطيع.
واستحضر المتحدث أنه أسابيع قبل اعتقاله، تعرّض عمر، مدير صحيفة “المحرر”، الناطقة باسم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية آنذاك، لمحاولة اغتيال أولى بواسطة طرد ملغوم، قبل أن يلقي به بعيدا، وتابع المريني: “اكتشف أن هناك طردا آخر وُجه إلى رفيقه محمد اليازغي، وانفجر في وجهه حين توصل به. اعترى بنجلون الخوف على سلامة رفيقه، فانطلق مسرعا إلى الرباط لعيادته في المستشفى والاطمئنان على سلامته”.
وسجل صديق الراحل أن “عمر يفكر في إخوانه أولا قبل أن يفكر في نفسه. كان يخاف عليهم ولا يخاف على نفسه، كان معروفا بوفائه لأصدقائه، حتى أولئك الذين لا يحملون نفس مبادئه وقيمه. ولم يسجل يوما على عمر أنه تخلى عن مناضل أو صديق كان في حاجة إليه، حتى في الجانب المالي”.
وختم المريني باستحضار موقف شخصي لم ينسه، حين علم عمر أنه خصص له إهداء تصدر مجموعة قصصية كتبها آنذاك، تعبيرا عن تقديره له وإعجابه به. يقول: “خرجنا يوما من مقر الجريدة، ولما توقفنا فوجئت به يفتح معي موضوع الإهداء، وفوجئت بطلبه؛ إذ طلب مني أن أخصص الإهداء لمحمد الحبيب الفرقاني، قائلا إنه هو من يستحقه. كان الفرقاني آنذاك ما يزال في السجن صحبة مجموعة من الاتحاديين. ثم أخذ عمر يتحدث عن الفرقاني بكثير من الحنين والعطف والمودة، وفي إحدى اللحظات أخذت الدموع تسيل من عينيه”.
المصدر:
هسبريس