أجمع ثلة من الأكاديميين المرموقين، والقضاة الممارسين، والخبراء الأمنيين من المغرب، الولايات المتحدة، رومانيا، والإمارات العربية المتحدة، على أن الذكاء الاصطناعي، رغم سطوته وقدرته على “تمكين” القطاع القضائي، يظل قاصرا بنيويا وأخلاقيا عن تعويض “الحدس البشري” و”الضمير المهني”.
جاء ذلك، خلال مؤتمر دولي احتضنته كلية العلوم القانونية والسياسية، بجامعة الحسن الأول بسطات، يومي الأربعاء والخميس 4 و5 دجنبر 2025، حول الذكاء الاصطناعي ومستقبل المهن القانونية والقضائية، حيث خلصت نقاشات المشاركين إلى أن العالم بحاجة ماسة إلى هندسة “أطر تنظيمية وأخلاقية صارمة” تمنع تحول التكنولوجيا من خادم للعدالة إلى سيد مستبد عليها.
وشدد المشاركون على أن الذكاء الاصطناعي يمثل فرصة استراتيجية لتطوير منظومة العدالة، شريطة وضع أطر تنظيمية وأخلاقية واضحة تمنع اساءة الاستخدام وتضمن الثقة والمساءلة.
نحو “عقد اجتماعي” جديد يشمل الآلة
في واحدة من أكثر المداخلات إثارة للجدل والعمق الفلسفي، تجاوزت الأستاذة فورست كاثرين بولان، الباحثة الأمريكية البارزة ورئيسة مجموعة (AI Group)، السطح التقني للنقاش لتغوص في البعد الأنطولوجي (الوجودي) للذكاء الاصطناعي.
بولان لم تتحدث عن أدوات مساعدة فحسب، بل استشرفت ظهور “الذكاء الاصطناعي الفائق” (Superintelligence)، واصفة إياه بـ”الكيان المعرفي المتفوق” الذي سيمتلك قريبا القدرة على فهم واستيعاب جميع اللغات والمعارف البشرية المتراكمة عبر التاريخ.
هذا التطور “المرعب والمذهل” في آن واحد، دفع الباحثة الأمريكية إلى طرح إشكالية فلسفية كبرى؛ هل باتت البشرية في حاجة إلى إعادة صياغة “العقد الاجتماعي” الذي نظّر له جان جاك روسو؟، حيث ترى بولان أن الأنظمة القانونية يجب أن تتسم بمرونة قصوى لتوسيع هذا العقد ليشمل، ربما لأول مرة في التاريخ، طرفا غير بيولوجي، وهو الذكاء الاصطناعي، كجزء من المعادلة المجتمعية.
وأوضحت بولان أن الحديث عن “قضاة أو محامين افتراضيين” لم يعد ضربا من الخيال العلمي، بل هو واقع يفرضه النضج التكنولوجي الحالي الذي يتجاوز مجرد خوارزميات ونماذج لغوية، ليشمل تقنيات “الحوسبة الناعمة” (Soft Computing) ووحدات المعالجة المتطورة (GPUs) وتقنية “البلوك تشين” التي تؤسس لمفهوم “العقود الذكية”.
ومع ذلك، حذرت المتحدثة بلهجة صارمة من “المزلق الخطير” المتمثل في الثقة العمياء؛ مستحضرة وقائع مأساوية في المحاكم البريطانية حيث أدت “هلوسات” الذكاء الاصطناعي إلى تقديم معلومات قانونية مغلوطة، مشددة على ضرورة وضع “حواجز حماية مهنية” وفرض عقوبات مؤقتة ومساءلة صارمة للمحامين الذين يستسهلون استخدام هذه الأدوات دون تمحيص بشري دقيق.
الجدل بين “الوظيفة” و”الجوهر”
من زاوية القانون الدولي، تصدى الأستاذ عبد الناصر الجهاني، من جامعة الشارقة، لواحدة من أعقد الإشكاليات القانونية المعاصرة؛ هل يمكن منح الذكاء الاصطناعي “شخصية قانونية دولية”؟
وفي تفكيكه لهذا الطرح، استدعى الجهاني مقالات وأطروحات للباحث الدولي تيم أوشونيسي، الذي نادى بمنح “شخصية إلكترونية” للأنظمة الذكية شبيهة بالشخصية المعنوية للشركات. لكن الجهاني، ومن خلال تحليل قانوني رصين، رسم خطا فاصلا بين نوعين من الصلاحيات: “الصلاحيات الوظيفية” و”الصلاحيات الجوهرية”.
وأوضح الجهاني أن الذكاء الاصطناعي قد يمتلك صلاحيات وظيفية هائلة، مثل القدرة على جمع وتحليل البيانات الضخمة، أو مراقبة انتهاكات حقوق الإنسان بدقة تتجاوز البشر، إلا أنه يفتقد كليا لـ”الصلاحيات الجوهرية” والسيادة الأخلاقية التي تتمتع بها الكيانات الدولية التقليدية كالدول أو المنظمات الأممية (مثل الأمم المتحدة).
وعليه، خلص الجهاني إلى أن الذكاء الاصطناعي لا يمكن اعتباره فاعلا قانونيا دوليا مستقلا، بل يظل أداة تابعة للمسؤولية البشرية، مما يقطع الطريق أمام أي محاولة للتنصل من المسؤولية الجنائية أو المدنية بدعوى “خطأ الآلة”.
القاضي الإنسان لا يُعوض
وفي مواجهة الانبهار التقني، وقف الأستاذ دراغوس كالين، قاضي محكمة الاستئناف ببوخارست والخبير في القانون الأوروبي، مدافعا بشراسة عن “إنسانية القضاء”.
واعتبر كالين أن الحكم القضائي ليس عملية حسابية صماء (Input/Output)، بل هو تفاعل كيميائي معقد يمزج بين النص القانوني، والسياق الاجتماعي، وفهم المشاعر الإنسانية، وتقدير الظروف المخففة.
وضرب القاضي الروماني أمثلة حية من قضايا الأسرة، كالطلاق وحضانة الأطفال، مؤكدا أن الآلة مهما بلغت من تطور، تعجز عن استشعار “الألم” أو تقدير “المصلحة الفضلى للطفل” بنفس الدرجة التي يمتلكها القاضي البشري.
فالذكاء الاصطناعي، بحسب كالين، قد يقدم حلا منطقيا مبنيا على البيانات، لكنه قد يكون حلا “ظالما” إنسانيا. ومن هنا، شدد على أن التكنولوجيا يجب أن تظل في مربع “المساعدة” لتسريع الإجراءات وتدقيق البيانات، دون أن تتجرأ على الجلوس على منصة الحكم.
هذا الطرح عززه الأستاذ محمد الصعيدي، رئيس المركز المتوسطي للذكاء الاصطناعي والابتكار الاجتماعي، الذي نقل النقاش إلى مستوى “المعايير والضوابط”.
وحذر الصعيدي من مخاطر “الصندوق الأسود” (Black Box) للخوارزميات، حيث لا نعرف كيف تتخذ الآلة قراراتها، داعيا إلى ضرورة تبني أطر تنظيمية شاملة، مستلهمة من التشريعات الرائدة مثل “قانون الذكاء الاصطناعي الأوروبي” (European AI Act) ومعايير منظمات تقنية عالمية (ITU وIEEE)، لضمان “شفافية” و”عدالة” الأنظمة، مشددا على أن “جودة البيانات” هي حجر الزاوية؛ فإذا تغذت الأنظمة ببيانات متحيزة أو مغلوطة، فإنها ستنتج حتما عدالة عرجاء.
المغرب يوطن المعرفة التقنية
لم يكتفِ المؤتمر بالتشخيص، بل قدم إجابات مؤسساتية عملية من قلب الجامعة المغربية، حيث كشف عبد اللطيف مكرم، رئيس جامعة الحسن الأول بسطات، عن خبر استراتيجي يعكس انخراط الجامعة في الدينامية الملكية للتحول الرقمي.
وأعلن مكرم عن نجاح الجامعة في الحصول على موافقة الوزارة لإنشاء “مؤسسة جامعية متخصصة في الذكاء الاصطناعي وعلوم الرقمنة”، مبرزا أن هذا المشروع لا يهدف فقط إلى تخريج تقنيين، بل يسعى لبناء “قاعدة معرفية وطنية” تدعم منظومة العدالة وتحمي الحقوق في الفضاء الرقمي.
وفي السياق ذاته، قدمت حسنة كجي، عميدة كلية العلوم القانونية والسياسية، رؤية بيداغوجية متجددة، مؤكدة أن الكلية قطعت مع طرق التدريس الكلاسيكية، وانخرطت في تكوين “رجل قانون رقمي” من خلال إطلاق ماسترات نوعية مثل “ماستر الحكامة والأمن السيبراني” و”ماستر الرقمنة وتقنيات التوثيق”.
وشددت العميدة على فلسفة عميقة مفادها أن “القانون ليس مجرد نصوص جامدة، بل هو نبض حياة”، وأن الجيل الجديد من القانونيين يجب أن يمتلك الأدوات التقنية والتحليلية لفهم تعقيدات الجريمة الإلكترونية والمعاملات الرقمية، مشيرة إلى استقطاب أساتذة متخصصين لردم الهوة بين النظري والتطبيقي.
أما الأستاذ عبد الجبار عراش، رئيس مختبر الأبحاث حول الانتقال الديمقراطي، فقد وضع الأصبع على الجرح الإبستيمولوجي، معتبرا أن الذكاء الاصطناعي يفرض “قطيعة معرفية” مع المناهج التقليدية.
ودعا عراش إلى اعتماد مقاربة متعددة التخصصات (Interdisciplinary)، تذوب فيها الحدود بين القانون، والعلوم السياسية، وعلم الاجتماع، والتقنية، لفهم التحولات العميقة التي تعيد تشكيل بنية المجتمع والدولة، مؤكدا أن الشباب والطلبة هم وقود هذا التغيير ومحوره.
المقاربة الأمنية والمهنية.. النجاعة في ظل القانون
على المستوى الميداني، قدم اللواء محسن بوخبزة، رئيس المصلحة المركزية للشرطة القضائية بالدرك الملكي، مرافعة قوية حول أهمية “الذكاء الاستراتيجي”، مؤكدا أن المؤسسة الأمنية المغربية واعية تماما بأن الجريمة تطورت، وأن المجرمين يستخدمون أحدث التقنيات، مما يفرض على أجهزة إنفاذ القانون أن تكون “خطوة إلى الأمام”.
واستعرض بوخبزة جهود تحديث الأنظمة المعلوماتية وتكوين الأطر الأمنية، ليس فقط لرفع وتيرة النجاعة في فك لغز الجرائم، ولكن أيضا لضمان أن يتم ذلك في احترام تام لمبادئ حقوق الإنسان والحريات الفردية، تماشيا مع التزامات المغرب الدولية، مبرزا أن الذكاء الاصطناعي بالنسبة للأمن المغربي هو أداة لترسيخ “الأمن القضائي” وليس وسيلة للمراقبة العشوائية.
ومن جانب المهن القانونية المساعدة، برز صوت “الهوية التاريخية” في مواجهة “الحداثة الجارفة”، حيث ذكر ممثل الجمعية المغربية للعدول بأن مهنة التوثيق العدلي المتجذرة في تاريخ المغرب لأكثر من 11 قرنا، لا تخشى التكنولوجيا.
واعتبر الذكاء الاصطناعي فرصة تاريخية لـ”تجويد التوثيق” وتسريع الإجراءات وخلق منصات رقمية آمنة. لكنه انتقد، في نبرة عتاب، المشاريع الإصلاحية التي قد تغفل الخصوصية القانونية والتاريخية للمهنة، مطالبا بأن يكون التحديث التقني مدخلا لإنصاف المهنة تشريعيا.
بدوره، أكد ممثل الهيئة الوطنية للمفوضين القضائيين أن التكنولوجيا مهما تطورت، تظل عاجزة عن استبدال “الضمير المهني” و”الخبرة الميدانية” التي يراكمها المفوض القضائي عبر احتكاكه اليومي بالواقع الاجتماعي للمتقاضين، معتبرا أن التعاون مع الجامعة هو السبيل الوحيد لتكوين جيل جديد يمتلك التقنية لكنه لا يفقد إنسانيته.
المصدر:
العمق