آخر الأخبار

قراءة في كتاب.. بوشيخي يفكك السلفية من مجالس العلم إلى جبهات القتال

شارك

تناول الباحث المغربي الدكتور محمد بوشيخي في كتاب صدر له مؤخرا عن “مركز دراسات الوحدة العربية” بعنوان “تفكيك السلفية.. تحولاتها وتحوراتها من مجالس العلم إلى جبهات القتال”، التطورات التي نقلت السلفية من “مجالس العلم”، في عهدها التأسيسي الأول إلى “جبهات القتال” في عهدها المعاصر؛ انتقالا، يقول بوشيخي، لعبت فيه الظروف السياسية والصراعات المذهبية كما التفاعلات البينية داخل المشهد الديني دورا حاسما بالتنصيص أحيانا وبالتناص أحيانا أخرى، فانشطرت إلى سلفية علمية وأخرى حركية قبل انبثاق السلفية الجهادية نتيجة تغول المكون الإيديولوجي على حساب الأثري في خطابها، فأصبح “الجهاد” وليس “العلم” يحتل المركب المركزي في منظومتها.

السلفية تعود إرهاصاتها الأولى إلى مرحلة الفرز المذهبي التي عاشتها الجماعة الإسلامية الأولى خلال انتقالها من مرحلة الوحدة إلى مرحلة التعددية المذهبية، والتي انفجرت أساسا منذ أواخر عهد الخلافة الراشدة؛ العهد الذي شهد انفصام منطق السلطان عن منطوق القرآن، غير أن الابتعاد عن الفترة النبوية أخد يشكل عاملا في ظهور الفرق الكلامية والمذاهب الفقهية المختلفة التي أخذت تقارب فهمها للإسلام بواسطة مناهج تتفاوت في مقدار ارتباطها وتمثلها بالنموذج النبوي. وفي مقابل هذا التعدد والاختلاف، الذي عززه اقتحام الأفكار والتصورات المنبثقة من الغنوصية الفارسية والعقلانية اليونانية للفضاء الإسلامي، أضحى التشبه بالسلف الصالح لدى جماعة من المسلمين ضربا من التأسي بالسنة النبوية، وصار هؤلاء المتشبهون بالسلف يسمون “سلفيون”.

غير أن السلفية سوف تتخذ أشكالا تختلف باختلاف مراحلها التاريخية؛ إذ يمكن رصد ست محطات رئيسية في مسار تطورها، تتمثل أولاها في ولادة مدرسة أهل الحديث، والثانية في تبلور المذهب الحنبلي، والثالثة في ظهور ابن تيمية، والرابعة في تشكل الحركة الوهابية، والخامسة في تزاوج الوهابية مع مدرسة المحدثين الهنود، ثم السادسة في ظهور طبقة “المحدثين الإحيائيين”. وقد شكلت هذه المحطة الأخيرة، أي ظهور المحدثين الإحيائيين، منعرجا حاسما في تطور الفكر السلفي؛ إذ اكتسبوا تحت تأثير رائدهم الشيخ محمد ناصر الدين الألباني قابلية التماهي مع منظومة أفكار الإسلام السياسي، خاصة منها ذات التوجه القطبي، نسبة إلى سيد قطب، ثم تفشت أدواتهم المنهجية والخطابية التي أدت إلى تشظي السلفية “الموروثة” وانبعثت منها تعبيرات فرعية تبتعد وتقترب عن سابقاتها بقدر تفاعلاتها وانفعالاتها مع مستجدات محيطها وإفرازاته الفكرية والسياسية.

فالألباني، المحدث الإحيائي بامتياز، صاغ رؤية شمولية في تشخيص واقع المجتمع الإسلامي المعاصر واقترح مستلزمات إصلاحه عبر قاعدة “التصفية والتربية”. فبمقتضى “التصفية” صار له منهج خاص في علم الحديث عن طريق إعادة فحص الأحاديث المخرجة بالتصحيح والتضعيف ودرجات حجيتها، وبمقتضى “التربية” طرح منهجا خاصا في السياسة يقوم على تنشئة الأجيال الحالية والتالية على الإسلام المصفى، ما أدى إلى إعادة صياغة السلفية على مستوى الرؤية، كما على مستوى آليات العمل التغييري.

في خضم هذه الدينامية التي أطلقها الألباني، كان تطور آخر يجري في مصر بدأ مع تحول السلفية “التجديدية” تحت توجيه محمد رشيد رضا إلى نوع من التفكير الحركي تبلور في ظهور جماعة الإخوان المسلمين وانبثاق الأدبيات “القطبية”، نسبة إلى سيد قطب، الذي سيشكل النموذج الأول والأنصع لـ”المثقف التصحيحي” كنظير لـ “المثقف التجديدي”، منازعا له في السيطرة على نمط التفكير لدى حركات الإحياء الديني.

فالمثقف التصحيحي، ممثلا في سيد قطب، سيتمرد على “البرغماتية السياسية” كما بلورتها المنهجية الإخوانية، وسيرفض “البيروقراطية العلمية” كما كرستها الأوساط السلفية بتطوير فكر جديد يربط العمل التغييري بالأصول العقدية. إنه الفكر الذي انبثق من منهجه التغييري “المضمر” في ثنايا تنظيراته والقائم على قاعدة رئيسية تتمثل في “التلازم بين النمو الحركي والنمو النظري”، وقواعد فرعية ثلاث تتمثل في “رفض الفقه” و”الجهاد منتجا للفقه” ثم “مرحلية أحكام الشريعة”. وبهذا جعل سيد قطب من ممارسة الجهاد والتفاعل مع شروطه مصدرا لإنتاج الفكر وأداة لصياغة الفقه، وبشكل أساسي فقه السياسة والشأن العام.

غير أن الألبانية سوف تحدث تقاطعا مع القطبية على مستوى شعار “الإسلام هو الحل”، وخاصة على مستوى معناه الذي يتجسد في “العودة إلى الإسلام” وليس “استعادته”، خلافا لـ “المثقف التجديدي” الذي كان محل نقدهما معا. ومن ثمة خلَّف خطاب الألباني التغييري على مستوى تطور الفكر الحركي الإسلامي آثارا عميقة وجوهرية تمثلت في اقتفاء أثر مع القطبية على مستوى تحليل الواقع، كما على مستوى تغييره.

فالتطابق على مستوى التحليل تمثل في استعارة الألباني مفاهيم سيد قطب من خلال القول بالجاهلية والحاكمية والمفاصلة واستخدامها في خطاب سلفي مُقيِّد لمعانيها القطبية الخالصة، أما التماثل على مستوى التغيير فتجسد في تبني الألباني لمفهوم ثوري لـ “الطائفة المنصورة” الذي صار متماهيا مع مفهوم قطب لـ “الجيل القرآني الفريد”. وقد حفَّز هذا التطابق بين الألبانية والقطبية تحول التيار الجهادي في مصر، ممثلا في تنظيم الجهاد والجماعة الإسلامية، نحو الانفتاح على الحديث ولو بنوع من التوظيف والانتقاء وتبني المنهجية الألبانية في التعامل مع السنة والأثر بطرق ودرجات مختلفة وبوتائر متصاعدة، وبالتالي انتقل من الصيغة الحركية إلى الصيغة السلفية.

وبهذا وفَّرت الألبانية للقطبية الغطاء الشرعي الذي كانت تفتقده وصارت خير سند لها في مواجهة من يرفضونها بدعوى كونها انعكاسا لظروف نفسية لسيد قطب في السجن وعدم تضلعه في العلوم الشرعية، كما مكنتها من ولوج العقل السلفي والتأثير في جزء من إنتاجه، هو ذاك الإنتاج الذي سيعرف بـ “السلفية الجهادية”؛ إذ وفر الألباني أهم دعم لدعوة “السلفية الجهادية” بجعل “الجهاد” وليس فقط “العلم” من مواصفات الطائفة المنصورة وغاياتها.

وهذا تماما ما تلهج به مضامين كتاب “ملة إبراهيم” لأبي محمد المقدسي، الصادر عام 1985، وكتاب “العمدة في إعداد العدة” للدكتور عبد القادر بن عبد العزيز، الصادر عام 1988، حيث تقلصت فجوة الخلاف بين التوجهات الحركية ونظيرتها السلفية، ومن ثمة تبلورت البواكير الأولى لعمليات “التهجين” التي أفضت إلى تشكل السلفية الجهادية كتيار فكري مستقل.

غير أن تورُّط السلفية الجهادية في معترك الصراع الدولي سوف يفجر التباينات الصميمية بداخلها بين مكونيها السلفي/الألباني من جهة، والحركي/القطبي من جهة أخرى. وهو ما تجسد على مستوى الصراع، الموروث عن الحركية الجهادية، الذي لم يعد مستترا بين القيادات الشرعية المتشبعة بالسلفية والقيادات الميدانية الممتثلة للمنهج القطبي، ثم انعكاس ذلك في استخفاف الجهاديين بالعلم الشرعي وإيمانهم بسمو “المقاتل” على “العالم” وأحقيته وحده في قيادة العمل الجهادي.

وبهذا خلقت تمايزا في نخبتها بين “حملة القلم” و”حملة السيف”، ووضعت بذلك نفسها أمام التحدي الذي سيكون محددا لنمط تفكيرها وخياراتها الاستراتيجية، المتمثل في تدبير ازدواجية القيادة: العلمية والميدانية. إنها ذاتها الازدواجية التي تنطوي على التباينات المضمرة بين كل من السلفية والقطبية داخل التيار السلفي الجهادي. فالقيادة العلمية كانت أكثر انجذابا نحو التوجه السلفي، بينما القيادة الميدانية صارت أكثر اقتناعا بالمنهج القطبي، وقد أدى الفشل في احتواء ذلك التحدي إلى نشوب نوع من التنافر بين القيادتين تطور إلى صراع مفتوح، لا سيما بعد أن بادرت القيادة الميدانية إلى تهميش نظيرتها الشرعية من خلال تفعيل معتقدها القطبي حول “أسبقية الجهاد على الفقه” وجعل ميدان القتال حقلا للإملاءات الفقهية.

إن هذه العلاقة بين الزعامتين الشرعية والميدانية، تجسدت أكثر في شخصيتي عبد القادر بن عبد العزيز كعالم شرعي، وأيمن الظواهري كزعيم ميداني، وصارت أكثر وضوحا في العلاقة بين أبي محمد المقدسي بصفته سلطة علمية، وتلميذه أبي مصعب الزرقاوي كسلطة ميدانية. وفي هذه الأجواء سوف يلتفت كل من الجهاديين سيف الدين الأنصاري ومن بعده أبو سعد العاملي إلى أهمية توظيف المنهج القطبي وما يوفره من تبرير لتجاوز علماء الشريعة عبر قاعدة أسبقية “الجهاد على الفقه” في التنظير للعمل الجهادي.

غير أن الحضور القطبي في “التنظير السلفي” أحدث شرخا عميقا في منظومة السلفية الجهادية زاد اتساعا بتمكين غير المختص في الشريعة من صياغة الرؤية الجهادية وتجاوز التأصيل الشرعي، وهذا ما تجسد عبر عاملين اثنين، هما: “القطيعة الشرعية” التي جعلت “الجهادي فقيه نفسه”، ثم “التوسل بالمرجعية” (Appeal to Authority) التي حلَّت محل “مناط الحكم الشرعي” في اجتهاد الجهاديين. وهذا أمر يتضح أكثر في حالة المجندين في المجتمعات الغربية ومن التحق منهم بقوافل “الذئاب المنفردة”.

فظلت ومازالت المفارقات تمزق “السلفية الجهادية” بين التيار التقليدي، ممثلا في الزعامات الدينية للسلفية الجهادية، القائم على التراث السلفي ومنهج الحديثية الإحيائية على طريقة الألباني والمكتفي بفكر قطب عند مستوى التوظيف الثوري لمفرداته، والتيار السلفي الخاضع لسطوة القطبية، الممثل أساسا في القيادات الميدانية لـ”داعش”، وقبله “القاعدة”، وهو التيار الذي زوَّد منظومته السلفية بمنهج سيد قطب التغييري القائم على “التلازم بين النمو الحركي والنمو النظري” وما يرتبط به من تبعات على مستوى تمثل الفقه وإدارة القتال.

هسبريس المصدر: هسبريس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا