“الوحوش الحقيقية ليست تلك التي نراها، بل تلك التي نصبحها حين نتخلى عن الرحمة”. فيلم “شكل الماء”.
تبدأ الحكاية من سؤالٍ بسيطٍ ومخيف في آنٍ واحد: كيف يمكن للفن أن يكون مظلماً ومضيئاً في الوقت نفسه؟ وكيف يمكن للوحش أن يكون إنسانياً أكثر من الإنسان نفسه؟ وكيف يمكن للمخرج أن يصنع من الرعب صلاةً للجمال ومن الخيال درساً في الأخلاق؟ للإجابة على هذه الأسئلة، يقف المخرج غييرمو ديل تورو بوصفه واحداً من أكثر صانعي السينما المعاصرة فرادة، مخرجاً وكاتباً مكسيكياً جعل من السينما مرآةً للطفل الذي يخاف، وللرجل الذي يحلم، وللإنسان الذي يقاوم الظلم بالخيال.
وبهذا استحق هذا التكريم المُقدّم له في مهرجان مراكش الدولي في دورة ديسمبر 2025.
يولد ديل تورو من رحم ثقافةٍ شعبية مشبعةٍ بالتناقض، حيث تتجاور الأسطورة والدين والموت في الحياة اليومية للمكسيك، فتكوّن وعيه البصري من هذا الخليط الذي يجمع العنف بالعاطفة، والتاريخ بالأسطورة، والواقع بالوهم. وتشكّلت هويته السينمائية في هذا الفضاء المزدوج، لتصبح أفلامه حقول اختبارٍ للتوتر بين ما هو مرئي وما هو غائب، بين ما يرويه العقل وما يحلم به القلب. وينتمي ديل تورو إلى ما يمكن تسميته بـ”سينما الفانتازيا الإنسانية”، وهي مدرسة فكرية وجمالية تستثمر الخيال لتفكيك الواقع، وتستدعي العوالم السحرية كي تكشف جوهر الإنسان في لحظة ضعفه أو مقاومته.
وتعتمد هذه السينما على بناء عالمٍ موازٍ للعالم الواقعي، عالمٍ لا يهرب منه المخرج إلى الحلم، وإنما يدخل إليه ليكتشف الحقيقة من زاويةٍ مختلفة. ولهذا يبدو فيلمه “Pan’s Labyrinth”، “متاهة بان” (2006) ناصعاً في قدرته على تحويل الأسطورة إلى فعلٍ مقاوم، إذ يقول على لسان الطفلة أوفيليا: “السحر لا يوجد لمن يرفض الإيمان به”. وهنا تتجلّى فلسفة ديل تورو التي تربط بين الإيمان والخيال، وتحوّل الفانتازيا إلى لغةٍ أخلاقية تُحاكم بها قسوة الواقع.
وتنتمي سينما ديل تورو إلى فضاءٍ يزاوج بين الرعب الكلاسيكي والفانتازيا الشعرية، حيث لا تكون الوحوش رموزاً للشر، وإنما انعكاساً لإنسانٍ مُشوَّهٍ بفعل الخوف أو السلطة أو الحرب. ويقدّم في فيلم “The Shape of Water”، “شكل الماء” (2017)، قصة حبٍّ بين امرأةٍ بكماء ومخلوقٍ مائي، ليقول عبرها إن الآخر ليس مرعباً، وإنما مرآةٌ لرغبتنا في التواصل. ويستخدم في فيلم “Crimson Peak”، “القمّة القرمزية” (2015)، بيتاً مسكوناً بالأشباح لا ليخيف المشاهد، وإنما ليُجسّد أشباح الذاكرة التي تطارد الإنسان. وتتجاوز أفلامه مفهوم النوع الفني إلى ما هو أبعد، لتصبح مساحةً للتأمل في معنى الاختلاف والهشاشة والجمال.
ويؤمن ديل تورو أن الحكاية هي وسيلة النجاة الوحيدة في عالمٍ يتآكل بالخراب، لذلك يبني سرده السينمائي على التكرار الرمزي والانتقال بين مستويين متوازيين من الواقع والخيال. وفي أفلامه، تتكلم الصور كما تتكلم الكلمات، وتتحرك الكاميرا لا لمتابعة الحدث، وإنما لاستكشاف الروح. ويتحرك البناء السردي وفق إيقاعٍ يشبه الحلم، حيث يتقاطع الماضي بالحاضر، والحياة بالموت، والطفولة بالنضج. ويخلق المخرج توازناً دقيقاً بين الرعب والعاطفة، ويحوّل العنف إلى استعارةٍ عن الحرمان الإنساني، كما في مشهد الدم والورد في “القمة القرمزية”، حين تمتزج الجماليات البصرية بألم الذاكرة.
وتتخذ أفلامه هويةً خطابية تقوم على مقاومة الظلم بكافة أشكاله، سواء كان سياسياً أو اجتماعياً أو عاطفياً. وفي فيلم “متاهة بان”، تقاوم الطفلة الفاشية الإسبانية عبر خيالها، لتصبح المتاهة رمزاً للوعي المقاوم، وفي “The Devil’s Backbone”، “عمود الشيطان” (2001)، يتحول بيت الأيتام المهجور إلى مرآةٍ لضحايا الحرب الأهلية الإسبانية، حيث يقول أحد الشخصيات: “ما الشبح إلا مأساة محكوم عليها بأن تتكرر إلى الأبد”. وهنا يُعيد ديل تورو تعريف الشبح كفكرةٍ سياسيةٍ عن التكرار التاريخي للعنف، وليس ككائنٍ خارق.
تعكس الرؤية الإخراجية لديل تورو حسّاً بصرياً فريداً يقوم على التكوين التشكيلي المدروس واللون الرمزي والإضاءة التعبيرية. ويستخدم الألوان الدافئة حين يتحدث عن البراءة والأمل، كما في فيلم “شكل الماء”، ويغرق الشاشة بالظلال حين يتناول الفقد والظلم كما في فيلم “متاهة بان”، ويتحرك الضوء في أفلامه ككائنٍ حيٍّ يعبّر عن الحالة النفسية للشخصيات، فتبدو الكاميرا كعينٍ تحلم لا كآلةٍ تراقب. ويمتلك المخرج قدرةً نادرة على تحويل كل لقطة إلى لوحةٍ تجمع بين القسوة والجمال، بين الألم والحنين، وبين العتمة والنور.
ويضع المخرج ديل تورو في قلب أفلامه فكرة “الإنسان المهدد”، وهو الكائن الذي يواجه العالم بقلبٍ مثقلٍ بالخيال. ولا يظهر البطل في أفلامه كمنتصر، وإنما كمقاومٍ للحقيقة الصعبة، ويحمل في داخله وحشاً يخاف منه ويحتاج إليه. ولذلك تتحول الهوية في أفلامه إلى سؤالٍ مفتوح: هل الوحش هو الآخر المختلف، أم هو نحن حين نكفّ عن الحلم؟ ويجيب المخرج عبر أعماله بأن الوحش الحقيقي ليس من يخيفنا، وإنما من يفقد قدرته على الحب.
وتنهض سينما ديل تورو على أطروحةٍ إنسانيةٍ كبرى: لا يمكن للإنسان أن يكون كاملاً إلا حين يعترف بضعفه. ولهذا يجعل من الهشاشة فضيلة، ومن الخيال وسيلةً للفهم، ومن الحكاية ملاذاً للنجاة. في فيلم “شكل الماء” يقول أحد الشخصيات: “لقد أصبحنا نحن الآلهة الآن”، في إشارةٍ إلى مسؤولية الإنسان المعاصر حين يفقد إنسانيته باسم التقدم. وفي فيلم “Hellboy”، “الولد الجحيمي” (2004)، يخلق بطلاً شيطانياً يدافع عن البشر، ليقلب معايير البطولة رأساً على عقب، مؤكداً أن الخلاص لا يأتي من النقاء، وإنما من الاعتراف بالظلمة التي فينا.
وتُثير سينما ديل تورو أسئلةً ملتهبة حول العلاقة بين الفن والهوية. وهل يمكن للفانتازيا أن تكون أكثر صدقاً من الواقع؟ وهل يمكن للجمال أن يولد من الرعب؟ وهل يمكن للحكاية أن تُنقذ الذاكرة من التلاشي؟ في كل إجابةٍ محتملة، يبقى ديل تورو يذكّرنا بأن السينما ليست مرآةً للواقع فقط، وإنما حلمٌ يتنفس، وأن الوحش الذي نخاف منه في الظلام ليس سوى ظلٍّ من ظلال أرواحنا.
ويتحوّل عالمه السينمائي إلى مختبرٍ للإنسانية، حيث يتقاطع الخيال بالسياسة، والجمال بالمعاناة، والطفولة بالوعي. ولذلك لا تبدو أفلامه هروباً من الواقع، وإنما عودةٌ إليه من بوابة الخيال. ويبني المخرج عالماً متكاملاً من الرموز، يجعل فيه الأسطورة لغةً، والوحش رمزاً، والحب خلاصاً. ولا يُخرج ديل تورو أفلاماً عن الوحوش، بقدر ما تتحدث عن البشر الذين فقدوا طريقهم في المتاهة، وما زالوا يبحثون عن الضوء.
وهكذا تصير سينما غييرمو ديل تورو مرآةً للإنسانية في أقصى حالاتها هشاشةً ودهشةً، وتصير احتفالاً بالحلم كفعلٍ مقاومٍ للظلام، وتصير في عمقها تأكيداً على أن الخيال ليس هروباً من العالم، وإنما أعمق أشكال حضوره.
يتجسد البطل في سينما غييرمو ديل تورو بوصفه كائناً هشاً، مسكوناً بالخوف، ومشبَعاً بالرحمة، ويواجه العالم بالخيال والوعي لا بالقوة. ويتحرك في فضاءٍ يختلط فيه الأسطوري باليومي، ويتحوّل إلى مرآةٍ للإنسانية المهددة من قسوة الواقع ومن قسوة الذات. ويخلق المخرج المكسيكي أبطاله من طين الحلم ومن ألم الوعي، ليعيد تعريف البطولة كفعلٍ إنسانيٍّ أخلاقيٍّ قبل أن تكون انتصاراً على العدو. ويقول في أحد حوارات فيلم “شكل الماء”: “حين لا نفعل شيئاً، نتوقف عن أن نكون”، وهي عبارة تختصر فلسفة بطله الذي يختار الفعل مهما كان صغيراً، لأن الصمت موتٌ أخلاقيٌّ لا يقل فداحة عن الجريمة.
ويبدأ ديل تورو تشكيل بطله من الداخل، فيمنحه وعياً بالحزن قبل الشجاعة، ويجعله يواجه العالم وهو يعلم أن الخسارة جزء من الوجود. وتظهر أوفيليا في فيلم “متاهة بان”، كطفلةٍ تواجه الجنرالات، لا بالسلاح وإنما بخيالها. وترفض الخضوع للسلطة وتختار الحكاية طريقاً للتحرر، قائلةً للمخلوق الذي يختبرها: “اسمي أوفيليا، وأنا لا أخاف منك”، لتؤكد أن البطولة تبدأ حين يتجاوز الخيال الخوف. وفي فيلم “الولد الجحيمي”، يتحول الشيطان إلى حارسٍ للبشر، يواجه قدره بالحب، ويعلن في أحد حواراته: “ما الذي يجعل الرجل إنساناً؟ إنها اختياراته”، وهي إجابة تختصر رؤية المخرج للعالم: البطولة فعل أخلاقي نابع من الإرادة الحرة.
وينحاز ديل تورو في مجمل أعماله إلى المهمشين والغرباء والمنبوذين وعوالم المقهورين، فيجعل من المختلف بطلاً، ومن الوحش كائناً قادراً على الحب، ومن الضعف مصدراً للقوة. ويدافع عن الحق في الاختلاف وعن جمال النقص الإنساني، فيضع بطلاته أمام سلطةٍ قاسيةٍ أو واقعٍ قمعيٍّ ويمنحهن الخيال كأداةٍ للمقاومة. وتقف إليزا، في فيلم “شكل الماء”، المرأة البكماء، في وجه مؤسسةٍ عسكريةٍ عنصرية، وتحب مخلوقاً بحرياً يُعامل كغنيمة علمية. وتقول بإيماءةٍ لا تحتاج صوتاً: “الحب لا يحتاج لغة”، لتغدو اللغة هنا جسداً ناطقاً، والعاطفة خطاباً إنسانياً يسبق المنطق.
ويمنح ديل تورو بطله وعياً اجتماعياً يتجاوز الذات الفردية، فيحيل الصراع في أفلامه إلى مواجهةٍ بين القهر والكرامة، وبين النظام الفاسد والحلم النقي. ويجسد بطل فيلم “عمود الشيطان”، تلك الجدلية من خلال أيتام الحرب الإسبانية الذين يعيشون وسط الأطلال، ويصرّ أحدهم قائلاً: “الخوف عبء ثقيل”، لتتحول الجملة إلى بيانٍ إنسانيٍّ عن ثقل الخوف في عالمٍ منقسمٍ بين الجلاد والضحية. ويعيد المخرج رسم التاريخ من وجهة نظر الأطفال والضعفاء والمهمشين، ليكتب سينما تتحدث بصوتٍ إنسانيٍ جمعيٍّ ضد الحرب والظلم والتسلط.
يؤسس البطل في أفلام ديل تورو علاقةً مع الجسد بوصفه ساحةً للصراع النفسي والاجتماعي والرمزي. ويتحول الجسد إلى وثيقةٍ للذاكرة وإلى مساحةٍ للكشف عن الجرح الإنساني. وفي فيلم “القمة القرمزية” ينزف البيت كما ينزف الجسد، وتتحول الجدران إلى جلدٍ حيٍّ يتنفس الألم. وتجسد البطلة إديث الشخصية التي ترى الأشباح وتمشي في أروقة الماضي كمن يمشي في جسده الداخلي. ويربط المخرج بين الجسد والمكان في توليفةٍ رمزيةٍ جماليةٍ تجعل الفضاء المعماري امتداداً للنفس البشرية، فيغدو البيت روحاً ثانية، واللون الأحمر دم التاريخ الذي لا يتوقف عن النزف.
ويتعمق البعد النفسي في سينما ديل تورو عبر تتبّع القلق الإنساني في لحظات الضعف والاختيار. وتبرز الشخصيات في لحظة انقسامها بين ما تريد وما تخشى، فتتجسد مأساة الإنسان المعاصر الذي يطارد ذاته في مرآة العالم. وتتحول الوحوش في هذه الأفلام إلى رموزٍ للاضطرابات الداخلية، كما هو الشأن في شخصية The Pale Man في فيلم “متاهة بان”، ليس كائناً خارقاً بقدر ما هو صورة للجشع الإنساني الذي يلتهم براءة الأطفال. ويخلق ديل تورو عالماً تحكمه الرموز، حيث تتحول التفاصيل الصغيرة إلى إشاراتٍ عن خوفٍ أكبر، وحيث يصبح الرعب تعبيراً عن الحاجة إلى الأمان لا نقيضه.
وتتحرك السينما الديلتوروية (نسبة إلى ديل تورو) في بعدٍ اجتماعيٍ كثيفٍ يتناول قضايا الهجرة، والتفاوت الطبقي، والسلطة الذكورية، والهوية الثقافية المكسيكية. ويربط المخرج بين الإنسان والبيئة، بين السياسي والروحي، فيخلق فضاءً سردياً يعيد للخيال دوره كقوةٍ مغيرة. ويكتب أفلاماً تشبه القصص الشعبية لكنها محملةٌ بوعيٍ نقديٍ عميق. ويظهر هذا البعد في فيلم “The Book of Life”، “كتاب الحياة” (2014) وفي أعماله المنتجة مثل “اليتيم” (2007) و”ماما” (2013)، حيث يسلّط الضوء على الأمومة والفقدان والحماية. ويرفع المخرج صوت المهمشين الذين يعيشون على أطراف المدن والذاكرة والتاريخ، ليعيد لهم حضورهم في مركز الحكاية.
ويمنح ديل تورو لغته السينمائية طابعاً إنسانياً شعرياً يستند إلى الإيماءة والرمز لا إلى الخطابة. وتكتب الكاميرا الجمل البصرية كما تُكتب القصيدة، وتتحرك الألوان بوصفها حروفاً في جملةٍ طويلةٍ عن الحياة. ويستعمل اللون الأزرق للحلم، والأخضر للغواية، والأحمر للذاكرة، فيجعل من كل فيلم معجماً بصرياً متكاملاً. وتصير اللغة الجمالية لديه امتداداً لوجدان الإنسان، فتتحول الإضاءة إلى إحساسٍ، والموسيقى إلى لغةٍ بديلةٍ للبوح. وفي مشهد النهاية من فيلم “شكل الماء”، يهمس الراوي قائلاً: “حين أعجز عن إدراك شكلِك، أجدك تحيط بي من كل جانب”، لتغدو العبارة تلخيصاً للشعور الجمالي العميق الذي تصنعه أفلامه: الإيمان بجمال اللامرئي.
وتغوص الأبعاد الرمزية في أفلام ديل تورو في الميثولوجيا واللاهوت الشعبي، فتتحول المخلوقات الغريبة إلى استعاراتٍ عن الذات والقدر والآخر. وتظهر الرموز الدينية كعناصرٍ بصريةٍ مشحونةٍ بالمعنى، حيث يصبح الوحش في الجزء الثاني من “الولد الجحيمي 2: الجيش الذهبي” (2008)، تجسيداً لرفض النبوءة، ويغدو الملاك في فيلم “Cronos”، “كرونوس” (1993) تذكيراً بثمن الخلود. ويربط المخرج بين الخرافة والواقع من خلال شبكةٍ دقيقةٍ من الرموز التي تتحدث عن الحب والفناء والزمن، والمعنى. وتتقاطع الأسطورة بالمأساة، ويتحوّل الخيال إلى طريقةٍ لفهم العدل والرحمة في عالمٍ يتآكل من الداخل.
يمنح ديل تورو أبطاله القدرة على الفعل من داخل الهشاشة، ويعيد صياغة البطولة كوعيٍ أخلاقيٍ لا كقوةٍ خارقة. وتتحول أفلامه إلى دروسٍ في المقاومة الناعمة، حيث لا ينتصر البطل على العالم، وإنما يحاول فهمه، حيث يربح الإنسان حين يختار الحب على الكراهية، والخيال على القسوة، والإيمان على اليأس.
وتغدو السينما في يده مرآةً للزمن المعاصر الذي تملؤه الانقسامات، لكنها أيضاً دعوةٌ إلى المصالحة مع الجمال. وتبرز شخصياته وهي تنطق بالحقيقة عبر الصمت، وتخوض المعركة الكبرى ضد النسيان. ويقف البطل فيها على تخوم الحلم، يمد يده إلى الظل، ويقول كما قال بطل فيلم “الولد الجحيمي” (2004): “ما الذي يجعل الإنسان يدير ظهره للعالم؟” ليجيب المخرج عبر صورته: الألم هو الجواب.
وتتشابك الأبعاد السياسية والنفسية والجمالية في هذه السينما لتشكل رؤيةً متكاملةً للعالم، رؤية تؤمن بأن الخيال أصدق من الخطاب السياسي، وأن الصورة قادرة على قول ما تعجز عنه اللغة. ويتحرك الإنسان فيها بين الضوء والظلام، ويتعلم أن لكل جرحٍ معنى، وأن لكل فقدٍ وعداً بالتجدد. وتتجلى القيم التي يدافع عنها المخرج في دفاعه عن الحب والحرية والاختلاف والرحمة، لتصبح أفلامه حواراً مفتوحاً بين الإنسان وظله، بين الحلم والواقع، بين الله والوحش.
تقدم أفلام ديل تورو رحلتها دائماً بنغمةٍ حزينةٍ ومضيئةٍ في آنٍ واحد، نغمة تقول إن النهاية ليست موتاً وإنما ولادةً جديدة للمعنى. وفي ختام هذا العالم المدهش، يمكن أن نسمع صدى كلمات أوفيليا من فيلم “متاهة بان” (2006): “عادت الأميرة إلى مملكة أبيها، حيث حكمت باللطف والعدل”، وتختصر هذه الجملة جوهر سينما غييرمو ديل تورو، تلك السينما التي تؤمن بأن الخيال ليس هروباً من الواقع، وإنما عودةٌ إلى إنسانيتنا المفقودة عبر طريقٍ من الضوء يمرّ في قلب العتمة عبر عدالة الحب والعدل.
المصدر:
هسبريس