آخر الأخبار

الذكرى 50 للمسيرة الخضراء المظفرة .. من التحرير إلى ترسيخ السيادة

شارك

خلال أيام قليلة يحتفل المغرب بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء المظفرة التي سيذكر التاريخ الوطني والعالمي أنها شكلت ثورة فريدة من نوعها، غير مسبوقة شكلا ودينامية، في سجل حركات التحرر الوطني من الاستعمار ومخلفاته الجيوسياسية العميقة. وخلال أيام قليلة كذلك ينعقد مجلس الأمن الدولي حول قضية الصحراء المغربية، حيث سنعرف نتائج عمل دؤوب وجبار قاده المغرب والولايات المتحدة الأمريكية في إطار شراكتهما الإستراتيجية.

بين لحظتي 1975 و2025 يبدو واضحا نموذج رائع لمعنى صناعة التاريخ، وتجل حقيقي لمفهوم “الدولة- الحضارة”، الذي يصف المملكة المغربية بأنها ليست مجرد دولة قومية حديثة، بل كيان فريد من نوعه – مزيج من أقدم دولة مستمرة في العالم ودولة حديثة صاعدة.

كان صانع المسيرة الخضراء، الملك الحسن الثاني رحمه الله، مسكونا بالتاريخ، وشكل شخصه وشخصيته نموذج الإنسان المغربي كما نشأ وتطور منذ غابر العصور حتى وصل إلى العالم نهاية القرن العشرين على أرض هذه البلاد الممتدة بين البحر المتوسط والمحيط الأطلسي حتى أعماق الصحراء. من هنا ينبغي النظر إلى المسيرة الخضراء كحدث تاريخي عميق أعاد جزءا من التراب إلى لحمة الوطن والموطن بعد أن فعل المبضع الاستعماري فعلته في تمزيق وتقطيع الكيانات الوطنية الأصيلة مثل المغرب من جهة، وخلق كيانات وحدود جديدة بعيد عن روح البشر وتاريخه من جهة أخرى.

ويمكن أن نجزم أن “المسيرة” في جوهرها كانت بمثابة إغلاق قوس الكولونيالية الأوروبية على أرض الصحراء؛ بإمكانيات مادية محدودة وتحت ظروف دولية معاكسة بالغة الاستقطاب والتعقيد، كما في محيط إقليمي وجد أصلا لمعاكسة أي طموح تحرري في كل شمال إفريقيا. ومنذ استكمال تحرير أرضه انتهت الأطماع في التراب الوطني بأن أصبح المغرب في صحرائه والصحراء في مغربها.

لكن خلال الخمسين عاما الماضية جرت مياه أحداث كثيرة ومعارك طاحنة على المستوى الدبلوماسي والعسكري للدفاع عن الوحدة الترابية للبلاد. هذه المدة ليست هينة في تاريخ الشعوب، لكنها كافية لرصد الحصيلة ولاستقراء الحاضر كما لاستشراف المستقبل.

ليست لدي لا الصفة ولا الموقع لإصدار أحكام القيمة وما الذي كان صائبا أو خاطئا، لكن أستطيع أن أثبت أنه خلال نصف قرن ظلت مقاومة المغرب في جوهرها حربا دبلوماسية، أخذت أشكالا مختلفة وجرت أطوارها في مؤسسات دولية وعواصم عالمية عديدة، وفي دهاليز صناعة القرارات السياسية الكبرى التي تتحكم في السياسة الدولية؛ وبالأخص في المجريات الجيوسياسية للصراعات والنزاعات ذات الطابع الإقليمي.

هكذا في لحظة حاسمة أواخر عام 1975، ورغم كل الشروط العنيدة، قرر الملك الحسن الثاني بعبقرية وشجاعة منقطعة النظير القيام بالمسيرة الخضراء، لأنه كان يرى الأمر من زاوية التاريخ العميق للأمة المغربية وليس من عوائد الزمن السياسي العابرة في البلاد، التي منها فقدان الاستقلال الوطني وضياع مساحات من الوطن التاريخي.

منذ قرار محكمة العدل الدولية بلاهاي ذات عام 1974 وحتى 31 أكتوبر 2025 يعيش المغرب الرسمي والشعبي قضية الصحراء في وجدانه ودمه ومصالحه، معبئا من أجل تحصين حقوقه الترابية، ولم يدخر جهدا أو موارد في مواجهة أطماع الخصوم والأعداء أو في إقناع وضمان ثبات الأصدقاء والحلفاء. وهكذا مررنا من مشاريع مدمرة من الاستفتاء إلى الاقتسام إلى التهديد بالفصل السابع لمجلس الأمن تحت عهد بيكر. كان هذا المرور عسيرا ومكلفا حتى جاء جلالة الملك محمد السادس عام 2007 بمشروع الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية. هنا أخذت الدبلوماسية المغربية زمام المبادرة وأخذت المنحنيات البيانية للحرب الدبلوماسية تتجه صعودا في صالح المغرب حتى جاءت لحظة الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، وبعده الإسباني ثم الفرنسي، وذلك في الفترة الممتدة من 2020 إلى 2024.

وبالنسبة لقضية الصحراء المغربية فإن أهمية الولايات المتحدة الأمريكية لا تكمن فقط في التعامل مع دبلوماسيتها الرسمية، ولكن مع ما يعتمل فيها من تيارات ومذاهب فكرية وسياسية وقوى اقتصادية ومالية مستقلة عن الدولة ومؤسساتها ومؤثرة فيها. أمام هذه المركبات العملاقة لا يمكن التعامل إلا بآليات مغايرة وخلاقة تشتغل خارج المؤسسات والحدود والتقاليد الرسمية المتشددة، وهكذا تعامل لن يتحقق إلا في إطار الدبلوماسية الموازية أو ما يصطلح عليها أحيانا بالدبلوماسية العامة أو الشعبية.

في هذا الصدد يشكل خطاب جلالة الملك محمد السادس يوم 11 أكتوبر 2024 عند افتتاح الدورة البرلمانية مرجعا موجها للعمل غير الحكومي مع الخارج. في هذا القول السامي نقف فعلا عند ما يمكنه تسميتها “عقيدة الدبلوماسية الموازية المغربية”، حيث يقول جلالة الملك:

“لقد قلت، منذ اعتلائي العرش، أننا سنمر في قضية وحدتنا الترابية من مرحلة التدبير إلى مرحلة التغيير، داخليا وخارجيا، وفي كل أبعاد هذا الملف. ودعوت كذلك للانتقال من مقاربة رد الفعل إلى أخذ المبادرة، والتحلي بالحزم والاستباقية.

وفي هذا الإطار يجب شرح أسس الموقف المغربي للدول القليلة التي مازالت تسير ضد منطق الحق والتاريخ، والعمل على إقناعها، بالحجج والأدلة القانونية والسياسية والتاريخية والروحية، التي تؤكد شرعية مغربية الصحراء.

وهو ما يقتضي تضافر جهود كل المؤسسات والهيئات الوطنية، الرسمية والحزبية والمدنية، وتعزيز التنسيق بينها، بما يضفي النجاعة اللازمة على أدائها وتحركاتها.

ولا يخفى عليكم، معشر البرلمانيين، الدور الفاعل للدبلوماسية الحزبية والبرلمانية، في كسب المزيد من الاعتراف بمغربية الصحراء، وتوسيع الدعم لمبادرة الحكم الذاتي، كحل وحيد لهذا النزاع الإقليمي.

لذا، ندعو إلى المزيد من التنسيق بين مجلسي البرلمان بهذا الخصوص، ووضع هياكل داخلية ملائمة، بموارد بشرية مؤهلة، مع اعتماد معايير الكفاءة والاختصاص، في اختيار الوفود، سواء في اللقاءات الثنائية، أو في المحافل الجهوية والدولية”.

إن العمل برؤية واضحة كهذه وبالاستثمار الجيد والذكي لكل الوسائل والإمكانيات المتاحة في تدبير فعاليات الدبلوماسية الموازية المغربية شرط ضروري من أجل تأثير أفضل على مستوى المرافعة الخاصة بالوحدة الترابية والسيادة الوطنية.

على المستوى العام تعرف الدبلوماسية الموازية بأنها مجموع المبادرات والأنشطة الدبلوماسية التي تُمارَس خارج الأطر الرسمية من قِبل فاعلين غير حكوميين. وفي الولايات المتحدة الأمريكية تُعدّ هذه الدبلوماسية مكمِّلةً للدبلوماسية التقليدية، وتمارس تأثيراً ملموساً في عملية صنع القرار المتعلق بالسياسة الخارجية.

من المفيد أن نشير إلى أن حقل الفاعلين في مجال الدبلوماسية الموازية الأمريكية يشمل طيفاً واسعاً من القوى غير الحكومية، يتحلقون في خمس دوائر كبرى للتأثير ولمصادر النفوذ؛ تمكّن من توسيع دائرة المشاركة في صياغة السياسة الخارجية بما يعكس تعددية المصالح والرؤى داخل المجتمع الأمريكي، وبما يفرض على صانعي القرار في واشنطن الموازنة الدقيقة ومراعاة الانسجام بين مختلف الفاعلين الرسميين وغير الرسميين، في تناغم مع الأهداف الإستراتيجية للدولة الفيدرالية.

هكذا نجد:

جماعات الضغط التي تمارس دوراً محورياً في توجيه القرار السياسي من خلال الضغط المباشر، والتأثير في الرأي العام، وتمويل الحملات الانتخابية بغية تبنّي مواقف تخدم مصالحها.

مراكز الفكر والخبراء التي تساهم في بلورة التوجهات الإستراتيجية عبر تقديم الدراسات والتحليلات والتوصيات التي يستعين بها صانعو القرار في إدارة ملفات السياسة الخارجية.

المنظمات غير الحكومية التي تؤدي دوراً فاعلاً في مجالات حقوق الإنسان والمساعدات الإنسانية، وتسعى إلى توجيه الاهتمام نحو قضايا محددة من خلال التأثير في الرأي العام والضغط على الإدارة الأمريكية لاتخاذ مواقف معينة.

الشركات متعددة الجنسيات التي تشكّل فاعلاً رئيسياً في ميدان الدبلوماسية الاقتصادية، حيث تدافع عن مصالحها التجارية والاستثمارية، وتؤثر في المفاوضات الدولية والسياسات التجارية الخارجية.

وسائل الإعلام والشبكات الشخصية التي تسهم كذلك في تكوين بيئة ضغط غير رسمية، من خلال تشكيل التصورات العامة وتحديد أولويات النقاش السياسي على المستويين الداخلي والخارجي.

في هذا السياق، وأمام حجم الفرص والمؤهلات التي تتيحها آليات وفعاليات الدبلوماسية الموازية في الولايات المتحدة، فإنه يصبح من الملح دعوة الفاعلين غير الحكوميين المعنيين بالأمر والقوى المدنية المؤهلة إلى التعبئة والعمل على بناء شراكة إستراتيجية مع المجتمع المدني الأمريكي يحضر فيها بارزا البعد الإفريقي للمغرب؛ فالكل يعلم مدى الدور الحيوي الذي يلعبه في عمليات صنع القرار السياسي، وفي رسم بعض المعالم والحدود للسياسة الخارجية؛ والكل يعلم مدى تأثير مشاركة فاعليه في صياغة الأولويات الدولية للولايات المتحدة من خلال توجيه النقاش العام، واقتراح بدائل للقرارات الحكومية، وتعزيز نهج أكثر تعددية وشمولية في العلاقات بين الشعوب والأمم.

في المغرب يلزم الاعتراف بأن المجتمع المدني يحمل في طياته إمكانيات وطاقات واعدة لكنه لم يبرح بعد مرحلة نموه الأولية. في المقابل لدينا مؤسسات دستورية وطنية يمكنها أن تشكل حاضنة مرنة ومصاحبة ذكية لكل المبادرات والمشاريع غير الحكومية المندرجة في ديناميات بناء الشراكة المرجوة. من بين هذه المؤسسات نجد المجلس الوطني لحقوق الإنسان، المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، مجلس الجالية المغربية بالخارج.

يقوم هذا التصور على مشروع يسند بناء هذه الشراكة الإستراتيجية بين منظمات المجتمع المدني الأمريكية ونظيرتها المغربية على أهداف مشتركة وقيم موحّدة؛ على رأس قائمتها مبدأ احترام سيادة الدول ووحدة ترابها، مع اعتماد تعاون قائم على التكافؤ وتكامل الخبرات. ويُفترض تعزيز العمل المشترك ووضع هذه الشراكة في إطار قانوني مرن واضح، مع آليات شفافة للحكامة، وقدرة على التكيّف مع السياقات المتغيرة. أخيرًا، يرجى أن تساهم فعالية التواصل البشري والثقافي بين البلدين والدعم المؤسسي في تعزيز استدامة هذا التعاون وأثره.

في الخلاصة، هذا النوع من الشراكة يتطلب رؤية طويلة المدى، وصبراً مؤسسياً، والتزاماً دائماً بالحوار بين الثقافات لكي تكون إستراتيجية ومفيدة للطرفين بشكل حقيقي.

وفي الختام يطرح سؤال البدء أمام هذه الدعوة لبناء شراكة إستراتيجية مع المجتمع المدني الأمريكي الفاعل على مستوى الدبلوماسية الموازية بواشنطن. هنا يمكن اقتراح البدء في الاشتغال على أربعة مجالات ذات بعد إفريقي شامل تحظى بالاهتمام من الطرفين الأمريكي والمغربي، وهي السلام، الأمن، التنمية، والعمل الإنساني.

وحده طرح هذا الموضوع في النقاش العمومي كفيل بأن يساعد على البدء بالخطوة الأولى على هذا الطريق الذي فيه يسلتهم السائرون روح المسيرة الخضراء وعبقريتها.

هسبريس المصدر: هسبريس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا