آخر الأخبار

الهوية الممزقة في سينما "الجيل Z" .. الإفلات من الضياع بالصوت والصورة

شارك

تتساءلُ نفسي بخطى متسارعة: من هو الجيل زد؟ هو الجيل خرج للوجود بين منتصف التسعينيات ومطلع الألفية الجديدة؛ نشأ مع الإنترنت الذي لا يهدأ، مع الشاشات التي لا تُطفأ، مع الهواتف التي تُوثّق لحظة الفرح والخوف معًا. الجيل صار يُربِّي الحِسّ بالاختلاف، بالشك، بالقلق. كيف يرى هذا الجيل السينما؟ كيف يرى البطل؟ كيف يُعبّر عن ذاته في عالمٍ تناقضُه الصورة بقدر ما تُسيّره؟ كيف لا يُخفق في أن يُحِسّ أن صوته مسموع وأن وجهه مرئي، رغم كل الأضواء الزائفة؟

يروي فيلم “Love, Simon” (حب، سيمون) (2018) من إخراج Greg Berlanti، عبر شخصية Simon Spier قوله: “أنا أكثر مما تقول إنني عليه”. تشعلُ تلك العبارة لهيب السؤال: لمَ يظلّ الآخرون يُحدّدونك؟ ولمَ تُصبح هويتك مشروع نقد عليك أن تدافع عنه دومًا؟

ماهيّة سينما الجيل “Z”

تكتملُ سينما الجيل “زد” كمشهدٍ متحرّكٍ، تتداخل فيه الأبعاد الشخصية مع العمومية، وتختلط فيه الحميمية الرقمية مع التجربة الواقعية. وتتبنّى القيم الجديدة: الشفافية، العدالة الاجتماعية، الحماية النفسية، الاعتراف بالذات، التنوع الجنسي والعرقي، ومكافحة الصمت. وتؤمن بأن الصورة ليست تزيينًا، وإنما قوة تحمل همًّا، سؤالًا، غضبًا. وتصوّرُ بطلاً لا يأباه الخطأ، يتلعثم، ينكسر، ويُعيدُ بناء ذاته. ولا تسعى البطولة عنده إلى انتصار العدة أو السيف، بقدر ما يسعى إلى انتصار الصدق والعاطفة، وتدنّي الصوت إن اضطر الأمر، واعتماد التردد كموقفٍ وجوديٍ قوي.

وتفرضُ التداخلات الرقمية وتبيان إشكالية الحقيقة بالارتباط مع الصورة وقلقها، كيف يُعرّف شخصٌ ذاته حين تُحكى قصّته في مقاطع فيديو، وفي فلتراتٍ، وفي قصاصات منشورة؟ وكيف تُقطع الأنا بكمٍّ هائل من التعليقات والحكم الاجتماعي؟ وتواجه الصحة النفسية تحديًا خطيرًا حيث القلق والاكتئاب والانعزال. ويواجه البطل جرح التمييز العرقي أو الجنسي أو الطبقي برغم واجهة التنوع والحرية التي تُقدّمها هذه السينما.

وتنتشرُ مفارقات اقتصادية متعددة من جهة الطموح، ومن جهة الفرص المحدودة، ومن جهة التفاوت المالي الذي يجعل الحلم عبئًا. وسياسيًا، تتوّلد مقاومة الصمت، ومقاومة العنف المؤسسي، والتنمّر، والعنصرية، واستعمال السلطة. وتنشأ ثقافيا صدامات بين التقاليد والحداثة، بين محليّة الهوية والعولمة، بين اللغة الأم وصورة الغرب، بين ما يُطلب أن تكونه وبين ما تشعر أنك.

التمرد الصامت

يستخدم الراوي الداخلي في سينما الجيل “Z” الاعتراف في تمثلات متعددة مثل الاعتراف والتمرد الصامت، والأسئلة التي تُطرح لا كخاتمة إنما كبداية. ويختار الخطاب أن يكون مباشرًا، عاريًا من الزينة، الألفاظ القريبة من اللغة اليومية، المزج بين الحوار الصامت والكلمات المكتومة، بين ما يُقال وما يُخفي.

وتُنسج الهوية البصرية من تفاصيل الهاتف المحمول كامتداد للذات، والشاشة كفضاء وعرض وصدام، والإضاءة التي تضيء الوجه أو تترك نصفه في الظل، واللقطات المقربة التي تلتقط الذلّ والدمعة، والألوان التي تنتقل من الفاتح إلى العتمة الرماديّة، والموسيقى التي تهمس ثم تعلو ثم تختفي، والمونتاج الذي يقفز في الزمن، الذي يخلط الماضي، الحاضر والمستقبل، الذي يفتّح التقطيع الزمني كأن الزمن نفسه قلق.

وتظهر أمثلة حيّة تلك الهوية في نماذج أفلام سينما الجيل “زد” حيث نجد في فيلم “The Edge of Seventeen” (حافة السابعة عشر) (2016) من إخراج Kelly Fremon Craig، مشهد نادين فرانكلين التي تقول: “خطر في ذهني أسوأ ما يمكن: عليّ أن أمضي بقية حياتي مع نفسي”.

تلك اللحظة تُظهِرُ أن الذات الصامتة تواجهها أصعب اللحظات قد لا تكون في الصراخ إنما في الاستمرار في التعايش مع الخوف. ويعبر Simon Spier عن رفضٍ للتصنيف في فيلم “حب، سيمون” (2018) من إخراج Greg Berlanti: “أنا أكثر مما تقول إنني عليه”.

تدور قصة فيلم “الكراهية التي نمنحها” (2018)، للمخرج جورج تيلمان جونيور، حول ستار كارتر، مراهقة أمريكية من أصول إفريقية تعيش في حي فقير اسمه غاردن هايتس، في الوقت الذي تدرس فيه في مدرسة خاصة بيضاء نخبوية تقع في منطقة غنية. يعكس هذا الانقسام المكاني انقسامًا هوياتيًا أشد تعقيدًا تعاني منه ستار، فهي تعيش في عالمين متناقضين وتحاول أن تُخفي جانبًا من هويتها كي تتماهى مع الوسط الأبيض الذي لا يفهم خلفياتها الثقافية والاجتماعية وحاجتها لأن يُسْمَع صوتها، أن يُرى ألمها، أن تُطالِب بحياة لا تُدينها مجتمعية العنصرية أو الصمت. وتتردد ستار طويلًا قبل أن تتحدث، ينهشها الخوف والغضب والشك، لكنها تقول في أحد أكثر اقتباساتها عمقًا: “أنا تلك الفتاة التي خافت أن تقول الحقيقة، والآن أخاف أكثر أن أصمت”.

الاعتراف بالذات والهشاشة كحالة إنسانية

تُركّز سينما الجيل “ص” على الهوية المتعدّدة: الهوية الجنسية، العرقية، الثقافية، الرقمية. وتُؤكد على أهمية الاعتراف بالذات، على ضرورة أن تُشاهد وتُسمع، على أن تُعترف الهشاشة كحالة إنسانية لا خَجَلَ فيها. تُطالب بالعدالة الاجتماعية في السكن، في التعليم، في الصحة النفسية، في حرية التعبير. وتكشف أن الظلم ليس فقط في الأحداث الكبرى، وإنما في الكلام اليومي، في التحيّزات الصغيرة، في عدم الرؤية.

وتقترح أن القصة الكبرى قد تكون متى ما قصّت قصة صغيرة، قصة سريرة نوم، رسالة نصيّة أُرسلت بالخطأ، نظرة في المرآة، وصدى صوت داخلي. وتُعيد بناء الحكاية من الداخل، من الذات، من الصراع اليومي، من الألم الذي لا يُرى.

تنتمي خلفية هذه السينما إلى تيارات فلسفية مثل الوجودية التي تسأل “مَنْ أنا؟”، و“ماذا يعني أن أَكون؟”، والتي تفضلُ التجربة الحسية والذاتية على السرد الجامع، والتي ترفض أن تُسكَت الأصوات المهمّة. وتنبثق من ثقافة ما بعد الحداثة التي تفكك الأسطورة الحقيقية “للغرب”، والتي تشكّك في الإيديولوجيات الكبرى، والتي ترى اللغة والهوية صورةً وأنماطًا قابلة للتغيير. وتنبعُ أيضًا من ثقافة الإنترنت حيث المجتمعات الافتراضية، والميم، والمقارنات البصرية، والنماذج السريعة، والقصص المصغّرة. وتأتي الثقافة الشعبية الموسيقية، وشبكات التواصل، والفيديوهات المنتَجة من الشارع، والثقافة الشعبية التي لم تأبه أن تكون مترجَمة من الأعلى. وتتبلور هذه القصص وهذه المحكيات السردية في قوالب فنية تعطي للشاب صوتا يعبر به عما يختلج الذات والواقع من أزمات…

النجاة من الصمت ومن التهميش ومن الضياع

تتحرك شخصيّة البطل في أفلام الجيل “Z” في مأزق لا يقينيّة في المستقبل، وضغوط متزايدة من التفاعل الرقمي، وتوقعات اجتماعية متقلبة، ورغبة في التمرّد، وأحيانًا خيبة أمل صامتة. وتتشكل الذات عبر مقاومة الاستلاب المتعدد: من الأسرة، والمدرسة، والمجتمع، وصورة الذات في المرايا الرقمية. ولا يُعرّف البطل الجيد في هذه السينما بقدرته على السيطرة أو القيادة، بل بوعيه، بجرأته على الانكشاف، وبتردده أمام اختيارات الحياة.

لا يأتي الدفاع عن القضايا بالصوت العالي، وإنما بالمواجهة الصامتة، بالسؤال العميق، بالهشاشة التي تصبح قوة. ولا يطلب هذا البطل البطولة، فهو يخلق من يومياته مشهدًا وجوديًا يعبّر عن أجيال تبحث عن الاعتراف لا الانتصار، وعن الشرعية لا القوة، وعن التواصل لا السيطرة.

في فيلم “حافة السابعة عشرة” (2016)، نشهد تمثيلًا حسيًا لأحد أكثر أبطال الجيل “Z” تعقيدًا، Nadine Franklin، المراهقة التي تتصارع مع العالم، ومع ذاتها في آن. في لحظة اعتراف حميمية، تقول: “أنا روح قديمة. أحب الموسيقى القديمة، والأفلام القديمة، وحتى الناس الكبار في السن”.

وهذا التصريح يعرّي مشاعر الغربة الجيلية. فنادين لا ترى نفسها ضمن النمط السائد، ولا تشارك ذوق من حولها، ولا تحيا الإيقاع نفسه. وترى العالم حولها كصوت مرتفع لا تنتمي إليه. ويكشف تفكيك علاقتها مع والدتها وأخيها وأقرانها في المدرسة، تمزقها الداخلي، كما يكشف آلية دفاعها: التمرد، الغضب، الهروب، ثم العودة إلى الذات.

ونتابع في فيلم “حب، سيمون” (2018) Simon Spier، المراهق الذي يكافح ليعيش هويته الحقيقية وسط مجتمع لا يتقبل الاختلاف بسهولة. ويقول سيمون في إحدى اللحظات الحاسمة: “أنا أكثر مما تقولون إنني عليه”. ويختزل هذا التصور للحياة، الوعي الذاتي الجديد لدى البطل، ورفضه لحصره داخل تصنيفات الآخرين. لا يسعى Simon لتغيير العالم دفعة واحدة، بل لتغيير طريقته في الوجود: أن يكون مرئيًا لا خائفًا، أن يعيش ذاته بدل أن يختبئ خلف أقنعة.

الهوس بالهوية الرقمية والانفجار الداخلي

يقدم المخرج بو بورنهام في فيلمه Eighth Grade (الصف الثامن) (2018) شخصية كايلا، التي تعيش عالمًا مشحونًا بالتوقعات، والخوف، والتقييمات اليومية عبر وسائل التواصل. ولا تصرخ كايلا دفاعًا عن نفسها، وإنما تتحدث بصوت مرتجف في مدونات فيديو، وتكتب على الهاتف، وتلتزم الصمت حين تعجز الكلمات. وتحاول كايلا القول: “أنا هنا”، حتى إن لم يلاحظها أحد.

وفي فيلم “الكراهية التي نمنحها” (2018)، نرى الفتاة السمراء ستار، فتاة أمريكية من أصول إفريقية، تشهد مقتل صديقها برصاص الشرطة، وتُدفع إلى موقع المواجهة. يتحول الألم إلى موقف، والخوف إلى غضب، والصوت المكتوم إلى صرخة. لا تنطق Starr بالكلمات الجاهزة، بل تقول: “أحيانًا تفعل كل شيء كما ينبغي، ومع ذلك تسوء الأمور”.

ويعبّر هذا القول عن إحساس عميق باللاعدالة، وعن فقدان السيطرة في عالم يتحرك بقسوة لا عقلانية.

في فيلم “Bodies Bodies Bodies” (أجساد أجساد أجساد) (2022) للمخرجة Halina Reijn، التي تُقدَّم مجموعة من الشباب محاصرين في فيلا أثناء عاصفة، وتبدأ لعبة مميتة تكشف هشاشة علاقاتهم، وخياناتهم، وأنانيتهم. والتوتر النفسي الناتج عن التقييم الدائم، والقلق من “الإلغاء الاجتماعي”، ويكشف الفيلم كيف أن الصورة أصبحت عبئًا نفسيًا، وكيف يتحول الهوس بالهوية الرقمية إلى انفجار داخلي.

البحث عن محاور جيد ولبيب

لا يُصوَّر البطل في سينما (زد) على أنه يتحرك في فراغ؛ وإنما يعيش واقعًا ماديًا قاسيًا. وتظهر الأزمة الاقتصادية في شكل وظائف متدنية، أو القلق من مصاريف التعليم، أو من الطبقات الاجتماعية التي تتحكم بالفرص. وفي فيلم “الكراهية التي نمنحها” لا تبدو السياسة خطابا، وإنما موقفًا وجوديًا أمام عنف الدولة. ويتحول الإعلام الجديد في فيلم “Not Okay” (لست بخير) (2022)، من إخراج Quinn Shephard، إلى آلة استغلال للمآسي. الشخصية الرئيسية تكذب لتشتهر، وحين تقع في فخ الشهرة الكاذبة، تعيش انهيارًا نفسيًا حادًا. وفي النهاية، تقول: “كنت أريد أن يراني أحد. هذا كل ما في الأمر”. إنها تسعى للبحث عن محاور جيد ولبيب يلتقط الإشارات قبل فوات الأوان.

ويعاني بطل الجيل “Z” من القلق، الانفصال، والارتباك الداخلي. ولا تمثل المشاعر “أزمة” بقدر ما هي بنية داخلية للفيلم. ولا يسعى الفيلم لتجاوز هذه المشاعر، وإنما إلى احتضانها. وتتحول الجماليات إلى لغة داخلية: استخدام الألوان الصاخبة أو الباهتة، والتلاعب بالزمن، والاعتماد على لقطات مقربة توحي بالاختناق أو الانكشاف، واللعب بالمونتاج ليعكس تفكك الذاكرة أو تسارع النبض. كما أن الصوت، سواء عبر الرسائل أو التسجيلات أو المونولوجات أو الحوارات يصبح جزءًا من السرد النفسي.

وتتمثل رؤية البطل في مواجهة الإقصاء. ولا يريد أن يكون استثنائيًا، وإنما أن يُقبَل كما هو. ولا يطلب النقاء، بقدر ما يرغب في التعدد. ويؤمن أن الخطأ جزء من الرحلة، وأن الشجاعة تكمن في الإفصاح عن الخوف، لا في التظاهر بالقوة. ولا يعادي هذا البطل العالم، وإنما يسأله ويحرجه. ولا يثور دائمًا، بقدر ما يتكلم، ويتأمل، ويتراجع، ويحاول.

يتحوّل البطل في سينما الجيل “Z” من نموذج خارق إلى كائن هش، من مخلّص جماهيري إلى ذات تبحث عن مكانها. ويرى في العالم خليطًا من الضجيج والفراغ، وفي الناس وجوهًا مزدوجة، وفي ذاته احتمالًا للخلاص. وعبر هذه الأفلام السابقة تتبلور رؤية مختلفة للبطولة، رؤية لا تعتمد على تحقيق النصر، وإنما على النجاة من الصمت، ومن التهميش، ومن الضياع.

تقول نادين في نهاية في فيلم “حافة السابعة عشر”: “أنا بخير… أعتقد أنني قد أكون بخير جدًا”.

تلك الجملة، في بساطتها، تحمل خلاصة بطولة الجيل “Z”: النجاة من الداخل، والخروج من العاصفة بابتسامة صغيرة… لكنها حقيقية.

أقولُ إن سينما الجيل “زد” تُعلنُ ولادة بطلٍ “متكلّم” بصوتٍ داخليٍ متورّم، الذي لم يعد يقبل القناع المثالي، والذي أخذ يرفعُ الكاميرا إلى ذاته، إلى اللحظة، إلى الجرح المرئي وغير المرئي. ويقفُ هذا البطل أمام المرآة الرقمية والعالم الواقعي ليجسّدَ التردّد، الخوف، التحوّل، الشكّ كشهادة وجود.

أتذكّرُ نادين فرانكلين في “The Edge of Seventeen” حين تقول: “الحياة لا تكون عادلة أحيانًا، نادين، حسنًا؟ عليكِ أن تتجاوزي الأمر!”.

تلك الكلمات تُمرّرُ حقيقةً لا مهرب منها: أن نؤمن بأنفسنا رغم الظلم، أن نقف مع ضعفنا، أن ندافع بصوتٍ هادئ إذا اضطر الأمر، أن ننمو في التصدّع. وتُعطينا سينما الجيل “زد” مرآة تحمل صورنا المضطربة، وتضيء لنا دربًا نحو الاعتراف، ونحو الحضور، ونحو الحياة التي تُعاش بصدق.

هسبريس المصدر: هسبريس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا