قال رشيد الحور، مدير كرسي المغرب بجامعة سلامنكا بإسبانيا، إن الاستشراق الإسباني “كان بلا النزعة المشرقية التقليدية التي طبعت استشراق باقي الدول الأوروبية”، موضحا أن هذا التوجه يظهر بجلاء في ما يورده فكتور موراليس في كتابه “الأفريقانية والاستشراق الإسباني في القرن التاسع عشر”.
وأضاف الحور، خلال مشاركته في جلسة “الاستشراق الأوروبي بين التراث والفكر”، المنعقدة ضمن ندوة دولية حول “الترجمة في سياق الاستشراق – رؤية جديدة”، أن خصوصية الاستشراق الإسباني أنه “نسج صورته عن الشرق انطلاقا من المغرب، لا من المشرق البعيد أو المجرد”، معتبرا أن هذا التمركز يكشف من جهة عن “هوس تاريخي لدى إسبانيا بجارها”، ومن جهة أخرى عن “محدودية المشروع الاستشراقي الإسباني” مقارنة بنظيره الأوروبي الأوسع نطاقا.
أورد رشيد الحور في مداخلته الموسومة بـ”الاستعراب الإسباني وترجمة مؤلفات التصوف.. تخمينات حول ترجمة أسين بلاثيوس لكتاب المحبة والشوق والأنس والرضا المدرج في كتاب إحياء علوم الدين للغزالي”، أن ما يُعرف بـ”الاستعراب” كان التعبير الغالب وربما الوحيد على الاستشراق في إسبانيا خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حيث “وجّهت إسبانيا أنظارها إلى تاريخها الإسلامي الخاص، فصار الأندلس بمثابة شرقها الداخلي والأليف”، في غياب واضح للاهتمام بالشرق البعيد.
وأشار المتحدث ضمن اللقاء الذي نظمته الأكاديمية العليا للترجمة التابعة لأكاديمية المملكة المغربية إلى أهمية أعمال المستعرب أسين بالاثيوس، الذي أبدى منذ وقت مبكر اهتماما عميقا باللغة العربية، تطوّر لاحقا إلى نشر النصوص العربية وترجمتها، لافتا إلى أن القرن الثامن عشر شهد تحوّلا حاسما في علاقة إسبانيا باللغة العربية، خصوصا مع وصول الآباء من سوريا ولبنان.
واستطرد الحور قائلا إن خوسيه أنطونيو يُعد من أوائل المترجمين للنصوص العربية، حيث لعب دورا محوريا في الانتقال من الاستشراق الإسباني في القرن الثامن عشر إلى بدايات المدرسة الناضجة للاستعراب، مشددا على أن “خطط الترجمة الجادة للمصادر العربية لم تبدأ فعليا إلا في القرن التاسع عشر، مع بروز طبقة من القناصل والمستعربين الجدد”، مضيفا أن أحد أبرز هؤلاء كان مستشرقا يتقن ثماني لغات، سعى إلى نشر النصوص الأندلسية لتسهيل دراستها، متجنبا استخدام تسميات مثل “إسبانيا العربية” أو “الأندلسيون”.
وأبرز الحور أن العلاقة بين الاستعراب والترجمة في إسبانيا “قديمة قدم الاستعراب نفسه”، موضحا أن القرن العشرين شهد تحولا نوعيا في مدرسة الاستعراب الإسباني، حيث تمحورت اهتمامات رموزها حول الأندلس ضمن أربعة تخصصات: كوديرا في التاريخ، غيريرو في الأدب والموسيقى، ميغيل أسين بالاثيوس في الفلسفة والتصوف، وغوميز الذي امتاز بطابع موسوعي.
قال زياد أبو عقل، أستاذ بالمدرسة التطبيقية للدراسات العليا، قسم العلوم الدينية بفرنسا، إن “أهداف المستشرقين تتفاوت، منذ بدايات القرن التاسع عشر، من عالم إلى آخر، ومن فترة إلى أخرى، ومن بلد إلى آخر”، موردا أن “ترجمة كتب الفقه، مثلا، تنطوي بشكل مباشر تحت مشروع سياسي يهدف إلى فهم المجتمعات المُستعمَرة وعقلياتها، بغرض تسهيل إدارتها وجرّها نحو الحداثة، كما هو الحال في البلدان العربية أو في البلدان الإسلامية غير العربية كإندونيسيا”.
وأضاف أبو عقل في مداخلته حول “أثر الاستشراق بين الفلسفة وعلم الكلام” أن “ترجمة كتب التراث، ولا سيما الفلسفة والعلوم، لا تحتوي على هدف سياسي أو إداري مباشر، بل تندرج ضمن مشروع علمي أوسع يهدف إلى اكتشاف الحضارات الأخرى وثقافاتها لتشكيل معرفة كونية مركزها الغرب”، لافتا إلى أن “هذا المشروع، رغم تشابهه مع الترجمات العربية عن اليونانية، يختلف عنه في عدّة أوجه، وينضوي تحت مشروع الاستشراق والحداثة”.
وقال المتحدث إن “ميزان القوى يختلف تمام الاختلاف من حقبة إلى أخرى، ويُحدّد في كل حقبة أهداف الترجمة”. وتابع: “بينما كان علماء العصر العباسي يترجمون النصوص اليونانية والفارسية لاكتساب علوم معاصرة لهم واستعمالها وتطويرها، نجد أن ترجمة المستشرقين للنصوص العربية في بدايات الحداثة تسعى إلى تحقيق هدف آخر”.
وأوضح الأكاديمي عينه أن “هذه الترجمات لا تهدف إلى اكتساب الطب والرياضيات وعلوم الفلك والإلهيات من الشعوب العربية، ولا إلى استعمال علوم ومناهج المدارس الإسلامية بغرض تطويرها، على غرار ما فعل العباسيون عندما تبنّوا، مثلا، مناهج مدارس الإسكندرية في فهم وتفسير فلسفة أفلاطون وأرسطو”، موردا أن “الهدف، على العكس من ذلك، هو تشكيل ما بدأ يُسمّى منذ ذلك الحين ‘التراث’، بوصفه مجموعة علوم ومعارف منتهية وجامدة تنتمي إلى العصور الماضية، وتُقابلها ‘الحداثة’ بوصفها مجموعة علوم ومعارف حيّة وغير متناهية، وتنتمي إلى حاضر البشرية ومستقبلها”.
كما أشار إلى أن “الحداثة تُعرّف نفسها بأنها تتجاوز الحضارات التي سبقتها، أي حضارات الشعوب التي استعمرتها، وقد أكدت عملية الترجمة، ضمن الإطار المعرفي الاستشراقي، منحى تراثيا تاريخيا بحتا، مفصولا عن أي منفعة علمية مباشرة، في تناقض مع المنحى العلمي للترجمة خلال العصور السابقة”.
إيزابيلا كاميرا دافليتو، أستاذة شرفية بجامعة روما “لا سابيينسا” بإيطاليا، قدمت مداخلة بعنوان “مستشرقة أو مستعربة؟”، تطرقت فيها إلى “الدور التاريخي الذي لعبه المستشرقون، الذين كانوا لقرون طويلة الوسيط في رسم صورة الشرق في الوعي الغربي”، معتبرة أنهم “كثيرون منهم قد ساهموا في إغناء المعرفة، لكنها كانت في كثير من الأحيان معرفة مشوبة بإيديولوجيات استعمارية”.
وتابعت المترجمة الإيطالية: “قبل أربعين عاما، بدأت أترجم نصوصا من الأدب العربي المعاصر، وخاصة من الأدب الفلسطيني”، قائلة: “كنت أتساءل دوما عن عمق المعرفة المتبادلة بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط. وكنت أدرك أن العرب، عموما، يعرفون جيدا التراث الثقافي الغربي، بينما كان الغربيون يجهلون، إلى حد كبير، الثقافة العربية، بل لم يُظهروا أي رغبة حقيقية في التعرّف إليها، حتى فاز الأديب المصري نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب”.
وشددت على أنه “حتى ذلك الحين، كانت الكتب العربية المترجمة نادرة جدا في إيطاليا، وفي أوروبا عموما. وذلك لسببين رئيسيين: أولا، لم يكن المستشرقون يُبدون اهتماما بالأدب العربي الحديث؛ إذ كانوا يعتبرونه إنتاجا هامشيا”، وتابعت: “من جهة أخرى، إذا نظرنا إلى الترجمات من العربية في القرن العشرين، نجد أنها غالبا لم تُقدَّم كأعمال أدبية، بل كدراسات لغوية أو اجتماعية أو فيلولوجية”.