جمعت الجلسة العلمية الثالثة المنعقدة ضمن الندوة الدولية حول “الترجمة في سياق الاستشراق – رؤية جديدة” جملة من الباحثين المغاربة والأجانب لمناقشة “نقد الخطاب الاستشراقي”؛ فيما تولى الباحث والأكاديمي عبد الحق منصف تسيير هذا اللقاء العلمي، بحضور مجموعة من الأكاديميين المغاربة المتخصصين في الدراسات الاستشراقية والترجمة.
وكان مارك جيكان، رئيس قسم الدراسات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في جامعة ووج ببولندا، أول من تناول الكلمة، ضمن الجلسة الملتئمة على هامش المؤتمر الدولي الذي تنظمه الهيئة الأكاديمية العليا للترجمة، التابعة لأكاديمية المملكة المغربية.
وسجل الأكاديمي البولندي أن “الاستشراق ليس ظاهرة موحّدة، فإنه لا ينبغي أن ترتبط دراسة الشرق بالضرورة بالسعي إلى الهيمنة عليه أو النظر إليه ضمن صورة نمطية”.
قال جيكان، في مداخلته الموسومة بـ”الاستعراب والترجمة بلا الاستعمار”، إن “الاستشراق يمكن أن يكون سعيا إلى التعرّف على الآخر”، مشددا على أنه “في تاريخ الحضارة الغربية يوجد كذلك التيار الثقافي للاستشراق، وقد كان له دور مهم في تطوّر الوعي بوجود حضارات مختلفة في العالم”.
وأبرز الباحث البولندي أن “الدراسات الشرقية البولندية لم تكن لها أية سلطة استعمارية أو مطامع مادية تجاه الشرق؛ لأن بولندا نفسها كانت ضحية للاحتلال والسيطرة الاستعمارية لأكثر من مائة عام”، مضيفا أنه “من المهم التأكيد على أن الترجمة جزء لا يتجزأ من الدراسات الشرقية”.
وتابع المتدخل شارحا: “لا يمكننا أن نتحدث عن تأثير الترجمة على الاستشراق، بل عن دور الترجمة في بناء الدراسات الشرقية ذاتها”، معتبرا أنه “من الصعب أن نحدد، في النهاية، ما إذا كانت الدراسات الشرقية هي التي أوجدت الحاجة إلى الترجمة أم أن الترجمة هي التي كانت دافعًا إلى نشوء الاستشراق”.
وأكد رئيس قسم الدراسات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في جامعة ووج ببولندا أن “الاستشراق لا يقتصر على العالم العربي الإسلامي فقط؛ بل يشمل ثقافات أخرى في الشرق، مثل الثقافات الآسيوية والإفريقية، بما في ذلك الدراسات اليابانية والصينية والهندية وغيرها”.
وزاد مارك جيكان: “لكن يبدو أن العالم العربي المعاصر يميل إلى فهم الاستشراق بفهم ضيق ومشوّه؛ ذلك الذي فرضه إدوارد سعيد في كتابه الشهير (الاستشراق)، إذ قصره على كونه أداةً لدراسة الثقافة العربية والإسلامية بهدف السيطرة على هذه الثقافة والدين”.
من جانبه، قدّم محمد الإدريسي العدلوني، أستاذ الفلسفة والعلوم الإنسانية، نظرة حول الاستشراق الإسباني، مركزا على ميغيل أسين بلاثيوس السرقسطي وتحقيق مخطوط المدخل لصناعة المنطق لابن طملوس الألسيري، وهو بمثابة دراسة تحليلية نقدية ركزت على اللحظة التي تتكون من ملاحظات أولية حول الاستشراق: معناه لغة واصطلاحا، تاريخه، التمييز فيه بين الإيديولوجي الاستعماري والعلمي الموضوعي نسبيا، وكذا أنواع الاستشراق ثم موضوعات البحث الاستشراقي.
كما تطرق الإدريسي العدلوني إلى “الاستشراق الإسباني وأهم رواده وتوجهاتهم الفكرية، مع التركيز على أهمهم في نظره؛ وهو راسين بلاثيوس السرقسطي وترجماته إلى الإسبانية والفرنسية، وتحقيقاته لعدد من أمهات المخطوطات العربية الإسلامية لشخصيات فكرية مهمة، كالغزالي وابن العربي وابن حزم وابن طملوس. وقبل هذا وذاك، ابن مسرة الذي قدم له دراسة متكاملة”.
وشدد أستاذ الفلسفة والعلوم الإنسانية، في ملخص المداخلة، على أن ما يهم في هذه المرحلة هو تقديمه بالإسبانية لمخطوط ابن طملوس “المدخل لصناعة المنطق”، قبل أن يركز على البحث على التعريف بهذا الفيلسوف ومبحثه في المنطق، والوقوف على منهجية تأليفه والكشف عن قيمه المختلفة؛ التاريخية والعلمية والنقدية والبيداغوجية.
قال أنور المرتجي، أستاذ مادة السيميائيات بجامعة محمد الخامس بالرباط، إن منطقة شمال إفريقيا عانت، خلال السنوات الأخيرة، من “أزمة ثقافية”.
وأرجع المرتجي تلك الأزمة إلى أن إدوارد سعيد كتب جميع أعماله باللغة الإنجليزية؛ ما جعل المنطقة “محرومة من الاطلاع على كتبه”.
وفي هذا الصدد، أوضح المختص في السيميائيات أنه “عندما سيتم التعرف عليه سيقوم المثقفون في الشرق بالانقضاض بطريقة تجارية على ترجمة كتبه”، مشيرا إلى أن هذه الترجمات متعددة الطبعات، و”كثير منها لا يصل إلى المستوى العلمي لهذه الكتب”.
وأضاف مؤلف كتاب “خطاب ما بعد الكولونيالية في النقد الأدبي تمثيلات المثقف والسلطة” أن إدوارد سعيد “يصنف نظريات الخطاب ما بعد الكولونيالي بوصفها من مظاهر وتجليات النقد الثقافي”، الذي نشأ كرد فعل على البنيوية الشكلانية؛ لأنها “حصرت تحليل الخطابات في الجوانب اللغوية والبلاغية، دون الالتفات إلى المحتوى الثقافي والإحالات السياسية المرجعية التي يتضمنها النص”، ذاكرا أن هذا الوضع أدى إلى استدعاء “بدائل منهجية مناسبة وجديدة، كالنقد الثقافي والنظريات التاريخانية الجديدة”.
وأشار المتدخل عينه إلى أن “تلقي استعمال هذا المنهج في الدرس النقدي العربي كان مساره مترددا وضعيفا”، مفسرا ذلك بارتباط النقاد العرب بالنقد البنيوي الشكلاني، واعتمادهم على الترجمة ذات الخلفية الفرنسية، إلى درجة “قد تصل عراها وروابطها إلى حدود التبعية المقدسة للنظرية البنيوية النصية”، معتبرا أن “الفرنسيين تشبثوا بالنظرية الشكلانية الروسية لمدة أربعة عقود، وما زالوا يتشبهون بها؛ لأنهم لم يستطيعوا أن يقدموا بديلا، إلا ما جاء من إدوار سعيد الذي يحاربونه في فرنسا”.
وأوضح أستاذ السيميائيات، مستندا إلى اعتراف إدوارد سعيد، أن “النظرية ما بعد الكولونيالية كانت نتاجا لدارسين ومفكرين ينتمون إلى دول من خارج المركز الأوروبي”، موردا أن من هؤلاء مثقفين من فلسطين والهند وآسيا. ولذلك، “لا يمكننا أن نتنكر في هذا السياق بالقول إن كبار المثقفين العرب كانت إسهاماتهم الفردية تتقاطع مع منهجيات الدراسات ما بعد الكولونيالية”.
وأشار الأكاديمي المغربي إلى أن إدوارد سعيد “دعا الشرق إلى تمثيل نفسه والإفصاح عن ذاته عبر المجال النقدي”، كما “يدعو كذلك إلى تحرر الناقد الأدبي العربي من الاعتقاد الزائف بقدسية النظرية الغربية”، مبرزا أن في العالم العربي يوجد “الاعتماد المنحاز إلى النظرية التابعة لتقليد الأعمال، من دون أي جهد واضح لتغيير هذه النظريات التي تعرف بالنقد الما بعد الكولونيالي”.
قالت يولاندا غواردي، المترجمة والأكاديمية الإيطالية، إن المشكلة الحقيقية التي تواجه ترجمة الأدب العربي هي “غياب مؤسسة أو دور تتولى دعم الترويج والتخطيط وتنظيم أعمال الترجمة في العالم العربي عمومًا، وفي المنطقة المغاربية خصوصًا”.
وأوضحت غواردي، في مداخلتها حول “ترجمة الأدب العربي في إيطاليا.. من الكولونيالية إلى النيوكولونيالية”، أن هناك “عوامل مختلفة تفرض نفسها على عالم الترجمة؛ مما يؤدي إلى فوضى وغياب التنظيم”، بينما “المجتمعات الغربية تختار الترجمات بناءً على ارتباطها بعلم الاجتماع”، مما يعني، في رأيها، أن “عملية الاختيار ناتجة في الغالب عن غياب خطة واضحة ومشروع ثقافي مدروس”.
وأضافت المترجمة والأكاديمية الإيطالية أن “الإيديولوجيا الكامنة خلف العولمة تقترح وتعرض غالبًا صورة سلبية عن الشأن الثقافي العربي”؛ وهو ما يترتب عليه أن “يتم إنجاز ترجمات لا علاقة لها بالقيمة الأدبية للعمل الأصلي”، وفق تعبيرها.
وبيّنت المتدخلة أن من بين العوامل المؤثرة أيضًا في الترجمة من العربية إلى اللغات الأخرى أن “تحقيق الترجمات مرتبط بالعلاقات الشخصية بين المترجمين وبعض الكُتّاب المغاربيين، في حين يُترك آخرون جانبًا”.
ولفتت غواردي إلى أنه “من خلال ملاحظة بسيطة، نكتشف أن معظم الروايات المترجمة تدور حول مواضيع الحرب والعنف الاجتماعي والثورات العربية فقط”.
وتساءلت المترجمة في السياق ذاته: “فهل نستسلم لكل هذه العراقيل ونتوقف عن الترجمة من العربية إلى اللغات الأخرى؟”، مؤكدة أن “التوقف عن الترجمة ليس هو الحل؛ بل يجب البحث عن طرق فعالة لمعالجة تلك العوامل التي تضر الأدب العربي المُترجَم أكثر مما تنفعه”.
كما شددت في مداخلتها على أن “من يعرف ميدان الترجمة من العربية إلى الإيطالية، يدرك أن هناك مسؤولية كبيرة تقع على عاتق المترجمين والمترجمات في اختيار النصوص الروائية وتقديمها لدور النشر”، مضيفة أن “أولوية سوق النشر تكون غالبًا اقتصادية أكثر منها أدبية أو فنية، خاصة فيما يتعلق بالرواية”.