آخر الأخبار

رفوف الألعاب ترسم خرائط الهيمنة .. والطفولة عالقة بين السوق والسيطرة

شارك

رفوف مثل المرايا

لماذا ينبغي أن نتوقف عند رفوف الألعاب كما لو كانت نصوصًا سرية تُقرأ لا مجرد سلع تُشترى؟ ما الذي يجعل دمية بريئة أو مسدسًا بلاستيكيًا أخطر من كتاب في صياغة وعي طفل؟ أيمكن أن تكون الطفولة، في جوهرها، ساحة تجريب هادئة لأكثر الإيديولوجيات عنفًا ومكرًا؟ كيف تتحول الألعاب من أدوات للتسلية إلى خطابات مقنّعة عن الجسد، والجنس، والقوة، والهوية؟ وهل ما نشتريه لأطفالنا من ألعاب هو في حقيقته شراء لسيناريوهات مستقبلية عن الحياة؟ ثم، من يكتب هذه السيناريوهات: السوق، أم السياسة، أم التكنولوجيا التي لا تعرف معنى البراءة؟ أفلا يكون ما نسمّيه “اللعب” سوى تدريب طويل على حياةٍ سنكتشف فيما بعد أنها لم تمنحنا يومًا حقّ الاختيار؟

الألعاب التي تُعلّمنا دون أن نتعلم

لا شيء يكشف عن بنية ذائقتنا الجماعية مثل رفوف محلات الألعاب. فهناك، في تلك الأقفاص الملونة، تُعرض رموز صغيرة مشبعة بالتصورات التي راكمها الخيال الجمعي. “بارْبي” الشقراء بخصرها الذي يتحدى قوانين البيولوجيا، تقف إلى جانب دمى الجنود التي تَعِد الطفل بانتصار كوني على أعداء لم يتم تسميتهم بعد. ليست المسألة مجرد اختيار بريء لألعاب، بقدر ما هي تسليم واعٍ أو غير واعٍ لمفاتيح أوهامنا مغلّفة في طبقات من البلاستيك المُطمئِن.

ليست هذه الرفوف بريئة فيما تعرضه، ذلك أنها تعمل مثل واجهة ثقافية تُترجَمُ عبرها الإيديولوجيات السائدة إلى أشكال قابلة للّمس والاقتناء. فكل دمية، سواء كانت أميرة تتوَّج بتيجان وردية أو جنديًا يرتدي بزته الخضراء، ما هي إلاّ تجسيدٌ مُصغَّر لخيارات كبرى تتعلق بكيفية تصورنا للهوية، والنوع الاجتماعي، والعلاقة مع العالم. وما نقتنيه للطفل اليوم قد يُصبح البذرة الأولى لتمثلات تستوطن وعيه في الغد، دون أن يملك أي وعي بعملية التلقين هذه.

من هذا المنظور، تغدو محلات الألعاب فضاءً موازيا للمدرسة أو الكتاب، حيث تتشكل أولى دروس الانتماء والاختلاف. فالألوان المهيمنة، والأدوار المفترضة، والحكايات المضمرة في تصميم كل لعبة، تُنشئ سرديات صامتة لكنها فعالة. إن ما يبدو لعبة للتسلية إنما هو درس في التراتبية، وفي التصنيفات الاجتماعية، وفي تصور القوة والضعف، والأنوثة والذكورة. وإذا أمعنّا النظر في كيفية انتشار هذه الألعاب عبر العالم، سنكتشف أنها تحمل معها منطقًا ثقافيًا موحَّدًا، أشبه بعملية “توحيد للخيال”. فالعولمة وحّدت الأسواق، كما وحدت أيضًا الصور الذهنية للأطفال، بحيث أصبح الطفل المغربي أو الهندي أو الفرنسي يشترك في الحلم ذاته: أن يكون بطلاً خارقًا أو أميرة متوَّجة. هكذا تتسرَّب الهيمنة الناعمة تحت ستار البراءة، لتصنع أجيالاً ترى العالم من منظور واحد، تحرسه عناية السوق بعيْنٍ لا تنام.

كيف تُهندسُ السوق أحلام الأطفال؟

الطفلة التي تحتضن “باربي” تُلقَّن، دون أن تدري، نصّا صامتا عن الجمال المثالي. فهي مدعوة لأن تبتسم دائمًا، وأن تظل نحيلة حتى الفناء، وأن تتجنب التفكير العميق، وأن تعتبر الزواج النهاية الطبيعية لِلُعبة الحياة. وفي الجهة المقابلة، الصبي الذي يطلق النار من مسدس بلاستيكي على شقيقته يُدرَّب ضمنيًا على أن العنف ليس مجرد خيار متاح، بقدر ما هو “ميزة تشغيلية” مرتبطة بجنسه، وواجب يُفترض أن يصقله مع الزمن. هذا التوزيع الخفي للأدوار ليس بريئًا، لأنه جزء من هندسة دقيقة للخيال الطفولي، حيث يتم تقديم جسد الفتاة بوصفه موضوعا للرغبة والامتثال، بينما يُنحت جسد الصبي باعتباره أداة للقوة والسيطرة. كل دمية أو سلاح بلاستيكي هو بمثابة تمرين أولي على الدخول في مسرح اجتماعي واسع، لا يحتاج فيه الطفل إلى نص مكتوب، تكفيه فقط الإشارات البصرية والحركية ليعيد إنتاج منطق السلطة السائد.

إن ما يحدث في غرفة اللعب هو في حقيقته شكل من أشكال “التنشئة الرمزية”، حيث تُغرس في اللاوعي معايير الجمال، وأدوار الجنسين، ومشروعية العنف. لعبة البنت درس في الطاعة وإدارة الجسد؛ ولعبة الولد تدريب على اختزال القوة في فعل الهجوم. وبذلك، يغدو اللعب مختبرًا اجتماعيًا مبكرًا تتشكل فيه أنماط التفكير والسلوك التي سترافق الفرد إلى العالم العمومي. وما يزيد الأمر تعقيدًا أن هذه الأدوار تُقدَّم بوصفها خيارات لا يمكن مراجعتها، كأنها طبيعة ثابتة أو قدرا محتوما. فبينما تتعلم الطفلة أن الجمال شرط لوجودها، يتعلم الصبي أن السيطرة شرط لرجولته. تُحاصر هذه الثنائية المخيلة منذ الطفولة، وتحرمها من إمكانات أخرى للحياة: إمكانات اللعب بلا سلاح، أو التزيّن من دون ابتسامة إجبارية. هكذا، يتجذر في العمق وهْمُ أن الأنوثة مسرحٌ للزينة، وأن الذكورة ساحةٌ للقتال، دون أن يتيح لنا السوق فرصة الحلم بعوالم بديلة.

وإذا ما ملّت الطفلة من “باربي” والولدُ من البندقية، فإن السوق يمدّ لهما طوق نجاة ببدائل أخرى لا تقل خبثًا في هندسة الخيال؛ فها هي سيارات السباق تَعِدُ بانتقال مباشر من سن الخامسة إلى أزمة منتصف العمر، وكأن العمر ليس إلا سباقًا محمومًا نحو سرعة مجهولة. وهناك مطابخ بلاستيكية صغيرة تهمس في أذن الطفلة بأن مهمتها الكبرى في الحياة هي قليُ البيض وتقديم القهوة لرجل غامض سيعود يومًا من معركة ما. إن ما يُسوَّق بوصفه لعبة إنما هو تمرين أولي على الدخول في نص اجتماعي مُعَد مسبقًا، لا يتيح للطفل أن يتخيل دورًا آخر خارج قوالب النوع والجنس. لكن الأجمل من كل ذلك، أن الشركات لا تكتفي بتوريد الأوهام في صورة بلاستيكية، بل تتفنن اليوم في تغليفها بواجهة “تعليمية رقمية”. تعرض علينا ألعابا ذكية متصلة بالإنترنت، تبدو وكأنها أفق تربوي واعد، لكنها في العمق تُلقّن الطفل رسالة سرّية: “أنت لا تلعب، أنت بيانات، وسيتم بيعك بعد قليل”. هنا يتحول اللعب من مجال للتخييل إلى مجال للتنقيب في الذات، حيث يصير الطفل نفسه منجمًا للمعلومات، وساحة استثمارية مفتوحة أمام شركات تعلم جيدا أن المستقبل يبدأ بتشكيل خوارزميات على قياس جيل بأكمله.

يُعرّي هذا التّحوّل عن بنية جديدة للهيمنة: إذا كانت “باربي” تبيع نموذجًا للجسد، والبندقية تبيع نموذجًا للقوة، فإن الألعاب الذكية تبيع هوية الطفل نفسه بوصفها سلعة قابلة للتداول. إننا نعيش زمنًا لم يعد فيه اللعب مجالاً للهروب من الواقع، وإنما أصبح مدخلاً لمزيد من الارتهان له، حيث تُختزل الطفولة في معادلة بين الترفيه والرقابة، بين المرح والاستهلاك، بين الخيال والخوارزمية. ومن هذا المنظور، يغدو اللعب اليوم مرآة دقيقة لتحولات المجتمع: من الجسد إلى الصورة، ومن الصورة إلى البيانات. وما تعتقد الأسرة أنه “استثمار في تعليم أبنائها” ليس سوى مشاركة مجانية في بناء سوق ضخمة تُقاس قيمتها بعدد النقرات ومدة الانتباه. هنا يفقد اللعب براءته، ويتحول إلى عقد اجتماعي جديد، حيث لا أحد يربح سوى الشركات، فيما يخسر الطفل الحق في أن يحلم بحُرّية وببراءة.

ألعاب التفكير أم ألعاب المتعة؟

أما ألعاب الذكاء فغالبًا ما يتمّ ركْنُها في الزاوية الخلفية للمحلّ، كأنها عار أو أثرٌ غير مرغوب فيه من زمنٍ بطيء التفكير. لا يتوقف أمامها إلا أبٌ مثالي يحلم بصناعة أينشتاين صغير، قبل أن يكتشف بصدمة طفيفة أن طفله يستخدم قطع “البازل” (Puzzles) سيوفًا لمحاربة أعداء خياليين لا وجود لهم. هكذا تُهزَم الخطة التربوية أمام منطق اللعب الحر، الذي يلتقط من الأشياء ما يناسب مغامرة الخيال أكثر مما يناسب حلم الآباء.

إن وضع ألعاب الذكاء في الظل ليس تفصيلًا تجاريًا عابرًا، ذلك أنه يعكس مركزية المتعة السريعة في ثقافة السوق المعاصرة. فالألعاب التي تتطلب وقتًا وصبرًا وتأمّلًا لا تنسجم مع منطق الاستهلاك السريع، ولا مع اقتصاد الانتباه الذي يقيس القيمة بمُدَّة الإثارة القصيرة. لذا، يُعاد تدوير الذكاء نفسه في قوالب “تسْلية” أكثر منه في تجارب معرفية، بحيث يتحول العقل إلى مستهلك للصور السريعة بدل أن يكون مولّدًا للأسئلة المثيرة. والمفارقة أن هذه الألعاب، التي يُفترض أن نصنع بها عقلًا ناقدًا، تنتهي غالبًا إلى أن تكون مجرد ديكور منزلي أو هدية بروتوكولية. فهي لا تنافس دمى الأبطال الخارقين ولا “باربي” المتلألئة، لأنها لا تمنح الطفل وهْمَ القُوة أو وهج الجمال، وإنما تضعُه أمام تحدٍّ صامت يحتاج إلى جهد وتأمل.

اللعب بين البراءة والاستهلاك

كل لعبة هي شكل من أشكال التجنيد المبكر، تُسخِّر براءة الطفولة في مشروع يتجاوزها.

بين هذه الجيوش الخفية، ينمو الطفل كما لو كان في ساحة معركة لم يخترها، حيث يُستبدل مفهوم اللعب بفكرة التدريب الطويل على أدوار المستقبل. الابتسامة المصطنعة على وجه “باربي”، واللمعان البارد في فوهة المسدس البلاستيكي، والصوت الرقمي المكرر للدمى الذكية، كلها شعارات صامتة لحياة ستلتهمه بابتسامة محسوبة. يتجلى بوضوح مما سبق أن هذه الألعاب ليست بريئة في بنيتها ولا في مقاصدها، إنها تقنيات اجتماعية مموهة تتقاطع فيها التربية مع السوق، والبراءة مع الاستراتيجية. فالطفل، وهو يلهو بما وُضع أمامه، يتدرب في العمق على الدخول في منظومات كبرى: منظومة الاستهلاك، ومنظومة الحرب، ومنظومة الرقابة. وهكذا، تُفرغ الطفولة من معناها بوصفها زمنا للخيال الحر، وتُعاد صياغتها باعتبارها حقلا استثماريا تتدرب فيه الأجيال على حياة أخرى قادمة.

ألعَابُنا أم ألعَابُهُم؟

فإلى أي حد يمكننا أن نعيد للعب براءته بعدما أضحى سوقًا للتجنيد الناعم؟ وهل نستطيع أن نبتكر ألعابًا تُحرِّر الخيال بدل أن تَحرسه؟ أيمكن للطفولة أن تُستعاد بوصفها مساحة للدهشة إذا كان كل ما حولها مسكونًا بمنطق الاستهلاك والمراقبة؟ وهل يكفي وعي الآباء لقطع خيوط هذه الإيديولوجيات الصامتة، أم إن المسألة أعمق من قدرتهم الفردية؟ أليس علينا أن نسأل، بجدية مؤجلة منذ زمن: من يلعب فعلًا: الطفل بألْعَابِه أم السُّوق بنا جميعًا؟

لنتأمل، وإلى حديث آخر.

هسبريس المصدر: هسبريس
شارك

الأكثر تداولا اسرائيل دونالد ترامب حماس

حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا