كشفت وزارة الداخلية عن إجراءات صارمة وغير مسبوقة لتأطير إعداد وتنفيذ ميزانيات الجماعات الترابية لسنة 2026، في خطوة تأتي في سياق اجتماعي وسياسي دقيق، يتزامن مع احتجاجات مستمرة يقودها شباب “الجيل زد” (Gen Z) للمطالبة بتحسين الأوضاع المعيشية وتوفير فرص الشغل.
ويهدف هذا التوجه، الذي فرضته دورية وزارية جديدة، إلى فرض الانضباط المالي وتوجيه الإنفاق نحو المشاريع ذات الأثر المباشر على المواطنين، كاستجابة مباشرة للتوجيهات الملكية السامية، لكنه يطرح في الوقت ذاته تساؤلات حول مستقبل صلاحيات المجالس المنتخبة. فبينما تسعى الوزارة لمعالجة الاختلالات العميقة المتمثلة في سوء التدبير وهدر الموارد، فإن ميزان القوى الجديد الذي تكرسه الدورية لصالح الولاة والعمال قد يهدد الشرعية الديمقراطية للجماعات.
وجاءت محاور الدورية الوزارية، الصادرة بتاريخ 6 أكتوبر 2025، لتعكس بشكل مباشر أبرز المطالب التي يرفعها الشباب المحتج في مختلف المناطق، حيث ركزت على أربعة محاور جوهرية تتمثل في دعم التشغيل، وتقوية الخدمات الاجتماعية في التعليم والصحة، واعتماد تدبير استباقي للموارد المائية، وإطلاق مشاريع تأهيل ترابي مندمجة.
ويرى مراقبون أن الحكومة، من خلال ذراعها التنفيذي وزارة الداخلية، تحاول إرسال رسالة مفادها أنها تستمع لنبض الشارع وتسعى لمعالجة الأسباب الجذرية للسخط الاجتماعي، عبر إلزام الجماعات بالانتقال من منطق التسيير الإداري البحت إلى برمجة مشاريع ذات تأثير ملموس، وذلك تنفيذا لما جاء في خطاب العرش لسنة 2025.
غير أن هذه المقاربة، ورغم أنها تستهدف مكافحة مظاهر الفساد وسوء التدبير التي تغذي بدورها الاحتجاجات، تضع الديمقراطية المحلية أمام تحد حقيقي. ففي الوقت الذي يطالب فيه “الجيل زد” بمزيد من الشفافية والمشاركة في صنع القرار، يأتي تشديد الرقابة المركزية ليقلص من هامش المناورة لدى المنتخبين المحليين الذين يمثلون الإرادة الشعبية على المستوى الترابي.
ويذهب محللون أن هذا التشديد يضع السلطات أمام مفارقة دقيقة، تتمثل في محاولة تحقيق النجاعة الإدارية والمالية من جهة، وخطر إضعاف مؤسسات القرب المنتخبة من جهة أخرى، الأمر الذي قد يؤدي إلى تعميق أزمة الثقة بين المواطن والمؤسسات بدلا من حلها.
وفي هذا السياق، أكد المحلل الاقتصادي محمد جدري أن المشكلة الرئيسية في المغرب لا تتعلق بنقص الإمكانيات المالية بقدر ما ترتبط بسوء تدبيرها، مشيرا إلى أن الفساد وضعف نجاعة الاستثمارات العمومية يتسببان في إهدار ملايير الدراهم سنويا. ودعا إلى ضرورة تعميم الدورية الجديدة لوزارة الداخلية، المتعلقة بترشيد النفقات، على كافة المؤسسات العمومية والقطاعات الحكومية والجماعات الترابية، مع التحذير من المساس بالاختصاصات التي يمنحها القانون للجماعات المنتخبة.
وأوضح جدري، في تصريح لجريدة “العمق”، أن نجاعة الاستثمارات العمومية في المغرب هي أقل من المستوى العالمي، مستدلا بمؤشر “ICOR” الذي يقيس العلاقة بين الاستثمار والنمو. وأشار إلى أنه بينما تحتاج دول أخرى إلى 5 أو 6 نقاط من الناتج الداخلي الخام لتحقيق 1% من النمو، يحتاج المغرب إلى 11 أو 12 نقطة، وفي المقابل، تحقق مصر نفس نسبة النمو بـ 3 نقاط فقط من ناتجها الداخلي الخام، مما يكشف عن وجود إشكال حقيقي في تدبير الإمكانيات المالية المتاحة.
وأضاف المصدر ذاته أن الفساد يمثل التحدي الثاني الذي يستنزف المالية العمومية، حيث يتسبب في ضياع ملايير الدراهم سنويا. وكمثال على ذلك، ذكر أن المشاريع التي تقدر تكلفتها بمبالغ معينة، مثل 100 مليون، يتم إنجازها بتكاليف أعلى بكثير، كما أن الصفقات العمومية يستفيد منها “عديمو الضمائر”، وفقا لتعبيره، مما يفرض ضرورة تفعيل آليات الرقابة والمحاسبة.
وأشار المحلل الاقتصادي إلى أن ترشيد نفقات التسيير سيمكن من توجيه الموارد المالية نحو القطاعات ذات الأولوية التي تلبي الحاجيات الحقيقية للمغاربة، وعلى رأسها تطوير المنظومة التعليمية والصحية، وتحسين مناخ الأعمال، وخلق ظروف أفضل لتشغيل الشباب. وشدد على أن الاستثمارات يجب أن توجه نحو القطاعات التي تعود بالنفع المباشر على الشباب وتساهم في خلق القيمة المضافة ومناصب الشغل.
وتابع جدري محذرا من أن تفعيل هذه الدورية، التي تقع مسؤوليتها على عاتق العمال والولاة، يجب ألا يتجاوز حدوده ليصبح أداة للمساس باختصاصات الجماعات الترابية التي تستمد شرعيتها من الانتخابات. وأوضح أن الجماعات تمتلك شرعية انتخابية، بينما يمتلك الولاة والعمال شرعية التعيين، وهو ما يفرض إيجاد توازن يضمن المرونة في الرقابة على الميزانيات دون أن يتحول الوالي أو العامل إلى من يقوم بالدور الأصيل للجماعة المنتخبة.
وختم المصدر تصريحه بالتنبيه إلى أن الإفراط في تقييد صلاحيات الجماعات قد يؤدي إلى إضعاف شرعيتها لدى المواطنين، وقد يتسبب في عزوف الكفاءات عن الترشح لتدبير الشأن المحلي مستقبلا، إذا ما تحولت أدوارها إلى مجرد إجراءات شكلية تابعة لقرارات وزارة الداخلية.