آخر الأخبار

فيلم "معركة تلو أخرى".. رباعية اضطرابات الهوية والقلق والذكريات والخوف

شارك

ما الذي يجعل الثورة تنطفئ في قلب الثائر؟ وكيف يتحول الحلم إلى عبء؟ وهل يمكن للذاكرة أن تكون سلاحا؟ وهل يستطيع الإنسان أن يهرب من ماضيه حين يكون الماضي هو من يطارده؟ في فيلم “One Battle After Another” للمخرج بول توماس أندرسون، تنفجر هذه الأسئلة في وجه المشاهد منذ اللقطة الأولى، حين يظهر بوب فيرغسون، الثائر السابق، وهو يحدق في شاشة فارغة، يبحث عن كلمة مرور نسيها منذ سنوات. ويقول بوب في لحظة انكسار: “كل شيء كان واضحا حين كنا نحمل البنادق، الآن كل شيء ضبابي حتى وجهي في المرآة”. ويلخص هذا القول مأساة البطل وتفتح الباب أمام قراءة نقدية وجمالية لفيلم يتجاوز حدود النوع السينمائي ويغوص في أعماق الذات والذاكرة والسياسة.

القتل باسم النظام

ينتمي فيلم “معركة تلو أخرى” (شتنبر2025/ المدة) إلى سينما بول توماس أندرسون التي تمزج بين الواقعية النفسية والرمزية البصرية، وتستند إلى سرديات متشظية وشخصيات معقدة. ويواصل أندرسون في هذا العمل استكشافه للهوية الأمريكية من خلال عدسة سوداوية، حيث تتقاطع السياسة مع العائلة، والماضي مع الحاضر، والجنون مع الحكمة.

ويقترب الفيلم من سينما المؤلف، ويستعير من تيارات مثل السينما الوجودية والدراما النفسية؛ لكنه يضيف إليها بعدا غرائبيا يجعل من كل مشهد سؤالا بصريا مفتوحا. وتتجلى هذه الخصوصية في استخدامه للكاميرا المحمولة، للإضاءة الخافتة، وللموسيقى التي تؤلفها جوني غرينوود، والتي تخلق توترا داخليا لا يهدأ.

وتتمحور إشكاليات الفيلم حول سؤال الهوية، وحول إمكانية الفعل السياسي في زمن ما بعد الثورة. ويعاني بوب من فقدان المعنى، من خيانة الرفاق، ومن اختفاء ابنته التي تمثل الأمل الوحيد المتبقي له. يطرح الفيلم فكرة أن الثورة لا تنتهي حين يسقط النظام، وإنما حين يسقط الإنسان في داخله. ويواجه بوب عدوا قديما، الكولونيل ستيفن لوكجو، الذي يمثل السلطة المتوحشة، ويقود حملة مطاردة ضد بيرفيديا، زوجة بوب، التي كانت بدورها ثائرة شرسة. ويقول لوكجو في أحد المشاهد: “أنا لا أقتل الناس، أنا أزيل الفوضى”، وهي جملة تكشف منطق السلطة الذي يبرر القتل باسم النظام.

وتتوسع قصة الفيلم من خلال متنه الحكائي، الذي يبدأ من لحظة اختفاء الابنة ويتمدّد عبر شبكة من الشخصيات التي تعيد تشكيل الماضي. ويظهر سيرجيو، رفيق بوب القديم، الذي يعيش في عزلة روحية، ويظهر أيضا لوريدو، الذي تحول إلى رجل أعمال يبيع الذكريات في شكل أقراص رقمية. وتتشابك هذه الشخصيات في رحلة بحث عن الطفلة؛ لكنها تتحول إلى رحلة بحث عن الذات، عن المعنى، وعن إمكانية الاستمرار. ويستخدم الفيلم تقنية الفلاش باك بطريقة غير خطية، حيث تتداخل الأزمنة وتتشابك الأحداث، مما يخلق سردا مفتوحا على التأويل.

حين تتحول الثورة إلى سلعة

تستند الخلفيات الفلسفية للفيلم إلى أفكار ما بعد الحداثة، حيث تنهار السرديات الكبرى وتظهر الذات ككيان هش ومتشظٍ.

كما يستلهم الفيلم من فكر ميشيل فوكو حول السلطة والمراقبة، ومن جاك دريدا حول التفكيك، ومن جيل دولوز حول الرغبة والمقاومة. ويطرح الفيلم سؤالا وجوديا حول جدوى الفعل في عالم يراقب كل شيء ويعيد إنتاج القمع بأشكال جديدة. كما يستند إلى خلفيات ثقافية أمريكية، حيث يظهر الحنين إلى الستينيات، إلى زمن الحركات الثورية؛ لكنه يواجه هذا الحنين بنقد صارم، حيث تتحول الثورة إلى سلعة، والمقاومة إلى شعار فارغ.

وتتجلى الهوية السردية للفيلم في تعدد الأصوات، في غياب الراوي التقليدي، وفي اعتماد الحوار الداخلي والمونولوجات.

وتقول بيرفيديا في أحد المشاهد: “أنا لا أريد أن أكون بطلة، أريد أن أعيش”، وهي جملة تعكس رفض البطولة التقليدية وتؤكد على البعد الإنساني للشخصيات. ويعتمد الخطاب البصري للفيلم على التناقض بين الظلام والنور، بين اللقطات القريبة التي تكشف الوجوه وبين اللقطات البعيدة التي تظهر العزلة. ويستخدم أندرسون الألوان الباردة ليعكس البرودة العاطفية، ويستخدم الظلال ليعبر عن الخوف والشك. وتتكرر مشاهد المرايا والشاشات، مما يخلق إحساسا بأن الشخصيات تراقب نفسها أكثر مما تراقب العالم.

ويعالج الفيلم قضايا متعددة؛ منها القمع السياسي، فقدان الهوية، انهيار الأسرة، وصراع الأجيال. ويظهر الجيل الجديد، ممثلا في شخصية وِلا، كجيل لا يعرف الثورة لكنه يحمل آثارها. وتظهر شخصية وِلا في مشهد وهي ترسم خريطة على جدار مهجور، وتقول: “أريد أن أعرف أين أنا، لا أين كنتم”، وهي جملة تلخص الفجوة بين الماضي والحاضر. ويطرح الفيلم أيضا قضية المراقبة الرقمية، حيث تتحول الشخصيات إلى بيانات، وتصبح الذاكرة سلعة تباع وتشترى. كما يعالج قضية الهجرة، حيث تظهر شخصيات من خلفيات متعددة، وتُطرح أسئلة حول الانتماء والهوية.

الاستمرار في نهج المقاومة

فيلم “معركة تلو أخرى” للمخرج بول توماس أندرسون هو عمل سينمائي مركّب ومشحون بالرموز والدلالات، يستند بشكل فضفاض إلى رواية “Vineland” لتوماس بينشون؛ لكنه يتجاوزها ليقدم رؤية معاصرة عن الصراع السياسي والاجتماعي في الولايات المتحدة. والبطل الرئيسي في الفيلم هو بوب فيرغسون، الذي يؤدي دوره ليوناردو دي كابريو، وهو شخصية متشظية تعيش تحت اسم مستعار بعد أن تورط في عملية سطو فاشلة أدت إلى اعتقال شريكته في الثورة بيرفيديا بيفرلي هيلز. ولا يمثل بوب مجرد ثائر سابق وإنما هو أب يحاول حماية ابنته ويعيش في ظل ماضٍ ثقيل من الخيانات والانكسارات. وتتأرجح تمثلاته للذات والعالم بين الحنين إلى أيام الثورة وبين إدراكه لواقع قمعي لا يرحم، حيث تتداخل الهويات وتتشابك المصائر في عالم يزداد تعقيدا.

وتكمن عقدة البطل في صراعه الداخلي بين الرغبة في الاستمرار بالمقاومة وبين حاجته إلى الهدوء والاعتناء بابنته.

ويعيش بوب في عزلة شبه اختيارية؛ لكنه يظل مرتبطا بشبكة من الثوار السابقين الذين يحاولون إعادة بناء ما تبقى من حركة “French 75″، وهي مجموعة راديكالية كانت تنفذ عمليات ضد مراكز احتجاز المهاجرين وتستهدف رموز السلطة.

وتتجلى هشاشته النفسية في نوبات القلق، في نسيانه لكلمات المرور التي يحتاجها للعثور على ابنته، وفي علاقته المعقدة مع الماضي الذي لا يستطيع تجاوزه. وتتقاطع تمثلاته للذات مع تمثلاته للعالم: عالم يراه كمنظومة قمعية لا يمكن إصلاحها إلا عبر الفوضى، لكنه في الوقت نفسه يدرك أن هذه الفوضى قد تلتهم من يحبهم.

ويدافع بوب عن مقاومة السلطة المطلقة، والدفاع عن حقوق المهاجرين، وفضح العنصرية البنيوية، ومواجهة صعود القومية المسيحية المتطرفة. ولا يطرح الفيلم هذه القضايا بشكل مباشر بل ينسجها ضمن حبكة مليئة بالرموز والغرائبية، حيث يظهر الكولونيل ستيفن لوكجو، الذي يؤدي دوره شون بين، كخصم عنصري مهووس بالسيطرة الجنسية والسياسية، ويقود حملة مطاردة ضد بيرفيديا وبوب. وتمثل هذه الشخصية الوجه القبيح للسلطة، حيث تتقاطع الرغبة في الهيمنة مع الهوس الديني والجنون القومي.

رباعية اضطرابات الهوية والقلق والذكريات والخوف

تتجلى الأبعاد الاجتماعية للفيلم في تصويره لمجتمع مفكك، حيث الثقة معدومة والهوية مهددة. وتعيش الشخصيات في ظل أسماء مستعارة، في مدن خيالية، وتتنقل بين شبكات سرية من المقاومين. ويعكس الفيلم واقعا أمريكيا مأزوما، حيث تتفكك الروابط الاجتماعية وتتحول المؤسسات إلى أدوات قمع. ويتضح البعد السياسي في تصويره لنظام بوليسي فاشي، حيث تندمج الشرطة والجيش في جهاز واحد يلاحق المعارضين بلا رحمة. أما البعد الاقتصادي فيظهر من خلال عمليات السطو التي تنفذها المجموعة الثورية، والتي لا تهدف فقط إلى التمويل؛ بل إلى زعزعة النظام المالي نفسه.

ويلمّح الفيلم إلى أن الاقتصاد هو أحد أذرع القمع، وأن مقاومته جزء من الثورة.

والبعد النفسي في الفيلم عميق ومتشعب، حيث تعاني الشخصيات من اضطرابات الهوية، من القلق، من الذكريات المؤلمة، ومن الخوف المستمر. ويمثل بوب شخصية قلقة، مترددة؛ لكنه في لحظات معينة يظهر شجاعة خارقة، خصوصا عندما يتعلق الأمر بابنته. وتمثل بيرفيديا الغضب الثوري، لكنها أيضا أم تعاني من فقدان ابنتها. ويمثل لوكجو الهوس المرضي بالسيطرة، وهو شخصية مضطربة نفسيا، تتغذى على الكراهية والرغبة في الإذلال. وهذه الأبعاد النفسية تضيف عمقا إنسانيا للفيلم وتجعله أكثر من مجرد عمل سياسي.

وتكمن الرمزية في الفيلم بشكل مكثف، حيث يستخدم أندرسون عناصر غرائبية مثل جيش من محاربي التزلج بقيادة معلم كاراتيه، وأندية سرية تعبد سانتا كلوز، ليعكس عبثية الواقع السياسي. هذه الرموز لا تهدف إلى الإضحاك؛ بل إلى تعرية البنية السريالية للسلطة، حيث يصبح الدين أداة قمع، والبطولة مجرد قناع، والمقاومة فعل عبثي لكنه ضروري. وتبرز الجمالية البصرية للفيلم بشكل مذهل، حيث يستخدم أندرسون كاميرا متحركة، ألوانا قاتمة، ومونتاجا سريعا ليخلق شعورا بالاختناق والتوتر. وتضيف الموسيقى التصويرية بعدا دراميا، حيث تتداخل الأصوات الإلكترونية مع نغمات كلاسيكية لتجسيد التوتر بين الماضي والحاضر.

واستقبل النقاد للفيلم كان حافلا بالإعجاب والجدل. واعتبره البعض تحفة سينمائية تعكس الواقع الأمريكي بشكل غير مسبوق، بينما رأى آخرون أنه عمل فوضوي ومبالغ فيه. ووصف الفيلم بأنه فضل فيلم صدر عن استوديو أمريكي كبير منذ أكثر من عقد، بينما اعتبره الآخرون رؤية ساخرة لأمريكا البوليسية، حيث يجمع بين الواقعية والخيال بطريقة مذهلة.

وهو مزيج من عناصر غريبة وواقعية بشكل مرعب، إلى أنه أكثر ارتباطا بالواقع مما كان يتوقع.

ويتلقى الفيلم استقبالا نقديا حافلا بالإعجاب، حيث وصفه النقاد بأنه أكثر أفلام أندرسون جرأة وتعقيدا، واعتبره البعض أكثر الأفلام راديكالية التي أصدرتها هوليوود منذ سنوات. ويشيد النقاد بجمالية الفيلم، بتركيبه البصري، وبقدرته على المزج بين الحركة والدراما، بين العبث والواقعية. وتظهر بعض الانتقادات حول تعقيد الحبكة، حول كثافة الرموز، وحول صعوبة متابعة السرد؛ لكن هذه الانتقادات لا تقلل من قيمة الفيلم كعمل فني وفكري.

من إيجابيات الفيلم، حسب النقاد، أنه يقدم رؤية سياسية جريئة، أداء تمثيليا رائعا خصوصا من تَيانا تايلور وليوناردو دي كابريو، وإخراجا متقنا يجمع بين الحركة والدراما. كما أشادوا بقدرته على المزج بين الكوميديا السوداء والتراجيديا، وبين العبث والواقعية، مما يجعله عملا فنيا متكاملا. ومن سلبياته، أشار بعض النقاد إلى تعقيد الحبكة، وكثافة الرموز التي قد تربك المشاهد، والإيقاع السريع الذي لا يتيح دائما فهم العلاقات بين الشخصيات. كما اعتبره البعض عملا نخبويا يصعب على الجمهور العادي متابعته دون خلفية سياسية أو أدبية.

ويمثل فيلم “معركة تلو أخرى” بيانا سياسيا وفنيا، ويطرح أسئلة عميقة حول الهوية والسلطة والمقاومة والذاكرة.

ويتسم البطل بهشاشته، لكنه يظل رمزا للأمل في عالم يزداد قسوة. ويضعنا الفيلم أمام مرآة مشوهة للواقع؛ لكنه يدعونا إلى التفكير، إلى الغضب، وربما إلى الحلم. إنه عمل يليق بزمننا المضطرب، ويستحق أن يُشاهد ويُناقش.

ويُختتم الفيلم بمشهد صامت، حيث يجلس بوب أمام البحر، يحمل صورة ابنته، ويقول: “كل المعارك كانت محاولة لفهمك، لا لفهم العالم”، وهي جملة تلخص رحلة البطل، وتفتح الباب أمام تأويلات لا تنتهي. ولا يقدم الفيلم إجابات؛ بل يطرح أسئلة، ويجعل من كل مشهد معركة جديدة ضد النسيان، ضد القمع، وضد الذات التي تخاف أن ترى نفسها في المرآة.

يختتم فيلم “معركة تلو أخرى” رحلته البصرية والسردية بتأملات موجعة حول الذاكرة والمقاومة والهوية في عالم يتآكل فيه المعنى وتتشظى فيه القيم. وينجح بول توماس أندرسون في تحويل كل مشهد إلى مرآة تعكس هشاشة الإنسان أمام سلطة لا تعرف الرحمة. وتتداخل الأزمنة وتتشابك المصائر لتكشف أن المعركة الحقيقية ليست ضد العدو وإنما ضد النسيان.

وفي لحظة صمت أمام البحر يقول بوب فيرغسون وهو يحدق في صورة ابنته: “كل ما أردته أن تعرفي أنني حاولت أن أكون شيئا يشبه الضوء في هذا الظلام حتى لو لم أكن أعرف كيف أضيء الطريق لك أو لنفسي”..

هسبريس المصدر: هسبريس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا