تتصدر قضية الصحراء المغربية اليوم أجندة السياسة الأمريكية، بعد أن أعاد البيت الأبيض تأكيد التزامه بدعم حل الحكم الذاتي كإطار عادل ودائم لتسوية النزاع الإقليمي المفتعل الذي تجاوز عقده الخامس؛ إذ بات ذلك جليًا من خلال سلسلة اللقاءات المكثفة التي أجراها مسعد بولس، كبير مستشاري الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، مع الأطراف الفاعلة المباشرة في النزاع، مستثنيًا كل من جبهة البوليساريو الانفصالية وموريتانيا العضو الملاحظ.
وتحمل هذه التحركات رسائل سياسية واستراتيجية متعددة، أبرزها إعادة التأكيد على مركزية الأطراف الفاعلة الحقيقية في مسار التسوية، وترك إنذار واضح للجهات التي حاولت فرض نفسها كطرف مؤثر دون أن تكون فاعلًا ميدانيًا حقيقيًا، الشيء الذي يترجم دقة الرؤية الأمريكية في التعاطي مع النزاع، واعتمادها على الواقعية السياسية والتركيز على الحلول العملية القابلة للتطبيق.
وتشكل اللقاءات المتتالية التي أجراها مسعد بولس، سواء مع المبعوث الأممي ستافان دي ميستورا أو وزير الشؤون الخارجية المغربي ناصر بوريطة أو نظيره الجزائري أحمد عطاف، محطة بارزة في مقاربة أمريكية جديدة تجاه نزاع الصحراء المغربية، وحرص المستشار الرئاسي على إبراز ثبات واشنطن في دعم مبادرة الحكم الذاتي، مع استبعاد جبهة البوليساريو وموريتانيا من أجندة محادثاته.
كما يعكس الاهتمام الأمريكي الجديد فرصة لإعادة ترتيب أوراق النزاع الذي ظل مفتوحًا منذ أزيد من خمسين سنة، وتحديد مسارات واضحة لإنهائه، وذلك في ظل تحولات إقليمية ودولية تستدعي من جميع الأطراف تبني نهج أكثر مرونة، مع التركيز على التعاون الإقليمي وتعزيز الاستقرار المشترك الذي يحقق مصالح الجميع ضمن إطار السيادة المغربية.
في هذا الصدد، قال دداي بيبوط، فاعل سياسي وباحث في التاريخ المعاصر والحديث، إن صرامة وكفاءة الدبلوماسية المغربية في أكثر من موقع ساهمت بشكل مباشر في تسريع الخطى نحو الوصول إلى حل سياسي عادل وجدي وقابل للتطبيق، بعيدًا عن مناورات الجمهورية الجزائرية ورديفاتها، اللواتي لم يدخرن جهدًا لإيقاف الزخم السياسي والدبلوماسي المغربي، الذي أثار اهتمام مختلف الفاعلين والمتابعين الدوليين بسلاميته وهدوءه ونجاعته، وبإرادة سياسية قوية ترجمت التوجيهات الملكية السامية في الدفاع عن مغربية الصحراء في كافة المنتديات الدولية.
وأضاف بيبوط، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن مسار الاعترافات الدولية بمغربية الصحراء وبرجاحة مقترح الحكم الذاتي ليس نزوة عابرة، بل يعكس اقتناعًا دوليًا حقيقيًا بإرادة المملكة المغربية لإنهاء النزاع المفتعل، سواء على مستوى الخطاب الرسمي أو الشعبي، وكذا على مستوى تنزيل الالتزامات على الأرض، بما يضمن تلبية تطلعات ساكنة الصحراء وحقوقهم السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بما فيها الحق في التنمية الشاملة، التي أصبح الأجانب يشيدون بها قبل المغاربة.
وأوضح الفاعل السياسي أن الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء يأتي في إطار سياق عالمي داعم لجهود إيجاد حل نهائي لنزاع عمر خمسة عقود، وظل مستمرًا حتى تتحرك المؤسسات الدولية لقطع مع الحياد السلبي الذي ألقى بظلاله لسنوات على حياة آلاف الصحراويين في مخيمات تندوف، الذين يعيشون خارج أي حماية أممية أو وطنية جزائرية نتيجة تفويض البلد المضيف للسلطات إلى جبهة البوليساريو.
ولفت بيبوط الانتباه إلى أن الاعتراف الأمريكي أتاح تحريك مسار التسوية بوتيرة حثيثة، وأدى إلى ترجيح قناعة أن تنفيذ مسلسل التسوية الأممي أصبح شبه مستحيل، ليس بسبب عدم رغبة المغرب في الانخراط فيه، بل بسبب تعنت الجزائر ومحاولاتها اليائسة لتغيير معالم مخطط التسوية وفرض إضافات على هوية سكان الأقاليم الجنوبية، خدمة لأجنداتها الخاصة ومصالحها الإقليمية والقارية، دون مراعاة لمصالح المغرب أو حقوق ساكنة الصحراء.
وبخصوص زيارات ولقاءات الإدارة الأمريكية بالمنطقة وبنيويورك على هامش أشغال الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة، أورد المتحدث أن هذه التحركات تؤكد أمرين: الأول، جدية السياسة الخارجية الأمريكية في التعامل مع النزاع المفتعل باعتباره إرثًا للحرب الباردة، والثاني، حسم الإدارة الأمريكية في تحديد الأطراف الرئيسية للنزاع، مشيرًا إلى أن “الحل الوحيد والأمثل يكمن في مضامين المقترح المغربي لمنح حكم ذاتي لسكان الصحراء، وأن الأطراف الحقيقية هي المغرب والجزائر، وهو الشيء الذي يستدعي انخراط الجزائر بجدية وحسن نية دون شروط مسبقة، بدل تعميق الأزمة وإطالة معاناة الصحراويين بمخيمات تندوف”.
وأنهى بيبوط حديثه لهسبريس بالتأكيد على أن استمرار محاولات فرض النزاع على الأجندات الدولية دون نتائج، لن يحقق سوى إطالة معاناة السكان، وأن الحل السياسي العادل والدائم تحت السيادة المغربية يظل الطريق الوحيد لتحقيق الاستقرار والتنمية وضمان حقوق سكان الصحراء.
من جانبه، يرى محمد فاضل بقادة، رئيس مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية لحركة “صحراويون من أجل السلام”، أن اللقاءات التي عقدها مسعد بولس، كبير مستشاري الرئيس الأمريكي، مع المبعوث الأممي الخاص ستافان دي ميستورا، ووزير الخارجية المغربي، ونظيره الجزائري أحمد عطاف، تندرج في إطار سعي الولايات المتحدة الأمريكية إلى الحسم النهائي لملف الصحراء.
وسجل المتحدث، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ورغم تصاعد حدة الصراعات السياسية والعسكرية وتفاقم الأوضاع في مناطق متعددة مثل آسيا والشرق الأوسط وأوكرانيا، منحت قضية الصحراء مكانة ذات أولوية قصوى ضمن أجندتها السياسية الخارجية خلال ولايتها الثانية، وذلك بهدف طي هذا الملف بشكل حاسم ونهائي.
وأكد بقادة أن هذا التوجه يمكن الاستناد فيه إلى ثلاث ركائز استراتيجية. أولها، توصيف نطاق الصراع وحصره بين المغرب والجزائر، مع تغييب تمثيلية جبهة البوليساريو؛ وهو ما يفتح الباب أمام سيناريوهات متعددة حول الوضع القانوني المستقبلي على طاولة المفاوضات، في ظل استبعاد كل من البوليساريو وموريتانيا.
“أما ثاني الركائز، فيتمثل في استحضار البعد الشرعي من خلال إعادة النظر في التمثيلية الشرعية للصحراويين المعنيين بمشروع الحكم الذاتي، عبر النخب السياسية ومؤسسة شيوخ القبائل الصحراوية وفعاليات المجتمع المدني، وهي مؤسسات تشريعية وعرفية ومدنية حظيت باهتمام خاص من المؤسسة الملكية ومؤسسات الدولة المغربية، وأصبحت أكثر نضجًا وقدرة على الفعل السياسي والتشاركي والترافعي”، يشير المصرح ذاته قبل أن يضيف أن “كل هذه العوامل تضمن تنزيل مشروع الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية في إطار حكامة سياسية تعزز البعد الديمقراطي والحقوقي والشرعي”.
وأوضح رئيس مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية لحركة “صحراويون من أجل السلام”، أن الركيزة الثالثة ترتبط بامتعاض المجتمع الدولي من الأساليب التقليدية الموروثة عن عهد الفكر الثوري، التي لم تخدم مصالح الأفراد في بناء دولة الحق والقانون والعدالة الاجتماعية، بقدر ما ظلت تروج لشعارات واهية، خالية من أي بعد عملي يكرس حقوق الإنسان، ويعزز تمكين المرأة، ويشجع الاستثمار كآلية ناجعة لحل القضايا المعقدة، وعلى رأسها قضية الصحراء.
وخلص محمد فاضل بقادة إلى أن هذا المنحى يفسر التصريحات الأخيرة لنائب وزير الخارجية الأمريكي، كريستوفر لانداو، بخصوص قرار واشنطن تشجيع الاستثمارات الأمريكية في الأقاليم الجنوبية، وذلك في سياق اعترافها بسيادة المغرب على الصحراء، مشددًا على أن “هذه الاعترافات ليست مجرد آراء سياسية عابرة، وإنما رؤية استراتيجية تؤكد الشرعية التاريخية، وتستند إلى قراءة واقعية للمتغيرات الدولية، بما يضمن إنهاء هذا النزاع المفتعل في إطاره الأممي والدولي”.