آخر الأخبار

الفن السينمائي والقضية الفلسطينية.. من التواطؤ بالصمت إلى التزام الضمير

شارك

تقديم:

منذ بداياته كان الفن وسيلة للتعبير عن القيم الإنسانية السامية، رغم محاولات توظيفه من قِبل المؤسسات الدينية والسياسية لخدمة مصالحها. وقد شكلت مبادئ الحرية والعدالة والكرامة والحق جوهر الإبداع الفني الحر، الذي يتفاعل مع التجربة الإنسانية والوجود.

غير أن الحروب، بانتهاكها الأعراف والمواثيق الدولية، كشفت عن تراجع خطير في التزام البشرية بقوانين الحرب، خاصة تلك التي أُقرت بعد الحرب العالمية الثانية؛ وقد تجلى ذلك بشكل صارخ في الحرب الإسرائيلية على غزة وسائر الأراضي الفلسطينية خلال العامين الأخيرين، حيث تصاعدت الانتهاكات ضد المدنيين بشكل وحشي وغير قانوني. ومع تزايد شراسة العدوان بدأ الرأي العام العالمي، ولاسيما في الغرب، إعادة النظر في مواقفه التقليدية الداعمة لإسرائيل، وفهم أعمق لطبيعة أهدافها في المنطقة.

في هذا السياق برزت موجة تضامن عالمية جديدة، كان الفنانون والمبدعون في طليعتها، مستغلين تأثيرهم الواسع في مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة وأوروبا. وفي سبتمبر 2025 أعلنت أكثر من 1800 شخصية من صناع السينما والفنانين – بحسب تقارير أوروبية وأمريكية – الالتزام بعدم التعاون مع أي مؤسسة سينمائية إسرائيلية متورطة في جرائم الإبادة الجماعية والفصل العنصري وجرائم الحرب. وسرعان ما ارتفع هذا العدد، وفق تقارير لاحقة، إلى أكثر من 3500 توقيع، ما يعكس اتساع دائرة الحملة وعمق صداها العالمي.

لا يمكن النظر إلى هذا التضامن السينمائي والفني بوصفه حدثاً عرضياً وسطحيا أو غير ذي أهمية، بل من الواضح أنه يفرض نفسه كامتداد لمسار طويل من المقاطعة الثقافية التي تعيد إلى الأذهان تجارب تاريخية بارزة، مثل مقاطعة سينمائيين كبار لنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا. ومع ذلك، وبالنظر إلى تغلغل الحركة الصهيونية الإنجيلية المسيحية في قلب النظام الرأسمالي لكبريات دول الغرب، فإن الحملة الراهنة تطرح أسئلة قانونية وفلسفية جوهرية على كل دارس وعلى كل ناقد رصين أهمها:

هل يملك الفن شرعية التدخل في السياسة والصراع الدولي، أم إنه أصلا متورط في السياسة عندما يصمت وهو مؤيد للواقع القائم وبالتالي للأقوى فيه؟.

هل تُشكل مقاطعة هذا العدد غير المسبوق من الفنانين للسينما الإسرائيلية، على أهميتهم في بورصة التأثير السينمائي العالمي الغربي، فعلا مشروعاً من أفعال المقاومة السلمية، أم إنها تشكل نوعا من الرقابة وتكميم أفواه فنانين لهم اختيارات مختلفة؟.

ما موقع مبادرات مماثلة في منظومة القوانين الدولية لحقوق الإنسان؟.

وجوه بارزة في التضامن السينمائي مع فلسطين

من بين الأسماء التي ارتبطت تاريخياً أو حديثاً بالمقاطعة والانتقاد العلني للسياسات الإسرائيلية:

المخرج البريطاني “كين لوتش” المعروف بواقعيته الاجتماعية، الذي صرح سنة 2017 قائلاً: “أؤيد تماماً أهداف حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات كتعبير عن النداء الشعبي الفلسطيني للتضامن”، (الغارديان). لم يكتف “لوتش” بالتصريحات بل ذهب أبعد من ذلك وخصص عائدات بعض عروضه لدعم الحملة الفلسطينية.

الممثلة والناشطة الأمريكية “جين فوندا” التي شاركت عام 2009 في احتجاجات ضد مهرجان تورونتو السينمائي بسبب إبرازه تل أبيب، ودعت في السنوات الأخيرة إلى وقف إطلاق النار في غزة ووصفت ما يجري بـالإبادة الجماعية رغم الضغوط التي دفعتها إلى التراجع عن بعض المواقف.

النجمة الأمريكية الحائزة على الأوسكار “فيولا ديفيس”، التي استعملت منصاتها للتنديد بانتهاكات حي الشيخ جراح معتبرة أن الصمت “تواطؤ غير مباشر مع الظلم”.

المخرج العالمي الأمريكي “مارتن سكورسيزي” الذي استشهد بمواقفه السابقة خلال فترة الفصل العنصري بجنوب إفريقيا حين رفضه عرض أفلامه فيها، وذلك من عدم توقيعه المباشر على بيانات BDS، في إشارة إلى أن الفنان يمكن أن يضع الأخلاق فوق الاعتبارات التجارية.

أسماء وازنة ذكرت إلى جانب هؤلاء في الحملة الأخيرة، مثل أوليفيا كولمان، مارك روفالو، إيما ستون، سوزان ساراندون، وتيلدا سوينتون، ما أعطى زخماً أكبر للتحرك وأثار ردود فعل واسعة في الإعلام الغربي والإسرائيلي.

فلسفة المقاطعة: الفن بين الحرية والواجب الأخلاقي

يطرح التضامن الفني مع فلسطين من المنظور الفلسفي سؤالاً عميقاً حول طبيعة الفن ذاته: فهل الفن تعبيرٌ جمالي مستقل عن سياقات وجوده الاجتماعية والأخلاقية والجمالية، أم إنه أداة أخلاقية تتجاوز الحدود الجمالية نحو المجال السياسي المرتبط بالمعيش اليومي للإنسان؟.

ميَّزَ الفيلسوف إيمانويل كانط في كتابه “نقد ملكة الحكم” بين الجمال لذاته والجمال الذي يكتسب معنى أخلاقيا، وبالتالي يمكن القول إن الفنان حين يرفض المشاركة في مهرجان مدعوم من حكومة متهمة بانتهاك حقوق الإنسان فهو يمنح الفن بعداً أخلاقياً ويجعل الجمال والإبداع مقترنان بالعدالة وبالحق.

رأى الفيلسوف “جان بول سارتر” أن المثقف “مسؤول أمام الإنسانية”، وأن الصمت في وجه الظلم “خيانة للضمير”. يجعل هذا الطرح الفلسفي التزام الفنانين بالمقاطعة نوعاً من الوفاء لنداء الضمير الإنساني، وليس مجرد تباه أو موضة لنيل المزيد من الشهرة.

نبهت الفيلسوفة “حنه أرندت” في حديثها عن “تفاهة الشر” إلى أن الشر قد يتحقق عبر ممارسات يومية عادية إذا لم يقم الأفراد بواجبهم الأخلاقي في مقاومته. بهذا المعنى قد تبدو المشاركة في مهرجان أو في فيلم نشاطاً ثقافياً عادياً، لكنه في سياق الظلم والاحتلال والخرق السافر للقيم الكونية من عدالة وحق وحرية إلخ يمكن أن تتحول إلى مساهمة في “التطبيع مع الظلم”.

المنظور القانوني: بين حرية التعبير وحق المقاومة

تثير مقاطعة المؤسسات الثقافية الإسرائيلية من منظور القانون الدولي جدلاً متشعبا ومتعددا أهم أبعاده:

1 – القانون الدولي لحقوق الإنسان: ينص العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966) على حق الشعوب في تقرير مصيرها (المادة 1). ووفق فقه القانون الدولي فإن التضامن مع هذا الحق، بما فيه المقاطعة السلمية، يعد ممارسة مشروعة لحرية التعبير والتجمع.

2 – حرية التعبير: وفق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948، المادة 19) للفنانين الحق في التعبير عن مواقفهم بحرية وإن تضمنت مقاطعة أطراف معينة.

3 – مكافحة التمييز: أكدت لجنة القضاء على التمييز العنصري (CERD) في الأمم المتحدة مراراً أن الفصل العنصري جريمة ضد الإنسانية. هكذا تجد مقاطعة سينما إسرائيل أساساً قانونياً في مبدأ “عدم التواطؤ مع الجرائم الدولية”.

4 – الإشكالية القانونية: أصدرت بعض الدول الغربية، خاصة فرنسا وألمانيا، أحكاماً أو قوانين تعتبر الدعوة إلى مقاطعة إسرائيل “تحريضاً على الكراهية”. غير أنّ المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (2020) نقضت هذا التوجه، واعتبرت الدعوة إلى المقاطعة “حقا محميا ضمن حرية التعبير”.

تداعيات المقاطعة بين التأثير الأخلاقي والانقسام الثقافي

ليست المقاطعة الفنية مجرد شعار، لذلك فهي تنتج عند تطبيقها العملي تداعيات متعددة أهمها:

ممارسة ضغط أخلاقي ومعنوي على إسرائيل: الهدف منه عزلها ثقافياً، وجعل المشاركة معها موسومة بالعار، كما حدث مع جنوب إفريقيا وهي تمارس الفصل العنصري خلال ثمانينيات القرن الماضي.

تحقيق تأثير اقتصادي غير مباشر: بسحب الأفلام أو الامتناع عن المشاركة في المهرجانات، وهو ما قد يضعف قدرة إسرائيل على استخدام السينما كأداة دبلوماسية ناعمة .Soft Power –

إثارة جدل: حيث ينتقد معارضو المقاطعة ما يعتبرونها “معاداة للسامية” أو “تسييساً للفن”، وذلك ما يظهر في رد فعل الاتحاد السينمائي الإسرائيلي حين قال في بيان نشرته الغارديان (9 سبتمبر 2025): “نحن نواجه الظلام ولن تفعل هذه المقاطعة سوى على تعميق الظلام”.

زيادة الوعي العالمي: لا يمكن إنكار أن هذه الحملات ترفع الوعي الجماهيري بالقضية الفلسطينية، وتدفع النقاش إلى ساحات مهرجانات كبرى لم يكن يصلها من قبل، مثل مهرجانات هوليوود وبرلين وكان.

مقارنة تاريخية: جنوب إفريقيا والفلسطينيون

إن المقارنة الأكثر تداولاً في الأوساط الأكاديمية والإعلامية هي بين المقاطعة الثقافية لإسرائيل وبين مقاطعة جنوب إفريقيا إبان نظام الفصل العنصري. ففي جنوب إفريقيا لعب الفنانون دوراً محورياً في عزل النظام، حتى إن موسيقيين كباراً مثل بوب ديلان وستيفي ووندر رفضوا الغناء هناك. أما الحملة الفلسطينية (BDS) فتستند إلى هذا النموذج، مطالبة بإنهاء الاحتلال وهدم الجدار العازل ومنح الفلسطينيين حقوقاً متساوية مع المواطنين الإسرائيليين.

لكن ثمة فارقا واضحا يكمن في أن إسرائيل تحظى بدعم قوي من قِوى غربية كبرى، على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي تدعم دعما شاملا إسرائيل بشكل غير مشروط، ما يجعل نتائج المقاطعة أبطأ وأعقد من التجربة الجنوب إفريقية.

أصوات داعمة وأخرى معارضة

قال نجم فرقة “بينك فلويد” الموسيقية الشهيرة روجر ووترز: “لن أذهب إلى إسرائيل في الوقت الحالي، سأذهب إليها عندما تسقط الجدران… عندما ينتهي الاحتلال “(BDS)، 2020. وفي تصريح آخر (ADL)، 2024: “العرض في إسرائيل فرصة مربحة، لكن القيام بذلك يساهم في تطبيع الاحتلال والفصل العنصري والتطهير العرقي”. وحذر عدد من الفنانين الغربيين مقابل المواقف السابقة من تسييس الفن، معتبرين أن السينما والموسيقى يجب أن تبقى فضاء للحوار لا للقطيعة.

يعكس هذا الانقسام صراعاً بين من يرى الفن أداة للمقاومة ومن يصر على استقلاليته بمعنى إغماضه العين عن تدمير القيم الجمالية التي بفقدها لن تكون له هو نفسه أي فعالية ولا دلالات معقولة.

خاتمة: الفن كجبهة إنسانية جديدة

ليس التضامن السينمائي مع فلسطين اليوم مجرد حركة عابرة، إنه يعكس تحولا في وعي عالمي يرى الفن مسؤولية أخلاقية لا يمكن فصلها عن قضايا العدالة. يتجسد من المنظور الفلسفي هنا ما سماه جون بول سارتر التزام المثقف، كما يترسخ من منظور قانوني الحق في التعبير وفي التضامن الإنساني كجزء من المنظومة الحقوقية الدولية.

لكن التحدي يبقى كبيرا نصوغه في السؤال التالي:

هل يستطيع هذا التضامن بالمقاطعة تغيير موازين القوى على الأرض أم إنه لن يتجاوز مستوى الرمزية؟.

يعلمنا التاريخ أن التراكم الرمزي قادر على إحداث تحولات كبرى ولو كانت بطيئة، فقد انهار نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا تحت ضغطٍ عالمي متعدد المستويات، وقد كان الفن أحد أسلحته الأكثر تأثيراً.

يفتح الفنانون اليوم صفحة جديدة من هذا النضال الإنساني، مسجلين أن الصمت لم يعد خياراً وأن الجمال لا يكتمل إلا حين يتجسد في الدفاع عن الكرامة الإنسانية.

هسبريس المصدر: هسبريس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا