قال باحثون مغاربة في العلوم السياسية إن المشاورات الجارية بين الأحزاب السياسية ووزارة الداخلية تُعد فرصة حقيقية للخروج من “حالة المسخ الإيديولوجي” التي طبعت الحياة الحزبية لسنوات، معتبرين أن هذه اللقاءات يجب أن تشكل منطلقًا لتأسيس تعددية سياسية حقيقية، قائمة على اختلاف البرامج والرؤى، بدل الاكتفاء بتعددية حزبية شكلية تحوّلت إلى عبء على المشهد السياسي.
وأكد الباحثون أنفسهم أن “المشهد الحزبي في المغرب يعاني من ضعف في التعبير عن تيارات فكرية واضحة، ما أفقد الأحزاب هويتها وعلامتها المرجعية، وأدخلها في دائرة التكرار والتشابه، سواء على مستوى الخطاب أو على مستوى التصورات المجتمعية”، داعين إلى أن “تكون هذه المشاورات مناسبة لإعادة ترتيب الأولويات، والانتصار لتعددية تترجم فعليًا تطلعات المجتمع المغربي وتحدياته”.
أكد الأكاديمي المغربي عبد العزيز القراقي أن “المشاورات الجارية يتعين أن تفرز تعددية سياسية حقيقية، عوض التعددية الحزبية التي نعيشها منذ سنوات عديدة”، مشددًا على أن هذه التعددية “ليست فقط مرتبطة بالتنظيم أو بممارسة الحكومة، ولكنها تعددية فكرية أولًا، واجتماعية ثانيًا”؛ كما أوضح أن التعددية السياسية لا تكتسب مشروعيتها فقط من عدد الأحزاب، بل من مدى تمثيلها لتيارات فكرية حقيقية داخل المجتمع.
وأضاف القراقي لهسبريس أن “الواقع الحزبي الحالي يكشف أن الأحزاب السياسية أو التنظيمات القائمة لا تُفرز تعددية حقيقية، سواء على مستوى الأفكار التي تدافع عنها، أو على مستوى المرجعيات، أو البرامج المستقبلية”، مشيرًا إلى أن العديد من هذه الأحزاب “تتشابه إلى حد كبير، ما يصعّب أحيانًا التمييز بين موقع الحزب، هل هو في المعارضة أم في الأغلبية”.
وتابع المتحدث ذاته بأن “التعددية السياسية التي يُفترض أن تُترجم إلى تعددية فكرية، مازالت غائبة”، مؤكدا أن ما يظهر من تلوينات حزبية هو في الغالب “مجرد تقسيمات توحي بوجود تعددية، لكنها في جوهرها تفتقر إلى الاختلاف الفكري والبرامجي الحقيقي”؛ كما اعتبر أن “هذه الوضعية تنعكس على طريقة توزيع الزمن الإعلامي والمشاركة في المشاورات السياسية، التي تتم غالبًا بناءً على التمثيلية العددية لا على أسس فكرية أو ديمقراطية تعددية”.
وأشار الأكاديمي المغربي إلى أن “المشاورات الجارية حاليًا تُظهر أن الأحزاب تستدعى بشكل فردي لتقديم اقتراحاتها الواردة في المذكرات التي تم الاشتغال عليها، دون تنسيق مسبق أو اتفاقات جماعية حول مواقف موحدة”، موضحًا أنه “حتى داخل الأغلبية الحكومية تتصرف الأحزاب بمنطق فردي، ما يعكس غياب تصور جماعي ينبني على تقارب فكري واضح”.
وأردف القراقي بأن “التحالفات التي تُبرم بين بعض الأحزاب تبدو أحيانًا غريبة، إن لم أقل هجينة، لأنها تفتقر إلى الحد الأدنى من الانسجام الفكري”، خاتما بأن هذه التحالفات “تُبنى على اعتبارات ظرفية أو مصلحية، وليس على أساس ما يجمع الأحزاب من رؤى أو توجهات فكرية، وهو ما يُفقد التعددية معناها الديمقراطي الحقيقي”.
قال الأستاذ الجامعي والأكاديمي الباحث في القانون عبد الحفيظ أدمينو إن “المشاورات الجارية بين وزارة الداخلية والأحزاب السياسية تكتسي أهمية بالغة، بالنظر إلى كونها تتيح لمختلف الفاعلين السياسيين إمكانية تقديم اقتراحاتهم بشأن المنظومة المؤطرة للانتخابات، في أبعادها السياسية والقانونية”، مضيفا أن “الحديث عن البعد السياسي في هذا السياق يستحضر بالضرورة مرجعية الحزب، ودوره في بلورة تصور واضح للعملية الانتخابية”.
ووضّح أدمينو لهسبريس أن “التعددية الحقيقية تظل رهينة بالإطار القانوني الذي ينظم العملية الانتخابية”، متسائلًا “إلى أي مدى تضمن هذه المنظومة تكافؤ الفرص بين الأحزاب، وتيسر ولوجها إلى التمويلات العمومية، بما يتيح تنافسًا نزيهًا وشريفًا على مستوى البرامج والأفكار والمرشحين”، واعتبر أن “هذه الجوانب مجتمعة تُعد أساسًا لتحقيق تعددية سياسية فعلية وذات مصداقية داخل المشهد الديمقراطي”.
كما أشار المتحدث إلى أن المرحلة الراهنة تشهد نقاشًا واسعًا حول مفاهيم كبرى من قبيل “نهاية السياسة”، “وهو ما يجعل من الضروري التأكيد على أن الديمقراطية تظل الإطار المؤسساتي الحاسم الذي تُفصل داخله الاختيارات المجتمعية الكبرى”، موردا أنه “من خلالها يتم إفراز النخب التي تتولى تدبير الشأن العام، وتضمن التوازن بين السلط داخل الدولة”.
وفي هذا الإطار شدد الأكاديمي ذاته على أن “الأحزاب السياسية مطالبة اليوم، انطلاقًا من مرجعياتها الفكرية والسياسية، ومن أولويات التنمية الوطنية، بأن تُعد برامج واقعية وسيناريوهات قابلة للتنفيذ، لا أن تكتفي بمجرد وعود انتخابية”، مردفا بأن “مصداقية الخطاب السياسي باتت مرتبطة بقدرة الحزب على تحويل رؤيته إلى مشاريع ملموسة تستجيب لحاجيات المواطن”.
وأجمل أدمينو تصريحه للجريدة بالتأكيد على أن “الرهان الحقيقي يتمثل في تقديم الكفاءات التي تتشبع بقيم الحزب، وتُجيد بلورة التصورات وإغناء المرجعيات، بما يُمكّن من إعادة الاعتبار للفعل السياسي، وترسيخ ثقافة المشاركة، وتعزيز ثقة المواطن في المؤسسات الحزبية والانتخابية على حدّ سواء”.