في أحد أكثر المشاهد حرارة في فيلم “نداء قلبي”” Call Me by Your Name، للمخرج لوكا غوادانينو، يجلس “إيليو” تحت أشعة الشمس الصيفية المتوهجة، يقول ببطء يشبه همس الذكريات: “أين الصيف؟ الصيف جوه قلبي وشغف السينما”. تتردّد كلماته كما لو أنها تصف ليس الفصل وحده؛ بل العالم الذي يخلقه الصيف حين يدخل الصورة. فهل يكون الصيف مجرّد خلفية زمنية، أم أنه حالة شعورية كاملة؟ ماذا يعني أن يمرّ الصيف عبر عدسة الكاميرا؟ كيف يتحوّل إلى تجربة حسية وفكرية ودرامية؟ ما هي ملامح سينما الصيف؟ وما الذي تطرحه من أفكار وتفتحه من أسئلة؟
تبدأ سينما الصيف في اللحظة التي يتوق فيها الإنسان إلى الانفلات من الزمن العادي، حين يمدّ الضوء خيوطه على كل شيء؛ فيُصبح للفراغ معنى، وللصمت موسيقى. ولا تكتفي هذه السينما بتأطير فصل مشمس؛ بل تصنع من الصيف لحظة اكتشاف ذات، مساحة للتمرد والحنين والانعتاق. وتدخل الشخصيات في تجارب لا تكون ممكنة إلا حين تنفتح السماء فوقها، وتتسع الأرض تحت خطواتها. وما يجعل سينما الصيف حالة خاصة ليس الموقع الجغرافي للأحداث؛ بل الحرارة الشعورية التي تسري في حركتها، حينما تختلط الألوان برائحة العشب، والضوء الذي لا يُطرد من الكادر.
وتُبنى هذه السينما على أساس جمالي وبصري يتّسم بالحيوية والانفتاح. وتُلتقط المشاهد غالبا في أماكن طبيعية مفتوحة: حقول، شواطئ، قرى، طرق نائية. وتنعكس الشمس على الجلد، وتسبح الكاميرا مع الشخصيات في الماء أو في الهواء. ويغيب الحائط الصلب، وتختفي الغرف المغلقة، ويصير الفيلم مساحة يتحرك فيها الجسد بحرية، وتتداخل الحواس في تجربة حسية. وتتلوّن العدسة بحرارة الصيف، ويغدو الضوء لغة مستقلة. ولا يمثل هذا الجمال شكليا فحسب، بقدر ما ينطوي على عمق فلسفي: الحرّ لا يجمّل الواقع وإنما يعرّيه، يخرجه من قيوده المعلّبة إلى احتمالاته الأولى.
ومن خلال هذه اللغة البصرية، تطرح سينما الصيف أطروحات وجودية: من نحن عندما لا نكون في أماكننا المعتادة؟ وماذا نفعل حين نُترك للفراغ والزمن المفتوح؟ ومن نصبح حين نحمل الشمس في داخلنا؟ تتأمل هذه السينما الذات في لحظاتها العارية: المراهقة، الحنين، الحب الأول، اكتشاف الجسد، التمرد على السلطة. وهي لا تقدم أجوبة مباشرة، فقط تترك الأسئلة معلقة بين ظلال الأشجار وصوت الدراجات القديمة على الطرق الريفية.
تطورت سينما الصيف من كونها مجرد خلفية زمنية لأحداث بسيطة إلى مدرسة فنية قائمة بذاتها. وصارت تمثل تجربة سينمائية كاملة تحمل خصائصها البصرية والفكرية والنفسية. وهي لم تعد حكرا على الغرب، بقدر ما تبنتها سينمات عالمية متعددة، من تايلاند إلى إسبانيا، من المكسيك إلى لبنان. ويصور فيلم مثل “موستانغ” (Mustang، 2015، إخراج: دينيز غامزي إرغوفين) الصيف كمساحة مقاومة، حيث خمس فتيات يعشن صيفا يحمل في طياته كل الغضب الصامت، وكل الرغبة في التحرر من سلطة الذكور والتقاليد. ولا تمثل الحرارة هنا رومانسية وإنما تحمل نبرة احتجاجية، تتحول إلى رمز للنضال الأنثوي.
ويمكن تصنيف سينما الصيف في عدة اتجاهات. وتأخذ أحيانا شكل “سينما التجربة” حيث الأولوية للشعور والتجربة الحسية أكثر من السرد القصصي. وتكون أحيانا “سينما الذاكرة”، حيث يُستدعى الصيف كفصل عالق في الماضي، بوصفه زمنا ذهبيا أو جرحا مفتوحا. ونراها أحيانا في صورة “سينما الاحتفال”، حيث يُمجَّد الصيف بوصفه فسحة للحرية والرقص والانطلاق، دون أن يغيب عنه التأمل. لكنها في كل تصنيف، تظل سينما تكسر الخطوط الحادة بين الأضداد: بين الزمن والمكان، بين الداخل والخارج، بين الفرد والمجتمع.
وتقف خلف هذه السينما على عتبات فلسفات متداخلة. فهي فلسفة الحواس، حيث المعرفة لا تأتي من الفكر بل من الملمس والضوء والرائحة. وهي فلسفة الجسد، حيث يُفهم الإنسان من خلال تحركاته، من خلال جلوسه تحت الشمس، ومشيه الحافي على التراب، وسباحته في بحيرات صغيرة. وهي أيضا فلسفة الزمن المفتوح، حيث تُروى القصص ببطء، بلا استعجال، حيث يتم خلق معنى من التفاصيل الهامشية.
وتُعدّ أفلام مثل “نداء قلبي” (Call Me by Your Name، 2017، إخراج: لوكا غوادانينو) نموذجا مثاليا لما تفعله سينما الصيف. تتجسد الفكرة في قصة شاب يعيش صيفا إيطاليا هادئا يتحول تدريجيا إلى تجربة تحول داخلي. لا يحدث شيء كبير على السطح؛ ولكن كل شيء يتغير في الأعماق. الحرارة لا تأتي فقط من الشمس؛ بل من المشاعر، من الاكتشافات الصغيرة التي تبني معنى الحياة.
وكذلك فيلم “القلب الكبير الأزرق” (The Big Blue، 1988، إخراج: لوك بيسون) الذي يأخذ البحر الصيفي كرمز للحرية والهروب من قيد اليابسة، فيغدو الغوص صورة رمزية للغوص في الذات.
وفي السينما الفرنسية، نجد “رائحة الياسمين” (Perfume of Jasmine، 2012، إخراج: أبيلاردو إستريلا) حيث يتسلل الصيف عبر النوافذ مثل نَفَس طويل من العطر. وتذوب المدينة في هذا الفيلم مع الشمس، وتتحول
العلاقات بين الشخصيات إلى بحث عن ظل أو نسمة أو حنين. ولا يمثل الصيف هنا خلفية فهو الفاعل الأول، يسرّع كل شيء ويبطئ كل شيء في الوقت نفسه.
وتنكشف في فيلم “ليل الصيف الطويل” (Long Summer Night، 2015، إخراج: مارتا سييرا)، الشخصيات في ليل لا يبرد أبدا، وكأن الزمن توقف في لحظة حر لا تنتهي. ترتسم العلاقات في ضوء المصابيح القديمة وأحاديث السهرات، بينما يبحث الأبطال عن إجابة على سؤال صامت: ما الذي نبحث عنه في ليل الصيف؟ أي حب؟ أي هروب؟ أي سلام داخلي؟
ولا يمكن الحديث عن سينما الصيف دون التوقف عند بُعدها الثقافي والجمالي. فهي تطرح نظرة مختلفة للعلاقة بين الإنسان والطبيعة، بين الإحساس والفكر، بين الزمان والمكان. تتقاطع فيها الحكايات الشخصية مع الأسئلة الكبرى، فتغدو الحكاية الفردية مرآة لأسئلة الإنسانية كلها. وكل ذلك يتم عبر ألوان دافئة، موسيقى خفيفة، أصوات الريح والماء والضحك والهدوء.
وتبقى سينما الصيف نوعا سينمائيا قابلا للتجدد، لأنها تستند إلى إحساس لا يموت: إحساسنا بالشوق، بالضوء، بالزمن حين يذوب بين أيدينا. في كل صيف جديد، يُولد فيلم جديد يحمل حرارته الخاصة، لغته البصرية الخاصة، طريقته في قول “أنا هنا”، في إشعال الأسئلة وتبريد القلق. وهكذا، كلما شاهدنا فيلما صيفيا، نشعر كأننا نُلقى في حضن الزمن لا لنفهمه، بل لنعيشه.
وحين يُقال: “الصيف جوه قلبي”، لا يكون الحديث عن فصل في السنة، بل عن مشهد سينمائي ممتد، عن سؤال لا يُجاب، عن شغف لا يخفت، عن ضوء لا ينطفئ. وهذه هي سينما الصيف، حيث تبدأ القصص حين تذوب الحدود، وتصبح الحياة أقرب ما تكون إلى الحلم.
في أحد مشاهد من فيلم “نداء باسمي” للمخرج لوكا غوادانينو، يجلس “إيليو” قرب النهر، يحاول تفسير شعور لا يعرف اسمه، يقول في لحظة ارتباك مضيئة: “يحصل الصيف بداخلي، وليس بحولي”، وتبدأ هذه الجملة في كشف أول خيط في ما يُعرف بهوية سينما الصيف. ولا تمثل حرارة الشمس ما يهم هو الكاميرا، بقدر ما تفعله تلك الحرارة في ملامح الشخصية، في نبض الجسد، وفي رعشة القرار، وفي توتر الحواس حين يتلامس الضوء مع الذاكرة.
وتُبنى الهوية السردية لسينما الصيف من عناصر تتجاوز الفصول الطبيعية إلى طبقات درامية عميقة، حين يتصدّر البطل المشهد متردّدا، خائفا، متمرّدا، عاشقا، أو هاربا. وتتجلى الرواية كمحاولة لفهم ما يعنيه هذا الصيف، وكيف يعيد تشكيل الذات في مواجهة المكان، الجسد، والآخر. وتبدأ الكاميرا بالتجوّل داخل العيون، تبحث عن قصة لا تُروى بالكلمات بل تُشاهد في النظرات والعرق والماء. وتنتقل السردية الصيفية من منطق الحبكة إلى منطق التجربة: لا تنشغل الأحداث بالتسلسل بل بالإحساس، ولا تُبنى من قرارات بطولية بل من ارتعاشات صغيرة يتخذها البطل في صمت طويل أو لمسة خفيفة.
ويعتمد الخطابي السينمائي هنا على جمالية الصمت والكثافة الحسية، إذ تُستخدم حرارة الصيف كأداة لفضح النفس، لتذويب المسافة بين الشخصية والمُشاهد، ولجعل اللقطة تمتدّ كأنها تنهار داخل الزمن لا خارجه. وتتكرر العبارات الموجزة في الحوارات، وتتمدد الموسيقى في الخلفية، فتفتح الصورة على احتمالات رمزية متعددة. ويتحوّل المكان إلى مرآة، وتتحول الألوان إلى إشارات شعورية، وتتداخل الرمزية مع اللغة اليومية. في هذا الإطار، لا يقول الفيلم ما يعتقد؛ بل يُشعِر المشاهد بما يشبه الهمس الداخلي، ما يشبه السؤال المفتوح.
تتكوّن حساسيات البطل الصيفي من مزيج معقّد من البراءة والخوف والرغبة، إذ يبدأ الصيف دائما من نقطة التحوّل: انتهاء المدرسة، موت الجد، الانتقال إلى بيت آخر، أو قدوم ضيف جديد. ويعيش البطل في سينما الصيف حالة من الانفصال المؤقت عن واقعه العادي، ويُلقى في عالم مختلف لا يخضع للمنطق اليومي. ويشعر بأن كل شيء يمكن أن يحدث، وأن كل شيء قد ينكسر.
في فيلم “موستانغ Mustang” للمخرجة دنيز غامزي إرغوفين (2015)، تبدأ الفتيات الخمس في اختبار حدود حريتهن في صيف تركي قروي، يهيمن فيه النظام الأبوي على تفاصيل الحياة. وتكتشف كل واحدة منهن أن الصيف ليس وقتا للّعب فقط؛ بل مساحة للصدام مع السلطة، ومحاولة لاختراع هوية نسائية في عالم يُنكرها بسلطته الذكورية.
ويرتبط موقف البطل في هذه السينما بتوتر دائم: هل يستجيب للرغبة أم للواجب؟ هل يهرب أم يواجه؟ وهل يبقى في هذه اللحظة المضيئة أم يغادرها نحو مسؤوليات مقبلة؟ وينشأ هذا التوتر من الحرارة الخارجية التي تشعل الداخل، فيفقد البطل السيطرة على الوقت وعلى العواطف.
في فيلم “صيف 85” Summer of 85 للمخرج فرانسوا أوزون (2020)، يعيش البطل تجربة حبّ مراهق وصادمة في آن واحد. وتشكّل روحه، وتحرقه، وتمنحه إدراكا جديدا للهوية والحياة. ويختار أن يحكي القصة بعد انتهاء الصيف، كأنه لا يستطيع الكلام إلّا من بعد أن تحوّلت التجربة إلى ذكرى.
وتكشف سينما الصيف عن أبعاد اجتماعية دقيقة حين تصوّر كيف يتأثر الأفراد ببيئاتهم الطبقية، وحين تُبرز التفاوتات الخفية بين من يملكون حرية الصيف ومن يُسلبونها. وتتجلى الصراعات الطبقية في فيلم “صيف جاف” Dry Summer للمخرج متين إيركسان (تركيا، 1964)، من خلال السيطرة على المياه، ويصبح الصيف ساحة للنزاع بين من يملك الأرض ومن لا يملك سوى العرق. ويُظهر الفيلم كيف تتحدّث الأرض بلغتها الخاصة، وكيف تصير الموارد الطبيعية أدوات سلطة، حين يندمج البُعد الاقتصادي بالمكاني.
وترتفع الحرارة السياسية في بعض أفلام الصيف حين يتحوّل الفضاء الطبيعي إلى خلفية لصراعات الهوية الوطنية أو الطائفية أو العرقية.
وفي فيلم “صيف لا يُنسى” An Unforgettable Summer للمخرج الروماني لوسيان بينتيلي (1994)، تستعرض الكاميرا لحظة تاريخية مُتخيّلة وسط صراع عرقي في البلقان. ولا ينفجر العنف دفعة واحدة، بل يتصاعد مثل حرارة غشت، حين يتحوّل الهواء الخانق إلى مؤشّر لأزمة قادمة. ويُجرّد الإنسان من براءته، وتُختبر الهوية حين يصبح البطل أمام سؤال أخلاقي يتجاوز الحب والرغبة إلى ما هو أبعد: هل يحمي مَن يحبّ؟ أم ينتمي إلى مؤسّسة تقمع؟
وتسحب سينما الصيف خطوطها من السياسة إلى الاقتصاد، ثم إلى النفس، لتكشف قلق الفرد، وتوتّره الوجودي. وتصوّر هذه الأفلام الشخصيات في حالات انتقاليّة: بين مراهقة ونضج، بين جرح وشفاء، بين ماضٍ متراكم ومستقبل غامض.
وفي فيلم “البحر بيننا” The Sea Ahead للمخرجة إليان الراهب (2021)، تعود شابة إلى بيروت خلال صيف ضائع، باحثة عن معنى لحياتها وسط مدينة متوترة. ولا تقدم الكاميرا أجوبة، بقدر ما تُظهر التردّد، التشتّت، التعب العاطفي، فتتحوّل المدينة إلى مرآة نفسية للبطل. ولا يمثل الصيف هنا حبّا عابرا، وإنما وعيا ممزقا.
يمتدّ الرمز الصيفي في هذه السينما ليشمل ما هو أعمق من التمثل الموسمي. ولا يعود الصيف فصلا فقط، فهو يمثل حالة كونية. يتحوّل إلى استعارة عن الرغبة، وعن الزمن القصير الذي يمنحنا لحظات لا تتكرر. يوحي بالأشياء التي لا يمكن الإمساك بها: الطفولة، الجسد، الضوء، الحبّ الأول، ونهاية كل ذلك. تُضفي هذه الرمزية قوة جمالية على الأفلام، وتجعلها قادرة على العمل في ذاكرة المُشاهد لفترات طويلة، تماما كما يعمل الصيف في ذاكرة البشر كبقعة ضوء سابقة لأي مساء.
ويُعيد فيلم “صيف الروح” Summer of Soul للمخرج (2021) للمخرج أمهير كوينغلوف تومسون، تعريف الصيف بوصفه حدثا ثقافيا واجتماعيا ووجدانيا. ويصوّر مهرجان هارلم الموسيقي عام 1969، ويوثق اللحظة التي التقت فيها الموسيقى السوداء بالكرامة السياسية، وكتب فيها الجمهور أغنياته وهويّته بصوت عالٍ. ويتحول المهرجان إلى عمل سرديّ كبير تتداخل فيه الذات الجماعية مع الفردية، ويتحوّل الصيف إلى جملة خطابية تُقال أمام العالم: “نحن هنا، نرقص ونقاوم ونخلق جمالنا بأنفسنا”.
ويُعيد هذا الارتباط بين الحسيّ والسياسي، بين الخاص والعام، تشكيل مشهدية سينما الصيف، حيث لا يجري الحديث عن فصل، بل عن وعي. يتشكّل الوعي بالصيف بوصفه محرّكا للقصّة، لا إطارا لها. وتصبح الشمس شخصية تُدير اللقطة، ويصبح الليل مساحة للبوح. ويتحرّر الجسد من قوالبه، ويبدأ في النطق بلغته الخاصة. ولا يعود البطل مجرد اسم في نص، بقدر ما يصبح إحساسا حيا، ينتقل من العين إلى القلب.
تتقدّم الأبعاد الرمزية في سينما الصيف بوصفها صدى لما لا يُقال. وتبدأ الصورة من سطح واضح: ضوء، عطلة، لهو، طبيعة. ثمّ تتكشّف لتمثّل العمق الروحي للإنسان المعاصر، خصوصا حين يكون ضائعا في عالم مزدحم بالقرارات الثقيلة. ويتحول الصيف إلى رمز للهروب من الذات، أو إليها. وتظهر الشواطئ كعلامات للانفتاح واللانهائية، وتتحوّل الطرق الطويلة إلى استعارات للبحث عن معنى، وتُمثّل العواصف الصيفية لحظات الصراع الداخلي الذي يكسر ما هو ثابت، تماما كما فعل فيلم “السباحة في الصيف” Swimming in Summer للمخرج النمساوي تيرول فون وايزنغر، حيث يذوب الحبيب والحزن في الماء في آن معا، فتبقى السباحة فعلا رمزيا للتطهير والتجدّد.
وتتجلى النفس البشرية كحقل تتفاعل فيه هذه الرموز. ويظهر الصيف داخل الذات كأكثر المواسم هشاشة. وترتفع حساسية الشخصيات، وتنكشف أعماقها بلا وسائط. ويتكرّر حضور النوم الخفيف، الأحلام، الجروح الصغيرة، العزلة المختارة، الشغف غير المحسوم، والعلاقات الملتبسة.
وفي فيلم “العظام والكل” Bones and All للمخرج لوكا غوادانينو (2022)، يمر الحبيبان بصيف طويل عبر طرق أمريكا الريفية، ويحملان معهما سرّا آكلا من الداخل، ويبحثان عن خلاص أو انتماء، وكأن الجسد نفسه يبحث عن معنى لوجوده وسط الحر والموت والحنين.
وتحرّك سينما الصيف أعصاب الذاكرة الجماعية والفردية في الوقت ذاته، وتسهم في إعادة صياغة العلاقة بين الإنسان وموسمه الداخلي. وحين يعجز البطل عن التعبير بالكلمات، تتولى الشمس مهمته. حين تتردّد الذات في المواجهة، يُرسل الصيف إشارته: اختَر. وبهذا، لا تعمل هذه السينما على عرض تحولات الشخصيات فحسب، بقدر ما تنخرط في إعادة تعريف الإنسان نفسه، من خلال المتعة، من خلال الأذى، من خلال لحظة فرح لا تدوم.
وحين تتكثّف كل هذه الأبعاد: الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية، النفسية، الرمزية، تنشأ عن سينما الصيف صورة معقّدة، ليست عابرة أو مؤقتة. تمزج بين الهشاشة والقوة، بين الفردية والجماعية، بين الحاضر والذاكرة. ويتكشّف الصيف بوصفه فصل التحولات الكبرى، ليس لأنه يوفّر الأحداث، بل لأنه يوقظ الإنسان. ومن هنا، تظهر هذه السينما كجسد حيّ، ينبض بالضوء، يتكلم بالحركة، ويقترح أسئلة مفتوحة لا تُغلق بسهولة.
يأتي المساء في نهاية صيف طويل، دافئ، وذو وقع عاطفي لا يُنسى، حين قال “إيليو” في “نداء باسمي”: “الصيف جوه قلبي”، لم يكن يصف طقسا وإنما كان يكتب سيرة داخلية، وسيرة جسد يشعر بالوجود حين لامسه الضوء، حين فقد شيئا وفاز بشيء آخر لم يُسمَّه. تكررت تلك الجملة في عيون أبطال آخرين، في خطواتهم المترددة على الرمل، في نزولهم الأول إلى النهر، في رسائل لم تُكتب. وتُذكّرنا سينما الصيف بأن الحكايات العميقة لا تُروى كلها، بل تُلمح. وتُذكّرنا أن البطل لا يحتاج دائما إلى إنقاذ، بل إلى لحظة صدق. وتُذكّرنا أن السينما نفسها، حين تلامس الضوء بحرارة، تصير أكثر صدقا. وكل صيف جديد هو موعد جديد مع السينما ومع ميلا أفلام جديدة، لكن كل فيلم صيفي أصيل، يبقى كصوت داخلي طويل، يُعيد تشكيل وعينا بالشمس، بالحب، بالوقت، وبأنفسنا. هكذا تواصل سينما الصيف عملها الهادئ: لا تشرح العالم، بل تهمس به، لا تقدّم حلولا؛ بل تمنحنا حرارة السؤال. وفي عالم يبرد بسرعة، تبقى هذه السينما الوعد الوحيد بأن الحياة لا تزال قادرة على الاشتعال.