السينما تقتبس الشعر، كريستوفر نولان يقتبس أوديسة هوميروس ويصورها في جنوب المغرب. وقد زار وزير الاتصال والثقافة المهدي بنسعيدي موقع التصوير في يلوليوز 2025. مخرج محدق يقتبس قصيدة حرب من شاعر أعمى. حرب أخرى في أفلام نولان. يعشق المخرجون السينمائيون تصوير الحرب، وهي حسب كلاوزفيتز “استكشاف فن العنف في تدمير أعدائنا” وكسب المجد.

تبدأ ملحمة الأوديسة بطلب سرد حِيل الرجل الذي دمر طروادة بتصميم حصان ونجا من الغرق بخشبة، ودخل بيته متنكرا في زي متسول ليشارك في اختبار شد القوس. أحسن القَصص حيل كما فعل يولسيس. لقد تحامق البطل لكي لا يذهب للحرب لكنه استجاب لسفير الملك مينيلاس. يُتعب سردُ الحيلُ الخصم ويشوّق المشاهد. ليس صدفة أن المدينة التي حصّنتها جُدرانها غدرت بها لعبة خشبية. يثبت توجه نولان في اقتباس الأوديسة ضرورة تدريس الأدب القديم في معاهد السينما.

لدى المخرج حكاية عودة مظفرة من حرب بلا غنائم. تجري الأحداث بين مدينة طروادة وجزيرة إيتاكا. ستكون رحلة الكاميرا طويلة رفقة البطل العائد وهو يتحدى العوائق التي تؤخر وصوله إلى حبيبته ومملكته. في اليوم السادس من الرحلة ظهرت جزيرة عجيبة… الهدف سام والعوائق قاسية، التشويق مضمون.

هذه هي السمات السردية التي شجعت المخرج نولان على اقتباس نص كبير قديم معروف لتجاوز نقد سيناريوهات أفلامه السابقة. هذه شجاعة فنية واقتصادية تكلف حوالي 250 مليون دولار. العائد مضمون. كان جورج إيستمان مخترع الكاميرا رجل أعمال يعرف أنها آلة فنية مدرة للربح.

يعشق المخرج كريستوفر نولان تصوير الحركة. بالنظر إلى أفلام المخرج السابقة في كل مشهد تتحرك الكاميرا أو الممثل وغالبا هما معا (دجانغو 2012). وهذه الحركة مصدر تفوق نولان الإخراجي في هذا القرن.

ستجري كاميرا نولان المسافة من مدينة طروادة المحترقة حتى جزيرة إيثاكا الساحرة والجنة الموعودة، وفي الطريق البحري أغوال وجنود وخِراف وجن وعواصف… هناك يتم مسخ بشر إلى خنازير لكنهم يحتفظون بمخ البشر، الشكل حيواني والوعي بشري.

لقد وضع الراوي المحتال الغرائب في طريق بطل الرحلة؛ هذا ما يفتح الطريق للأسلبة البصرية.

يأتي الفيلم الجديد لنولان بعد فيلم “أوبنهايمر” الذي حقق سبع أوسكارات في 2024. مع كل نجاح لأفلام نولان تسري أخباره بين الصحف والقنوات والسينيفيليين؛ إنه قوة إعلامية هائلة توفر واجهة عرض رائعة للمغرب حيث يصور الفيلم.

بلغ خبر الاقتباس والتصوير في المغرب عنان الإنترنيت بعد أن بلغت شهرة يولسيس عنان السماء بفضل المصائب التي صتبها عليه الآلهة. لقد سلط خبر التصوير الهوليودي الأضواء والكاميرات على جمال شواطئ مدينة الداخلة وعلى الاستقرار السياسي في المنطقة. هنا لا مكان لفوضى الصحراء الكبرى. المغرب بلد آمن وتجاوز المسائل الأمنية ليتعامل مع المطالب الفنية والجمالية. يصور كريستوفر نولان بأموال منتجين أمريكيين. وهذه رسالة سياسية واقتصادية. يمكن الاستثمار في الصحراء جنوبي المغرب دون مخاوف.

ماذا تقول ملحمة الأوديسة عن العالم المعاصر؟

حروب في أوروبا وإفريقيا وآسيا… كائنات بشعة تفترس البشر، شلالات دم في كل مكان لأن العالم تحت قادة لديهم خلل في المنظور. يمثل نشيد بوليمفوس ذي العين الواحدة قمة التشويق، لديه خلل في النظر. لا تُكذب وقائع الحاضر وقائع الماضي.

ما الذي يجمع كل هذا؟ هوس السيطرة على السطلة والأرض.

على صعيد تفسير التاريخ مشكوك أن يُحمل المخرج مسؤولية حروب القرن الواحد والعشرين لحقد الآلهة الإغريقية. الشر البشري هو سبب الحروب. سيفسر الماضي الحاضر. يقول بَنَديتو كروتشه: “إن الاهتمام بالحاضر هو الأمر الوحيد الذي يحرك المرء للتحقيق في وقائع الماضي”.

لماذا نص قديم لتفسير الحاضر؟ لاستثمار المسافة الزمانية التي تفصل المشاهد عن زمن الأحداث لخلق الدهشة.

صور كريستوف نولان الباحث النووي المسالم (أوبنهايمر 2023) مهملا رغم حلمه بالسلام، وصور جوكرا متجهما (The Dark Knight 2008) وهو يفكر في وال ستريت ويحقق في ما يجري ويكشف الأقنعة، وصور الزنجي جانغو يحقق حريته على حصان، وصور ديكابريو يرى ذكرياته وأحلامه مُجسمة (Inception 2010).

في كل أفلامه، ورغم ضجيج المؤثرات الصوتية واللعب بالمؤثرات البصرية، فالبطل متصل بسياقه، هنا والآن، البطل قريب منا بعيد عن خوارق أبطال أفلام شركة مارفل.

مستويات جاذبية الأوديسة

عمد نولان إلى اقتباس نص ملحمي راسخ يثبت أن السينما سرد أولا. تتميز الملحمة بسمك الموضوع ودقة الوصف النفسي وسلاسة الأسلوب ووضوحه. سيجد السيناريست الذي يقتبس هبرةً يُقطعها كما يشاء.

أخلاقيا “تظهر الملحمة الجنس البشري في أعلى مراحل الرجولة”. تمتع البطولة الجمهور. يولسيس بطل مسالم تجرف الحرب عشرين سنة من حياته، رجل مسالم مخلص محب لزوجته يتعرض لشقاء الحرب والحرمان من حبيبته. تترجم الملحمة قيم ومثل شعب بأكمله في لحظة مصيرية، ويرى المشاهد نفسه جزءا منها.

أخلاقيا يندلع نزاع بين الآلهة بسبب الدم الذي سال. اندلع نزاع بين الآلهة بسبب نتائج حرب طروادة. هل تستحق الآلهة الإغريقية التي سمحت بسيلان كل هذا الدم الاحترام؟ هذا سؤال يهم الغرب ولا مكان له في العالم الإسلامي ولله الحمد.

بصريا يتوفر نولان على رسوم وتماثيل ولوحات كثيرة لشخصيات الملحمة، ليستلهم المناظر.

عاطفيا تلتقي ملحمتا الإلياذة والأوديسة في أن كل من يتزوج امرأة خارقة الجمال سيتعرض للمحن. تحكي الإلياذة قصة زوجة خائنة، وتحكي الأوديسة قصة زوجة مخلصة. هربت هيلانة من زوجها مع باريس الراعي وانتظرت الفاتنة بينيلوب زوجها يولسيس 20 عاما.

يقتبس كريستوفر نولان ملحمة الأوديسة التي تعرض مجازر لا تعد. هكذا سيجد المخرج الفرصة لتصوير الدم الذي يسيل بغزارة في العالم المعاصر.

لماذا تفوق اقتباس الإلياذة على اقتباس الأوديسة عدديا؟ جرت أحداث الأوديسة في عشرين سنة وعشرات الأمكنة بينما جرت أحداث الإلياذة في شهر ونصف الشهر. طبقت الإلياذة القاعدة الدرامية الأرسطية:

وحدة المكان والحدث والزمان. يُصعّب تشتت الأمكنة والأزمنة المونتاج.

تقدم جزر المغامرة في ملحمة الأوديسة فاكهة النسيان، سيكون جيدا بيع هذا الدواء لنسيان تراجيديا العالم الذي نعيش فيه.

يثبت اقتباس ملحمة الأوديسة قوة الثقافة الإغريقية وامتداد تأثيرها حتى القرن الواحد والعشرين. يمتد التأثير لأن البشر تحركهم الدوافع الروحية نفسها قديما وحديثا. وظيفة الحكايات في القدم والأفلام حاليا هي أن تساعد الناس على فهم أنفسهم. تمنح التراجيديا معنى للحياة.