ليس الجوع في جوهره حالة بيولوجية فحسب؛ إنه سؤال فلسفي يطرق أبواب الوجود كلما انكشفت هشاشة الإنسان أمام حاجاته الأولى. إنه الفراغ الذي يتجاوز المعدة ليصيب المعنى ذاته، فيحول الحياة إلى امتحان دائم بين الرغبة في البقاء والبحث عن الكرامة. من منظور فكري، يفضح الجوع هشاشة الحضارة، إذ يكفي غياب الخبز يوما حتى ينهار البناء الرمزي الذي شيدته قرون من الفكر والسلطة والعمران. هكذا، يصبح الجوع مرآة للإنسانية، يكشف عمقها حين تتقاسم الخبز، وبؤسها حين تترك الإنسان يموت أمام صمت العالم.
في تاريخ البشرية، لم يكن الموت جوعا حدثا عابرا، كان دوما علامة دامغة على أن الحضارة، مهما بلغت من قوة، قد تنقلب على نفسها حين تعجز عن إطعام أبنائها. هناك حضارات قامت على فائض القمح والشعير والتمر؛ لكنها انهارت لحظة صار الخبز عملة نادرة، والحنطة حلما بعيد المنال، وصار الإنسان لا يجد في مدنه الشامخة سوى صدى جوعه.
لم يكن الجوع مجرد نقص في الطعام، كان انكشافا للبنية العميقة للحضارة، إذ ما نفع الأهرامات الشاهقة إذا كانت بطون البنائين خاوية؟ وما جدوى المعابد المزخرفة حين يذبل الفلاحون حولها؟ كثير من الحضارات ماتت لا لأن أعداءها غزوها، وإنما لأن الخبز خانها، والمطر جف، والأرض تكلست. خذ مثلا حضارات وادي السند، حيث يحكى أن الجفاف امتد عقودا، فترك المدن الحجرية المهيبة بلا روح، أو حضارة المايا التي انهارت مع ندرة المطر وتحولت الغابات إلى أراض قاحلة. في كل هذه الحالات لم يأت الخراب بسيوف الغزاة، جاء على هيئة صمت ثقيل، صمت المعدة الفارغة التي لا تسمع سوى قرقرتها.
الجوع امتحان فلسفي للحضارة؛ كل حضارة مات فيها الإنسان جوعا تركت هذا السؤال معلقا في الهواء: ما قيمة الفن والعلم حين يمحى الجسد الذي يحمله؟ وما معنى التاريخ حين يكتب على عظام هزيلة وجماجم لم تجد قوتها؟ الحضارة التي لا تطعم أبناءها، مهما بلغت من ترف ورخاء في واجهتها، تحمل في أعماقها بذور فنائها.
كان الجوع في الحضارات القديمة يعلن عن نفسه بوضوح، في الهياكل العظمية النحيلة، في المدن المهجورة، في النقوش التي تستغيث بالآلهة طلبا للمطر. أما في عالمنا المعاصر، فقد صار الجوع يرتدي أقنعة أكثر مكرا؛ ذلك أنه أصبح جزءا من لعبة اقتصادية عالمية، وكأن البشر مجرد بيانات تسجل في تقارير الأمم المتحدة. في القرن العشرين، شهد العالم مجاعات مروعة في إثيوبيا وفي بنغلاديش وفي كوريا الشمالية، حيث مات مئات الآلاف؛ لأن السياسة والحروب والاحتكار جعلت الطعام أداة للقتل. الفرق بين الماضي والحاضر هو أن الحضارات القديمة لم تكن تعرف كيف تخدع نفسها: حين ينهار الغذاء، تنهار المدن، وينكشف المصير بوضوح. أما اليوم فنحن نمتلك القدرة على إخفاء الجوع تحت ستار الإعلام والإعلانات التجارية. ترى السوبرماركت ممتلئة، لكن ملايين الناس لا يستطيعون شراء ما فيها، كأن الحضارة الحديثة تعيد مأساة الحضارات الغابرة؛ لكن بذكاء أشد قسوة: الجائع موجود، لكنه غير مرئي.
تضعنا هذه المقارنة أمام سؤال مدهش: هل نحن أكثر تقدما من حضارات الماضي؟ أم أننا نعيد إنتاج موت الإنسان جوعا بطرق أكثر أناقة؟ حين يتضور فلاح في النيجر أو طفل في اليمن جوعا، هل يختلف كثيرا عن ذلك الفلاح الذي مات في وادي السند أو عن ذلك الكاهن الذي ترك معبده فارغا في غابة المايا؟
ليس الجوع مجرد حادث تاريخي بقدر ما هو بنية ثابتة تتكرر عبر العصور، بأقنعة مختلفة. يخبرنا الماضي بأن الطبيعة قد تقتلنا بالجوع، أما الحاضر فيعلمنا أن الإنسان قادر على أن يصنع الجوع بيديه، أن يحوله إلى سلاح، إلى أداة سياسية، إلى اختبار قاس لمعنى العدالة. من هنا، أهمية هذا الدرس: الحضارة، كي تكون إنسانية بحق، ليست بمعابدها ولا بأبراجها ولا بأسواقها، وإنما بقدرتها على أن تمنع موت إنسان واحد جوعا.
حين نتأمل اليوم ما يحدث في غزة، نجد أنفسنا أمام صورة معاصرة صادمة تنظر إلى موت الناس جوعا كأنه أمر عابر، أو مجرد خبر في شريط إخباري سريع. الجوع هناك ليس نتيجة جفاف ولا كارثة طبيعية، إنه حصار محكم، وإرادة سياسية تعاقب شعبا بأكمله بحرمانه من الخبز والماء والدواء. ليست غزة مجرد جغرافيا صغيرة تحت النار، إنها اليوم مرآة أخلاقية للعالم، تكشف عن عجز الحضارة المعاصرة عن حماية الإنسان من أبسط أشكال الموت وأكثرها إهانة: الموت جوعا. في شوارع غزة، يأخذ الجوع هيئة انتظار طويل أمام المخابز القليلة التي لم تقصف بعد. يأخذ هيئة أمّ تحاول أن تخبز الخبز على نار الحطب بعدما انقطع الغاز والكهرباء. يأخذ هيئة أطفال يبحثون عن بقايا طعام بين الركام. هذا الجوع لا يشبه جوع الحضارات القديمة الذي كان يستسلم لقسوة الطبيعة، هو جوع مدروس، تشرف عليه آلات الحصار وآلة الحرب معا. من هنا، يتحول الجوع إلى عقوبة جماعية، وإلى لغة من لغات السيطرة.
والمفارقة المؤلمة هي أن غزة تحاصر اليوم بالطريقة نفسها التي ماتت بها مدن قديمة: انقطاع الغذاء، شح الماء، وانهيار البنيات الأساسية للحياة. وكأننا نرى تكرارا للتاريخ في زمن يفترض أنه تجاوز هذه الهمجية. الحضارة التي تترك أطفال غزة يموتون جوعا، بينما تنفق تريليونات على صناعة السلاح والتكنولوجيا، هي حضارة تتعرى من إنسانيتها وتعيد إنتاج سقوطها الأخلاقي.
فأيّ معنى لحضارة إذا كان بالإمكان تجويع مدينة كاملة أمام أنظار العالم؟ هل يمكن أن نسمي أنفسنا بشرا متحضرين ونحن نقبل أن يتحول الجوع إلى أداة حرب؟ إن ما يحدث في غزة اليوم لا يخص الفلسطينيين وحدهم؛ بل يكشف هشاشة الإنسانية جمعاء، ويؤكد أن الجوع لا يزال امتحانا كونيا لفكرة العدالة.
حين يموت طفل أو شيخ جوعا في غزة، يموت في الوقت نفسه الحلم بأن الحضارة تقدمت حقا. العالم كله اليوم شريك في هذا الانهيار الأخلاقي؛ بصمته، أو بعجزه، أو بتواطئه. وإذا كانت حضارات الماضي قد ماتت جوعا لأن المطر لم ينزل، فبأيّ وجه سنواجه أحفادنا حين يسألوننا: لماذا مات الناس جوعا في غزة، ونحن كنا نملك الخبز والماء والقدرة على إنقاذهم؟ ألن يكون هذا السؤال شهادة على أن الحضارة، مهما بلغت من العمران والتقنية، قد سقطت في امتحانها الأكثر بساطة وإنسانية؟ الجوع في غزة محاولة لطمس الكرامة؛ بهذا يتحول إلى رسالة قاسية: “لن نقتلك بالرصاص وحده، سنحاول أن نفرغ حياتك من شروطها البسيطة”. وهذا ما يجعل الجوع في غزة مختلفا عن مجاعات الماضي، فهو جوع مصمم ليهين، ليكسر الإرادة، وليجعل من البقاء فعل مقاومة يومي.
تجسد المبادرة الملكية الأخيرة لإرسال مساعدات إنسانية إضافية إلى سكان قطاع غزة امتدادا لالتزام المغرب العميق تجاه الشعب الفلسطيني، وتجسيدا عمليا لمفهوم التضامن الإنساني في سياق الظروف الحرجة التي يمر بها القطاع. فالدفعة الجديدة، التي تضم نحو 100 طن من المواد الغذائية الأساسية والأدوية، تعكس اهتماما دقيقا بالفئات الأكثر ضعفا، وخاصة الأطفال والرضع؛ وهو ما يبرز البعد الإنساني المتقدم للمملكة في تقديم الدعم المباشر والفوري، مع الحرص على تجاوز أية عوائق لوجستية قد تعيق وصول المساعدات إلى مستحقيها بأسرع وقت ممكن. وتعتبر هذه الخطوة امتدادا لمبادرة مماثلة سابقة أطلقها الملك محمد السادس نهاية يوليوز الماضي، تضمنت إرسال نحو 180 طنا من المساعدات الإنسانية والطبية؛ بما في ذلك المواد الغذائية، الحليب للأطفال، المعدات الطبية، بالإضافة إلى الخيام والأغطية لتأمين الإيواء. هذا الحرص المتواصل على تقديم الدعم ليس مجرد استجابة عاجلة للأزمات؛ بل يعكس استراتيجية واضحة للمملكة في تعزيز صمود المدنيين الفلسطينيين، وترسيخ قيم التضامن والكرامة الإنسانية. كما يعكس قدرة القيادة المغربية على الجمع بين الفعل الإنساني الفوري والرؤية السياسية المستنيرة التي تدافع عن حقوق الشعوب المتضررة.
أن يموت إنسان جوعا اليوم يعني أن الثلاجات في بيوت الأغنياء تلقي بالخبز اليابس في سلات قمامة مصممة بذكاء أكثر مما صممت بيوت الفقراء. وأنه بينما يكتب وزراء الاقتصاد تقارير طويلة عن نسب النمو، ينكمش جسد إنسان في قرية منسية حتى يتحول إلى رسم بياني آخر لا يجد مكانا في التقرير.
ليس الموت جوعا في زمننا قدرا طبيعيا، بقدر ما هو برنامج سياسي متكامل:
– الدول الكبرى تتباهى بمخزونات غذائية تكفي لإطعام القارات، لكنها تهدرها في معارك الأسعار.
– الجمعيات الخيرية توزع الصور أكثر مما توزع الأرز.
– والإنسان الجائع يموت بينما العالم يختنق من “تخمة” إنتاج لا يعرف أين يصرفه.
أن يموت إنسان جوعا اليوم، فذلك يعني أننا اخترعنا الأقمار الصناعية لنراقب المحاصيل من السماء، لكننا لم نخترع بعد قلبا بسيطا لنمد يد العون. يعني أننا نعيش في كوكب يلقي ثلث طعامه في المزابل، ويترك ثلثه الآخر يتناحر عليه في البورصات، ويبقى الثلث الأخير معروضا على موائد فاحشة الطول لا يتسع طرفها لفقير واحد.
أن يموت إنسان جوعا اليوم يعني أن الحضارة البشرية كلها تحتاج إلى حمية صارمة: حمية ضد الكذب، ضد التظاهر بالإنسانية، ضد التصفيق لجوائز نوبل للسلام بينما آخرون يدفنون بأفواه فارغة.
فهل يمكن لحضارة أن تدعي المجد وهي تعجز عن أن تمنع موت إنسان جوعا؟ وما قيمة الأبراج العالية إذا لم تستطع أن تحمي رغيفا صغيرا؟ أليس الجوع، في النهاية، هو الامتحان الأصدق لكل ما نسمّيه عدالة وإنسانية؟ وإذا كان التاريخ قد حفظ لنا أسماء المدن التي انهارت تحت وطأته، فبأيّ وجه سيحفظ حاضرنا، ونحن نرى الجوع يستخدم سلاحا في غزة ولا نحرك ساكنا؟ أليس السؤال الجوهري هو: أيّة حضارة هذه التي تبني عوالم من الحديد والزجاج، وتترك قلب الإنسان يتفتت في صمت معدته الفارغة؟
لنتأمل؛ وإلى حديث آخر.