حين تفقد الخطط معناها، وحين تصبح المأساة هي الخطة، تظهر سينما بونغ جونغ هو كسكين حاد في نسيج الرضا الزائف؛ ولا تمثل سؤالاً عن الفن بقدر ما هي استفهام جريء عن الوجود داخل أنظمة خانقة. بتساؤلات مركبة، أين يقف الفرد بين طبقات المجتمع المتراكبة؟ ومن يملك حق البقاء؟ وكيف تذوب الأخلاق أمام الجوع؟ وفي العتمة التي نُسقط فيها ظلال الفقر والسلطة ماذا يتبقى من الإنسان؟.
هذا المخرج بونغ جون هو القادم من كوريا الجنوبية لم يصنع أفلامًا فقط، وإنما بنى منظومة سردية متكاملة تستجوب أسس الحياة المعاصرة، في الاقتصاد والسياسة والهوية، ويتنقّل بين الأنواع بسلاسة كما يتنقل أبطاله بين الطوابق، من الأسفل حيث العفن والرطوبة إلى الأعلى حيث الزجاج اللامع يطل على حدائق مرتبة بإفراط؛ لكنها كلها، مهما بدت مختلفة، مربوطة بنفس الخيط الفلسفي: اللايقين. وكما أبطاله يقول البطل كي تايك، في فيلم “طفيلي” (2019): “خَطَّطتُ لكل شيء، ولكن لا شيء سار وفق الخطة”.
تقدم “هسبريس” سردية نقدية لهذا المخرج بونغ جون هو، الحائز على جائزة الأوسكار، والذي سيترأس لجنة تحكيم الدورة الثانية والعشرين للمهرجان الدولي للفيلم بمراكش، التي ستنظم خلال الفترة من 28 نونبر إلى 6 دجنبر 2025.
وقد توج المخرج الكوري الجنوبي بونغ جون هو بالعديد من الجوائز الدولية المرموقة، بما في ذلك السعفة الذهبية، ثلاث جوائز أوسكار، وجائزتي بافتا، وترشح لجوائز غولدن غلوب، عن فيلم “طفيلي”، حيث أصبح أول مخرج غير ناطق بالإنجليزية يفوز بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم.
ما الذي يجعل سينما بونغ جون تنتمي إلى زمنها، لكنها تتجاوزه؟ هي سينما ليست واقعية بالمعنى التقليدي، لكنها ليست خيالية تمامًا؛ فهي واقعية تشوه نفسها بوعي، كما لو أن الكاميرا تعرف أن العالم نفسه مختل. وتحفر هذه السينما في طبقات المجتمع، دون وعظ أو شفقة، وتضع المشاهد أمام مرآة قاتمة ثم تكسرها في المشهد الأخير؛ ولهذا تضعنا دائمًا في موضع المتلقي المتهم. المخرج لا يقول “انظر”، بل “أنت جزء من هذه المعادلة”.
ويطارد المخرج في فيلم “ذكريات جريمة قتل” Memories of Murder، (2003) قاتلاً متسلسلاً حقيقيًا، لكن ما يلاحقه فعلًا هو فشله، هو النظام الأمني العقيم، هو الزمن الذي يمر والعدالة التي لا تأتي. وتمطر كل لقطة وكل مشهد بأسئلة عن جدوى السلطة، وعن حدود القدرة الإنسانية. “هل أبدو كمن ارتكب جريمة؟”، يقول أحد المشتبه فيهم. ولا يعبر المشهد عن الجريمة، وإنما عن التحيز، عن الإفلاس الأخلاقي. ولا يلاحق المخرج الجاني، فهو يتتبع آليات التفكير التي صنعت وحشًا. وحتى الصمت في الفيلم لا يريح، فقط يتمدد ليخنق.
ونرى في “العائل” The Host (2006) وحشًا يخرج من نهر الهان بسبب تلوث كيميائي. لكن الوحش الحقيقي هو تواطؤ الحكومة وتجاهلها. وتسخر السينما من الخيال العلمي الكلاسيكي، وتُحمّله نقدًا سياسيًا لاذعًا. وتبحث الأسرة عن ابنتها المخطوفة بعبثية، مضطربة، ومُنهكة. ولا تتمثل البطولة هنا في النجاح، ولكن في القدرة على المحاولة اليائسة، ويصبح الوحش، المخلوق المُشوّه، أقل رعبًا من أجهزة الدولة.
ويأخذنا بطل فيلم “كاسر الثلج” (2013) إلى قطار يدور بلا توقف حول عالم جليدي، حيث يقسم طبقيًا بشكل حرفي: الفقراء في المؤخرة، والأغنياء في المقدمة. وتكلفة التغيير في هذا العالم ليست تطورًا، فهو تجربة تمرد باهظة التكاليف، حين يقول البطل: “من دونك لا يمكن أن يتحرك القطار”. وتكشف الجملة كل فلسفة الفيلم. وتحتاج البنية الاجتماعية للمظلوم كي تستمر. ولا يسقط النظام من الخارج، بل من الداخل، وحتى الثورة نفسها تصبح مشبوهة إن كانت تُدار من النخبة.
ويصور المخرج في فيلم OKja (2017) علاقة طفلة بكائن لطيف ومعدل وراثيًا، ويكمن العمق في فضح جشع الشركات التي تصنع الأمل وتسوّقه كمنتج. ولا يمثل الحيوان سوى كائن خيالي، فهو مرآة للوحشية البشرية. وتقف البطلة في وجه قوة لا تفهم الرحمة. ومشاهد الذبح الصناعي في نهاية الفيلم لا تترك للمشاهد مهربًا، بل تصرخ في وجهه: “هل هذا ما تأكله؟ هل هذه هي الإنسانية التي تدافع عنها؟”.
أما في فيلم “طفيلي”Parasite (2019) فهو ذروة هذا المشروع السينمائي، وينتمي إلى كل شيء: كوميديا سوداء، دراما طبقية، إثارة نفسية، لكنه لا يستقر في أي تصنيف. وتبدأ الحكاية بنبرة ساخرة وتنتهي بجريمة، لكن الجريمة لا تُحل، بل تُخلّف صدىً وأبعادا. كما أن العائلة الفقيرة لا تسرق المال، فهي تسرق دورها في السرد، حين تقول الأم: “إنها طيبة لأنها غنية، لو كنتُ غنية لكنت طيبة أنا أيضًا”. وهنا تنكشف معادلة القيم الاجتماعية، ليست الأخلاق فضيلة، بل رفاهية.
يتمثل الانتماء الجوهري لسينما بونغ جونغ في هويتها الطبقية، لا القومية؛ فأفلامه كورية في النكهة، كونية في السؤال، وهي تنتمي إلى تيار السينما الاجتماعية المضادة، حيث السرد الفيلمي لا يتبع مسارًا خطيًا، بل يتعرج، يتوقف، ويرتد. ولا يمنح المخرج المشاهد إجابات، بل يصم أذنه بالأسئلة؛ ولا يظهر الأشرار في كثير من أفلامه، بشكل تقليدي، فالشر ليس شخصية، بل بنية لديه.
وتميل الهوية البصرية في أفلام المخرج إلى لعبة التناقض: لقطات واسعة بألوان ناعمة تخفي توترًا داخليًا، وكاميرا ثابتة على مأساة متحركة. وتُستَخدم التكوينات البصرية كأدوات سرد فيلمي، حيث الفراغ أحيانًا أكثر تعبيرًا من الفعل. وفي مشهد القبو في فيلم “طفيلي”، حين يُكشف عن ساكنه المخفي، يتحول المكان من مساحة خفية إلى وعي كامل بالهامش. فلا حاجة للمونولوغ، كأنما الجدران تتحدث عن نفسها وبنفسها.
أما على مستوى الهوية السردية فإن بونغ جون هو يحمل معه مطرقة نيتشه ويعمل على هدم البناء الكلاسيكي للحبكة. ولا يوجد “بطل” بالمعنى المعروف، مجرد شخصيات رمادية، تتفاعل مع قوى أكبر منها. ولا تتمثل الانتقالات السردية في المفاجآت، وإنما في كوارث مبرمجة. وبهذا يتحول الفيلم من كوميديا اجتماعية إلى مأساة دموية. لا يبدو التحول غريبًا، لكن مغطى بكل ما هو طبيعي، وكأن الحياة نفسها لا تعرف نوعها.
وتميل الخلفية الفلسفية التي تؤطر أعمال المخرج إلى نقد الميتافيزيقا الاجتماعية؛ فهو قريب من فوكو في فهم السلطة كبنية تسري في كل العلاقات، ومن بودريار في سخرية تمثلات الواقع، ومن ماركس في نقده الجذري للطبقية، لكن خلف هذا هناك دائمًا سؤال وجودي: هل يمكن أن نحيا دون أن نُدهس؟ لا تقدم أفلامه إجابات كافية وشافية، لكنها ترفض التواطؤ.
ولا تُنقل الشخصيات إلى الشاشة لتُحب، فهي أداة لتُفهم. ولا أحد بريء تمامًا، ولا أحد مذنب بالمطلق. “لا نملك خطة، لذا لا يمكن أن تفشل خطتنا”، يقول كي تايك. لكنها ليست فلسفة حياة، فهو اعتراف مرّ بالعجز… ولا تقدم أفلامه بطولات بل تعري هشاشتنا.
ولا تُشاهد هذه السينما وإنما تُقابل، كأنك تجلس مع صديق يضحك على نكتة تعرف أنها حقيقية أكثر مما تحتمل. وبين مشهد وآخر يباغتك بالدم، بالدمع، بالضحك؛ ولا يفصل بين الأنواع، كما لا يفصل المجتمع بين طبقاته، فهو يُلقي بالجميع في القطار نفسه، ويتركك لتقرر إن كنت ستنزل أم تكمل الرحلة حتى آخر العربة.
في أفلام بونغ جون لا إجابات عن أسئلة الحاضر، وإنما هي أسئلة مؤجلة عن مستقبل بدأ منذ الآن. ما الذي نصبحه حين لا نملك سوى الأمل الزائف؟ وكيف نحافظ على إنسانيتنا في عالم يصنفنا حسب ما نملك؟ وماذا لو كانت الطفيليات الحقيقية ليست هم الفقراء، وإنما تلك القيم التي تسمح للأغنياء أن يظلوا على القمة؟.
“أتعرف ما هو رائع في هذه العائلة؟ لا أحد يملك خطة”، لكن سينما بونغ جونغ هو، برغم ذلك، تمتلك خطة عميقة: أن تهزنا حتى لا نعود كما كنا قبل أن نشاهد.
في عوالم سينما بونغ جون هو يصبح من الطبيعي أن ننتقل إلى البطل، هذا الكائن الذي لا يشبه البطل كما ألفناه في السينما الكلاسيكية، ولا يتطابق مع صورة الضحية الخالصة؛ ولا يتحرك بدافع النبل وحده، ولا يخضع بالكامل لضعفه، فهو يعيش على الحواف، يتنفس تحت الماء، ويتحرك داخل الظلال الاجتماعية ليعكس صورة المجتمع أكثر مما يعكس ملامحه الشخصية. ويطل البطل في سينما بونغ كمرايا مهشّمة تعيد ترتيب الأسئلة لا الأجوبة، وتعيد توزيع الأدوار لا الحكايات.
ويُخلق البطل في هذه السينما من هشاشته، ولا يدخل المشهد متفوقًا على مصيره، بل تتشكل هويته من تماسّه مع أحجية الخسارة والارتباك؛ ويتحرك محمولًا بتناقض داخلي، يُحب ويُعاند، يُضحّي ويخون، يهرب ثم يعود؛ ولا ينتظر الخلاص، فهو يحاول النجاة حتى لو كان الثمن هو السقوط. وفي فيلم ” الأم” Mother (2009) تجسد الأم شكلًا فريدًا من البطولة، إذ تدفعها غريزة الحماية إلى تجاوز كل الخطوط، وتحفر في الوحل بحثًا عن براءة ابنها المتهم بجريمة قتل؛ وتنكر الحقائق، وتبرر العنف، وتكذب كي تحفظ صورة لم تعد موجودة، وتقول في أحد المشاهد: “كل أم تفعل أي شيء لطفلها”، لكنها لا تدرك أن ذلك الـ”أي شيء” قد يكون الجريمة نفسها. وهنا تتكسر الصورة النمطية للأم البريئة، وتُستبدل بأم معذبة تقاتل الواقع بمخالبها.
ويتخذ البطل في “كاسر الثلج” / Snowpiercer شكلًا وجوديًا آخر. ويعيش كيرتس في ذيل القطار، حيث العتمة والبرد والفتات، لكنه لا يثور بدافع الحق المجرد؛ ويعترف لاحقًا بأنه أكل لحم أصدقائه، وبأنه كاد أن يأكل رضيعًا ذات مرة، ويقول: “أعرف أن الناس يذبحون الناس”. وهذه الجملة لا تُقال بصوت مرتفع وإنما بلغة المرارة الداخلية، التي تفكك فكرة البطولة النقية. وحين يصل البطل إلى مقدمة القطار لا يبدو منتصرًا وإنما مُنهكًا، ويدرك أن الرأس يشبه الذيل، وأن النظام الذي حاربه ليس خصمًا منفصلًا عنه، فهو امتداد لضعفه.
ويُرسم البطل في فيلم “العائل” بصورة أب لا يُشبه الآباء النموذجيين، فهو مهمل، بسيط الذكاء، بطيء الحركة، ومع ذلك يتحول تدريجيًا إلى محور إنقاذ؛ ولا يتحرك بدافع الثورة ولا العدالة، وإنما بفعل الخوف على ابنته. وحين يركض خلف الوحش في بداية الفيلم يركض ببطء، يتعثر، يُخطئ، لكنه لا يتوقف. ولا تتأسس البطولة هنا كقوة، فهي فعل استمرار. ويُظهر المخرج بونغ كيف يمكن للشخصية الأضعف أن تصبح مركز القوة حين لا تملك شيئًا تخسره سوى من تحب.
ويواجه البطل في فيلم “طفيلي” عدوًا غير مرئي، لا يطلق النار، لا يضع القوانين، فهو يتمثل في نظام كامل يعيد إنتاج نفسه دون عنف ظاهر. ويقرر البطل كي وو دخول عالم الأغنياء عبر ثغرة تعليمية، ويقدّم نفسه كمثقف مزيف، ويتقمص دورًا لا يُجيده في الأصل، ويبدو كمن يلعب لعبة طبقية يعرف أنه سيخسرها، ويقول في أحد المشاهد: “أشعر بأنني أنتمي إلى هنا”، لكن المنزل الذي ينتمي إليه ليس له سقف، فهو طابق سفلي. وتنكشف هشاشة الحلم حين يتحول الفيض إلى رمز لرحيل الستر، وتغدو الهدايا أدوات احتقار ناعمة.
تُخلق شخصيات المخرج بونغ من واقع اجتماعي تختلط فيه الحدود بين الضحية والجلاد. ولا تنفصل هذه الشخصيات عن سياقها الطبقي، بل تتشكل من خلاله. وفي كل فيلم تظهر العائلة كخلية أساسية، لا بمعناها العاطفي، وإنما باعتبارها وحدة مقاومة. ولا تُمارس العائلة في أفلامه الحب الرومانسي ولكنها تجسد الحب الوظيفي، حيث يُستخدم كل فرد لتقوية الآخر، لا لإراحته. ولا يجد الأب في فيلم “طفيلي” عملًا، لكن الابن يصنع له دورًا، والأم تطبخ لتصبح مدبرة منزل، والابنة تزوّر شهادات لتصير معلمة فنون. ويتراكم التزييف لا بوصفه كذبة وإنما وسيلة وخطة للبقاء.
وتمتد إشكالية البطل إلى بعدها السياسي حين تتقاطع مع أنظمة التحكم غير المرئية. وفي فيلم “أوكجا” تقف ميجا، الطفلة الريفية، في وجه شركة ضخمة تمتلك الإعلام والمال والدعاية. ولا تُعبّر البطولة هنا عن القوة الجسدية أو الفكرية وإنما عن موقف أخلاقي نادر. وحين تحتضن أوكجا وسط المسلخ تقف دون خطاب، دون شعارات، تُمارس فعل المقاومة بنقاء فطري. وهنا لا تتشكل البطولة من الانتصار بل من التحدي.
وتنبع حساسية البطل في سينما المخرج بونغ من وعيه بالفقدان، لا من وعيه بالقيمة. ولا يسعى البطل لإثبات حقه وإنما يُقاتل كي لا يُمحى. وحين تقول الأم في فيلم “الأم”: “تعاقبنا الحياة حين نحاول أن نفعل الصواب”، هنا تتكشّف الرؤية التي تحكم هذه الشخصيات، فلا العدالة ما يحركها وإنما الرغبة في البقاء داخل المشهد، لا الخروج من اللعبة.
وتظهر الأبعاد النفسية في هذه السينما من خلال انهيار الإدراك، لا من خلال التصريح بالعواطف. ولا تبوح الشخصيات، ولكنها ترتبك، تتلكأ، تنظر بعيدًا، وتصمت كثيرًا. وتعكس اللقطات الثابتة اضطرابًا داخليًا، وتنقل الإضاءة الناعمة شعورًا بالخوف المزمن. ويزرع المخرج بونغ التوتر في الصمت، وفي النظرات، وفي الغياب المقصود للموسيقى.
تتداخل الأبعاد الاقتصادية والسياسية في كل مشهد تقريبًا في سينما بونغ جون هو، دون أن تخرج إلى السطح كأفكار مجردة. ولا يُقال: “نحن فقراء” وإنما يُرى ذلك في سقف الحمام، في الطعام السريع، في تكرار القمصان وفي اتساخ الوجوه والأيادي. وتترسخ الهياكل الاجتماعية داخل اللغة اليومية، داخل البنية التحتية، داخل الدعوة لتناول الشاي. وحين تطلب ربة المنزل في فيلم “طفيلي” من العاملة أن تطهو لها الرامن مع اللحم يبدو الطلب بريئًا، لكنه يحمل احتقارًا ناعمًا لا يُقال صراحة.
ويتبلور البُعد السياسي في تصوير الأنظمة لا ككيانات حاكمة فقط، فهي ترسم كبُنى متسللة إلى كل زاوية. وفي فيلم “كاسر الثلج” لا تدور الكاميرا حول الصراع بين الثائر والحاكم، فهي تدور حول معنى أن تكون الثورة خاضعة للتصميم نفسه الذي صنع الاضطهاد. ويُقال: “التوازن يجب أن يُحفظ”، وهي عبارة تتكرر كتعويذة باردة تبرر سحق الجماهير. وهنا لا تظهر السياسة عبر وزارات ومؤسسات، ولكنها تتسرّب إلى الطعام، إلى أدوار النوم، إلى الأمل المحسوب.
ويتجلى البُعد الاقتصادي حين تتحول الحاجة إلى محرك سردي أساسي. ولا تتحدث الشخصيات عن المال بصفته رقماً بل بصفته شرطًا للوجود. وتبحث العائلة في فيلم “العائل” عن المال لعلاج الفيروس المزعوم، لكن في الواقع تُستخدم الحاجة لفرض الخضوع. ولا يمثل الاقتصاد خلفية للأحداث، فهو قوة دافعة لصياغة القرارات، حتى تلك التي تبدو عاطفية، مثل التلاعب بالعملة، بالوظائف، بالمنتجات المهندسة وراثيًا. ويظهر في فيلم “أوكجا” كيف أن السوق لم يعد فقط يبيع، فهو يعيد تعريف القيم الأخلاقية نفسها.
وتسكن الرمزية تفاصيل الحياة اليومية. ولا تحتاج الكاميرا إلى تعقيد بصري كي تكون رمزية، يكفي أن يُوضع حجر في غرفة كي يتحول إلى لعنة. وفي فيلم “طفيلي” يصبح الحجر هدية مشؤومة، وعبئًا لا يُوضع، وحلقة من التكرار الأبدي لفشل الترقّي الطبقي. وحين يُحمل الحجر إلى القبو لا يبدو ثقيلًا فحسب، بل يبدو كقدر لا يمكن الفكاك منه.
وتظهر الجمالية في سينما المخرج بونغ من خلال ترتيب الفوضى، لا من خلال تزيين العالم. ولا يُستخرج الجمال هنا من الصفاء وإنما من التشوه، من مشهد طفل يركض في العتمة، ومن نظرة مكسورة في نهاية سلم طويل. وتُستخدم الألوان لتناقض المعنى، وتُستخدم الإضاءة لتُخفي لا لتُظهر. وتتحول السينما إلى مساحة للتوتر، للحيرة، للصراع.
وتُمارس السينما عند بونغ نقدًا مزدوجًا، يطال الشكل والمضمون. ولا يرضا بنمط سردي مستقر، ولا يسمح للنوع السينمائي أن يُطمئن المتلقي. ولا تُضحك الكوميديا دومًا، والمأساة لا تُبكي وحدها. ويتحول التهكم إلى ألم، والسخرية تتفجّر في قلب مشهد صادم. ولا يتيح الفيلم فرصة للتماهي الكامل، بل يُجبر المشاهد على التوقف، على إعادة النظر، على المساءلة.
ويتحول البطل إلى حامل لكل هذه التوترات، كائن لا يملك امتياز البطولة لكنه لا يتخلى عنها؛ ويتحرك داخل شبكة من الخوف والرغبة والانكسار، ولا يدّعي الفهم الكامل لما يحدث حوله. ولا ترتكز البطولة في هذه السينما على جائزة، بل عقوبة، لا تُمنح بل تُفرض. تقول إحدى الشخصيات في فيلم “كاسر الثلج”: “لقد وُلدت في الظلام، وأنا أعرفه جيدًا”، وهو تعبير مجازي ليس عن شكاية، فهو تعريف للذات.
تفتح الأسئلة في هذه السينما كما على الجراح، حيث تقول شخصية فيلم “ذكريات جريمة قتل”، وقد مضى عقدان من دون حل: “لقد عاد، أو ربما لم يغادر أبدًا”، في إشارة إلى القاتل المتخفي، لكن الجملة تحمل دلالة أعمق. ويُمكن أن يُفهم القاتل على أنه النظام، الجوع، اللامساواة، الصمت الرسمي، وقد عاد حقًا، لأنه لم يُقتلع أصلًا. وحين نُغلق الفيلم لا نخرج منه بل نعود إلى أنفسنا، وقد صار وجهنا أقرب إلى تلك المرآة المشروخة التي شاهدناها على الشاشة.
وهكذا تصنع سينما المخرج بونغ جون هو أبطالها لا على مقاس المعجزة، وإنما على مقاس الإنسان، بحيرته، بارتباكه، بخوفه، برغبته في ألا يُنسى، وتتركنا أمام مشهد لا يُحسم، أمام سؤال لا يُجاب، لكن فيه قدرًا من الصدق يشبه الحقيقة. “هل تظن أن لديك خطة؟”، يسأل كي وو، في النهاية، ولا ينتظر جوابًا، لأن الفيلم نفسه أصبح الجواب الوحيد الممكن.