مستغلة الإغراء بـ”الربح السريع”، ما زالت شبكات “الاستثمار الوهمي” تتربص بالمغاربة وأموالهم، ناصبة فِخاخها الرقمية في عدد من شبكات ومجموعات التواصل الاجتماعي وعبر منصات التداول الافتراضي.
وتناسلت في السنوات الأخيرة عدد من الشبكات التي تدّعي عملها في مجال التداول المالي المشفّر أو غيرها من الأنشطة المالية الرقمية؛ بشكل أصبح معه حتى سوق العملات الرقمية يلفُّه خطر إجرامي واضح مشكلا بذلك تهديدا للعديد من المغاربة الذين لم يَسلموا من عواقب هذه الشبكات التي تتخذ شكل “شركات”؛ ما حذر منه خبراء في المجال مؤكدين لجريدة هسبريس أهمية المقاربة القانونية التنظيمية ذات البُعد الزجري مع تطبيق “نهج استباقي” لحماية المتعاملين.
ويوم الأحد الماضي (17 غشت)، أوقفت عناصر الأمن الوطني بمطار محمد الخامس الدولي بمدينة الدار البيضاء امرأة وابنتها “للاشتباه في ارتباطهما بشبكة إجرامية تنشط في النصب والاحتيال”؛ ما أعاد الموضوع إلى الواجهة من جديد.
يتعلق الأمر بتورط الموقوفتيْن واثنين من أفراد أسرتهما في استغلال قناة على مواقع التواصل الاجتماعي للنصب على ضحايا عبر تقديم عروض استثمار وهمية في شركة صورية؛ وهو النشاط الذي مكنهم من الاستيلاء على مبالغ مالية يفوق مجموعها مليونا و800 ألف درهم.
تعليقا على الموضوع أكد بدر بلاج، محلل مالي متخصص في “البلوكتشين” والعملات الرقمية، ضخامة حجم ظاهرة النصب الإلكتروني عالميا، مشيرا إلى أن “حجمها ينافس تجارة المخدرات ويقترب من رقم تريليون دولار”.
ونبه بلاج، ضمن تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، إلى أن “سوق العملات الرقمية أصبحت مجالا شائعا للنصب، حيث يدخلُه الكثيرون دون معرفة كافية”.
وفي هذا الصدد، ذكر المحلل المالي المتخصص في “البلوكتشين” والعملات الرقمية عددا من الطرق والحيَل المستعملة للإيقاع بضحايا الاستثمار الوهمي؛ وأبرزُها “ظاهرة “سحب الزربية” وهي نوع من النصب يحدث في العملات الرقمية، حيث يختفي مؤسس العملة بعد جمع الأرباح”، وكذا ظاهرة “ذبح الخنزير” التي تتعلق بالنصب من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، “حيث يتم إقناع الضحية بالاستثمار في عملة مُريبة”.
وسجل المتحدث ذاته أن “بعض الضحايا خسروا مبالغ كبيرة في عمليات النصب، وتصل في بعض الحالات فقدان مبالغ تفوق 50 مليون سنتيم”، محذرا في السياق من “تنامي العملات الرقمية المزوّرة؛ وهي نوع آخر من الاحتيال، حيث يتم تقديم عملات بأسماء مشابهة لأسماء حقيقية”.
“النصب عبر مجموعات تيليغرام” نوع آخر أورده بلاج شارحا أنه “يتم تقديم استراتيجيات استثمار وهمية للضحايا.. بينما هؤلاء المحتالون يستغلون تقلبات السعر في السوق لتحقيق مكاسب شخصية”، لافتا إلى أن “بعض المحتالين يقدّمون دورات تعليمية وهمية، مُدَّعين تحقيق أرباح خيالية”، مشددا على “خطورة هذه الظواهر، خاصة مع عدم وعي الناس بالمخاطر المحيطة بها”.
وأضاف المتحدث أن “مجال الفوريكس، رغم كونه من أقدم مجالات الاستثمار بالمغرب، فقد تحول في السنوات الأخيرة إلى أرض خصبة لانتشار عدد من الممارسات الاحتيالية التي تستهدف المواطنين الباحثين عن الربح السريع”.
وشرح بلاج لهسبريس: “تبيَّن أن العديد من المنصات التي تنشط في هذا المجال إما وهمية أو تقدم وعودا مضللة بتحقيق أرباح مضمونة؛ وهو الأمر الذي يتكرر كذلك مع بعض المشاريع التي تدّعي الاعتماد على تقنيات الذكاء الاصطناعي لاستقطاب المستثمرين، بينما هي في الواقع مجرد مخططات للاحتيال المالي”.
وحذّر من انتشار “تضليل الرأي العام من خلال الترويج في شبكات التواصل لاستراتيجيات وهمية في التداول أو التجارة الإلكترونية، وتحقيق مكاسب شخصية على حساب متابعيهم؛ ما أدى إلى تفاقم حالات النصب، خاصة في إطار المجموعات الاستثمارية غير المنظمة التي ينخرط فيها المواطنون دون ضمانات قانونية كافية (“مجموعة الخير” في طنجة).
وسجل الخبير المالي ذاته أن “الأمر لم يعد مقتصرا على الفوركس؛ بل شمل أيضا ‘الكريبتو’ والتجارة الإلكترونية، حيث تزايدت قصص الضحايا الذين تعرضوا للنصب والاحتيال نتيجة وعود استثمارية كاذبة”.
بدر بلاج أكد أن “هذه الوضعية تفرض ضرورة ملحة لوضع قوانين وتنظيمات دقيقة تؤطر هذه الأنشطة الاستثمارية الرقمية، بما يضمن حماية الأفراد، ويقطع الطريق أمام ممارسات التضليل والاحتيال التي أضرت بثقة المواطنين وبالاقتصاد الوطني على حد سواء”.
وتابع المتخصص في “البلوكتشين” والعملات الرقمية شارحا: “أمام تزايد ظاهرة النصب المرتبطة بالعملات الرقمية، خصوصا في الدول التي تمنعها قانونيا دون وضع بدائل تنظيمية واضحة، تبرز الحاجة الملحة إلى تقنين هذا المجال بشكل يقطع الطريق أمام المحتالين ويضمن حماية المستثمرين”.
ويتطلب ذلك، وفق المصرح عينه، “سن قوانين صارمة تُلزم أي مشروع استثماري بالحصول على رخصة قانونية قبل دعوة العموم للمشاركة، مع إرساء آليات لمراقبة الحملات الدعائية التي قد تتحول إلى أدوات تضليلية. كما يُقترح إحداث منصة وطنية بالمغرب متخصصة في مكافحة الجريمة الإلكترونية أو إدراج النصب الإلكتروني ضمن “منصة إبلاغ”، تكون مهمتها تتبع شبكات النصب الإلكتروني والمشاريع الوهمية، إلى جانب “وضع إطار قانوني ينظم مهنة المؤثرين الرقميين ويحدد مسؤولياتهم تجاه المتابعين”.
وخلص المحلل المالي سالف الذكر إلى أنه “مِن الضروري إطلاق برامج توعية تستهدف المجتمع، وخاصة الفئات الهشة والأكثر عرضة للاستدراج، حتى لا تتحول هذه الوعود الوهمية إلى عبء إضافي على الفئات ذات الدخل المحدود”.
رصَد طارق حيدار، أستاذ التعليم العالي خبير في الشبكات والأمن السيبراني والمعلوماتي، أن “ظاهرة الاستثمارات الوهمية، خصوصا تلك المرتبطة بمجال العملات الرقمية، تطرح تحديا بالغ الخطورة على المجتمع المغربي؛ إذ لم تعد تقتصر على حالات فردية معزولة، بل تحولت إلى أسلوب متطور في النصب يوظف التكنولوجيا الحديثة وأساليب الإغراء النفسي لاستقطاب الضحايا”.
وحسب حيدار، في تصريح لجريدة هسبريس، تكمن خطورة هذه الظاهرة في مستويات عديدة؛ “أوّلها الطابع المجهول للعملات الرقمية، مثل البيتكوين وغيرها، حيث يصعب تتبع مسار المعاملات مقارنة بالتحويلات البنكية التقليدية، الأمر الذي يوفر بيئة خصبة للعصابات الإجرامية لتهريب الأموال بعيدا عن أعين الرقابة. يُضاف إلى ذلك “البعد النفسي” المتمثل في استغلال حاجة فئات واسعة من المجتمع إلى تحسين أوضاعها المعيشية، في ظل البطالة وتدني الأجور، مما يجعل فكرة “الربح السريع” أرضية خصبة لنجاح مثل هذه المخططات.
كما أن غياب إطار قانوني واضح ينظم تداول العملات المشفرة في المغرب يفتح الباب على مصراعيه أمام المحتالين، الذين غالبا ما يلجؤون إلى إنشاء منصات وهمية تحاكي منصات التداول الحقيقية؛ وفق أستاذ التعليم العالي خبير في الشبكات والأمن السيبراني والمعلوماتي، الذي أضاف بالشرح: “في البداية، يُظهرون للضحايا أرباحا مضاعفة بشكل يومي على الشاشة؛ غير أن هؤلاء يُصدمون، في النهاية، باستحالة سحب أموالهم. وتزداد الأمور تعقيدا مع اعتماد أساليب أخرى مثل مخططات ‘بونزي’ أو “التسويق الهرمي”، حيث يتحول الضحية نفسه إلى أداة لجرّ ضحايا جدد مقابل وعود بعَمولات مغرية”.
أمام هذه المخاطر، أوصى طارق حيدار بأن “الوعي والاحتياط هُما خط الدفاع الأول؛ إذ يتعين على المواطنين التعامل فقط مع المنصات المرخّصة والمعترف بها، وتجنب أي عروض تروّج عبر قنوات غير رسمية كالمجموعات المغلقة في وسائل التواصل الاجتماعي، مع الحرص على تخزين العملات الرقمية في محافظ إلكترونية آمنة بدلا من تركها في منصات غير موثوقة”.
مؤسساتيا وقانونيا، أردف المتحدث لهسبريس بأن “المطلوب هو إرساء إطار تشريعي واضح ينظم سوق العملات الرقمية، بما يحمي المواطنين من الشركات الوهمية، إلى جانب إحداث منصات وطنية للتبليغ الرقمي عن المواقع والتطبيقات المشبوهة، وتعزيز التعاون مع الإنتربول ووحدات مكافحة الجرائم المالية من أجل ملاحقة الشبكات العابرة للحدود”.
وفي جانب لا يقل أهمية، وفق المتحدث عينه، “يتعين الاستثمار في التربية الرقمية والوعي المجتمعي، من خلال إطلاق حملات وطنية توعوية”، مع “تنظيم ورشات تدريبية داخل الجامعات والمعاهد لتعريف الشباب بمخاطر الاستثمارات الوهمية، مع الاستعانة بأمثلة واقعية لضحايا خسروا أموالهم، لزيادة التأثير النفسي والقدرة على الإقناع”.
وأضاف الخبير في الشبكات والأمن السيبراني والمعلوماتي: “يفرض البعد السيبراني نفسه كآلية استراتيجية للتصدي؛ عبر تبني مقاربة استباقية لرصد التحويلات المشبوهة، ومراقبة الحسابات المرتبطة بمنصات غير مرخصة، والتعاون مع شركات الأمن السيبراني لتتبع المحافظ الرقمية المشبوهة باستخدام تقنيات التحقيق الجنائي على شبكة البلوكتشين”.
وخلص الأستاذ الجامعي قائلا إنّ “مواجهة هذه الظاهرة تتطلب مقاربة شمولية، تجمع بين القانون والرقابة، الوعي المجتمعي، والتقنيات الاستباقية، حتى لا يظل المواطنون عرضة لفخاخ رقمية تُغريهم بالربح السريع وتنتهي بخسائر فادحة”.