آخر الأخبار

سينما الدراجات الهوائية.. نص بصري في مرآة الذات واختزال الأزمات

شارك

تتحرك الكاميرا، تنفتح العدسة، وتبدأ الدراجات الهوائية في الظهور من وسيلة نقل، إلى كائن سينمائي له نبضه الخاص. وتتسلل إلى المشهد، تفرض حضورها، وتعيد تشكيل العلاقة بين الجسد والمكان، بين الرغبة والواقع، بين الحلم والقيود. وتتجاوز كونها إطارين وعجلات، لتصبح مرآة تعكس الذات، وتعيد صياغة الحكاية من جديد، مما يطرح الكثير من الأسئلة: كيف يمكن لعجلتين صغيرتين أن تغيّرا مجرى الحكاية؟ وكيف تتحوّل الدراجة الهوائية من مجرد وسيلة نقل إلى شخصية سينمائية لها صوت وظلال؟ وماذا يحدث حين تصبح الدراجة مساحة للتمرد ولحفظ الكرامة وللبحث عن الذات؟ وكيف تتَّخذ على درب الشاشة حضورًا وجوديًا؟ وكيف تصير جسدًا سرديًا وشهادة بصريّة لعالم يُشَكّل، يتأرجح، وينتهي أحيانًا بسقوط باسم الحرية؟ في سينما الدراجات الهوائية تُروى القصص من على مقعد صغير، يرتجف أحيانًا تحت جسد بطل هشّ، ويُقاوم السير في طرق مزدحمة بالحواجز الاجتماعية والنفسية والطبقية. وهذا جوهر هذه الحكاية النقدية…

الدراجة الهوائية: شخصية سينمائية وبطاقة هوية

في هذا النوع من السينما، تدور العجلة ومعها الأسئلة الكبرى: من أنا؟ إلى أين أذهب؟ وهل سأصل أصلًا؟ حين يصرخ الطفل سيريل في فيلم “The Kid with a Bike” للمخرجين داردين قائلًا: ” أنا لن أتركها، هي حياتي، هي الشيء الوحيد يشعرني بأني موجود”، وتتجاوز الدراجة هنا دورها كأداة وتصبح دليلًا على أن البطل لا يحتاج سلاحًا ليُحارب، يكفيه فقط أن يُمسك بمقود الدراجة ويواصل التقدّم.

وتنبض روما ما بعد الحرب في فيلم “سارقو الدراجات” (1948) للمخرج الإيطالي فيتوريو دي سيكا، بالحزن والكرامة، حين يركض الأب والابن خلف دراجة مسروقة، لا بحثًا عن وسيلة، بل عن لقمة العيش. وتتحول الدراجة إلى رمز للكرامة، إلى جسر بين الطفولة والنجاة، إلى أمل هشّ يتكسر في شوارع الخراب بعد الحرب. ويمثل الفيلم قمة الواقعية الإيطالية، وأن أنطونيو صار رمزًا للكفاح البشري ضد الظروف المهشّمة. ولا تتكلم الدراجة الهوائية، لكنها تصرخ في وجه الفقر، وتبكي حين تُسرق، وتنهار حين تُفقد.

وتتسلل الدراجة إلى بكين الحديثة في “Beijing Bicycle” (دراجة بكين) (2001) للمخرج الصيني وانغ شيا وشواي، حيث الدراجة لم تعد مجرد أداة، فهي بطاقة هوية؛ إذ يتحرك الشاب بها كمن يعلن انتماءه للمدينة، كمن يطالب بمكانه في زحام الحياة. ويمنحها المخرج نبضا كيف يمكن أن تصبح رمزًا للطبقة، للانتماء، للمظهر، وللخداع الاجتماعي. ولا تكتفي الدراجة بأن تكون وسيلة، بل تصير مقياسًا للوجود، ومرآة للانكسار.

مصدر الصورة

ونتأمل في فيلم “Boy and Bicycle” (الصبي والدراجة) (1965) للمخرج ريدلي سكوت، حيث الدراجة لا تركض، بل تتأمل. وهو أول فيلم لهذا المخرج المخضرم، يحملها الطفل كمن يحمل حلمًا، كمن يختبر العالم من خلال حركة بسيطة. وتتحول الدراجة إلى فضاء للاستبطان، إلى مرآة صامتة لرؤى يومية، إلى بداية صوت سينمائي وُلد في إضاءة أبيض وأسود. ولا تصرخ الدراجة، لكنها تهمس، وتفتح أبوابًا للخيال.

وفي الفيلم الإيراني “The Cyclist” (سائق الدراجة) (1987)، للمخرج محسن مخملباف، يدور الأب حول نافورة بلا توقف ليحصل على المال لعلاج زوجته الميتة. ويدور حتى يسقط، لكنه لا يتوقف. وتتحول الدراجة إلى مسرح مقاومة، إلى جسد مستنزف يرفض الانكسار. ولا تصرخ الدراجة، لكنها تنطق بالجوع، بالألم، بالحب، بالاستمرار وقمع السلطة.

ويغلق المشهد بأسئلة محرّكة: كيف يمكن أن تُستخدم الدراجة كشخصية مركزية؟ كيف أن دوران العجلة يُعادل الشعر؟ كيف يصبح المشهد البصري متنفسًا فلسفيًا عن الفقد، عن الرجاء، عن المدينة التي تمشي إلى موتها، عن ذات لا تتساقط؟
وتتحرك الدراجة بلا كلمة، لكنها تتحدث عن الزمن، عن الحرية، عن الثورة، عن الذات التي لا تريد أن تتنازل.

الدارجة الهوائية: نص بصري بامتياز

تصبح الدارجة في فيلم “The Cure” (العلاج) (1995) للمخرج الأمريكي بيتر هورتون أداة للتعافي والمرح والمقاومة. ويتحرك طفل مصاب بالإيدز رفقة رفيق له بها، كمن يرفض الألم، كمن يحوّل الحركة إلى علاج، والضحك إلى دواء. وتُعرض الدراجة كاستعراض لطيف، لكنها تخفي رمزية عميقة عن مقاومة المرض، وكيف أن الجسد حين يتحرك يرفض الانكسار.

مصدر الصورة

وتصير الدارجة لحظة حب محتجزة في فيلم “Roman Holiday” (عطلة رومانية) (1953) للمخرج ويليام وايلر، حيث رحلة بين شوارع روما، حنين إلى الحرية في مملكة الواجبات حيث لا تتكلم الدراجة هنا، لكنها تنقل الحنين والحب، وتعيد تشكيل العلاقة بين القلب والمدينة، بين الرغبة والواجب.

وتحلّق الدارجة في مشاهد سوريالية في فيلم “E.T” (1982) للمخرج الكبير ستيفن سبيلبرغ، حين يركب إيليوت الدراجة ويحمل صديقًا فضائيًا، ويعلو بها في السماء تحت القمر. وتتحول الدراجة إلى أفق مقدّس، إلى حلم طيران بديل، إلى لحظة تتجاوز الجاذبية، وتعيد تعريف الممكن. ولا تبقى الدراجة على الأرض، بل تصير حلمًا، وتفتح أبوابًا للخيال الكوني.

وتندفع الدارجة في “Premium Rush” (الاندفاع الممتاز) (2012) للمخرج ديفيد كويب، حيث دراجة المراسلات في نيويورك تصبح بطلة أكشن، تتحرك بسرعة، تتحدى الزمن، وتعيد تعريف المدينة. ولا تبقى الدراجة وسيلة، بل تصير امتدادًا للعزيمة، للوظيفة، للانتماء الحرفي. وتتهشّم الحدود بين الحركة كأدرينالين والانتماء كهوية، وتصبح الدراجة جسدًا يرفض التوقف.

وتتسلل الدارجة إلى “Breaking Away” (التحرر) (1979) للمخرج بيتر ييتس، حيث تصير معبرًا للهوية، للصعود الاجتماعي، للخيال الذي يعبر الحدود. ويتحرك الشاب بها كمن يرفض أن يُحبس في طبقته، كمن يحلم بالذات التي يريد أن يكونها. ولا تتكلم الدراجة، لكنها تصرخ بالتحوّل، وتفتح أبوابًا للذات.

مصدر الصورة

وفي ذاكرة السينما تقرأ العلاقة بين الدراجة والسينما أنهما وُلدتا معًا، كرمزين للمجتمع الحديث، للحركة، للسرعة، للتحوّل. وتُظهر الدراسات أن الدراجة كانت جزءًا من أول فيلم عرض، وأنها منذ البداية كانت مرآة للمدينة، للحداثة، للزمن المتسارع. ولا تتكلم الدراجة، ولكنها تحكي قصة المجتمع، وتعيد تشكيل العلاقة بين الإنسان والمكان.

ويتبين أن الدراجة في السينما تؤدي أدوارًا متعددة: كأداة كوميدية، كعمل، كرياضة، كاستقلال طفولي، كرمز سياسي، كتحول اجتماعي. وتتحول الدراجة إلى طبقات من إنتاج المعنى، إلى رموز مفتوحة على الهوية، الطبقة، الجندر، الطفولة، وحتى التقدّم التكنولوجي. ولا تبقى الدراجة مجرد آلة، بل تصير نصًا بصريًا، وشخصية سردية.

وارتبطت هذه السينما بالحركة، وبالجسد، وبالروح التي تتلوى في الإطار. وتتحول الدراجة إلى شخصية صامتة، تخاطب العيون، وتعيد ترتيب معاني الحرية، المقاومة، الهوية. فهي لا تتكلم، لكنها تفكر، وتدور، وتعيد تشكيل الحكاية وهوية الفيلم على المستوى السردي.

الدراجة الهوائية: مرآة الذات واختزال الأزمات

أصبحت الدراجة الهوائية أكثر من مجرد وسيلة نقل في الفيلم، فقد تحولت إلى شريك سردي، إلى شخصيّة ثانية تحتضن البطل وترافقه في رحلة تتجاوز الفعل إلى إنتاج المعنى؟ ماذا يعني أن يُبنى فيلم بكامله حول دراجة، حول بحثٍ عنها، أو رغبة في اقتنائها؟ سينما الدراجات الهوائية لا تقدم دراجة كمجرد أداة، فهي مرآة للذات، حاملة لأعباء العالم، مختزلة لجملة أزمات تبدأ من لقمة العيش ولا تنتهي عند حدود الحلم.

مصدر الصورة

فقد ظهر أنطونيو في الفيلم الإيطالي الشهير “سارقو الدراجات” للمخرج فيتوريو دي سيكا، لا يتحدث إلا بوجهه، بارتباكه، بحركته المنكسرة، بعينَيه التائهتين وسط شوارع روما. ويعمل كمُلصِق إعلانات، وظيفة متواضعة ولكنها شريفة، مشروطة بوجود دراجته. ويخبرنا الفيلم أن الفقر لا يُنتج بطلاً خارقًا، وإنما إنسانًا هشًا يحتاج دراجة هوائية ليعيش. وفي اللحظة التي تُسرق فيها، يفقد أنطونيو ما هو أعمق من وسيلة نقل: يفقد احترامه لنفسه. وتتحول رحلته في البحث عنها إلى مرآة للأزمة الاقتصادية التي عانت منها إيطاليا ما بعد الحرب العالمية الثانية. وحين يسأل طفله الصغير “ماذا سنفعل إن لم نجدها؟”، لا يكون السؤال عن الدراجة فحسب، بل عن معنى الحياة في ظل فقدان أبسط أدوات البقاء وسط الخراب والفقر والبطالة.

ويمثل أنطونيو نموذجا لشخصية مشروخة تعكس أزمة اجتماعية واقتصادية حقيقية. ما يُميّزه أنه قابل للانكسار. وفي مشهد النهاية حين يُضطر لسرقة دراجة بنفسه، نراه في أكثر لحظاته بؤسًا محاطًا بالناس، منطفئ الكرامة، فيما ابنه الصغير ينظر إليه بعينين تتفكك فيهما صورة الأب. ويُجسّد هذا البطل هشاشة الإنسان أمام شروط اقتصادية قاسية، وتُعيد الدراجة تشكيل بنيته النفسية من الداخل، فتقوده من دور المُعيل إلى رجل مكسور. لا يخسر دراجته فقط، يخسر ذاته.

وفي سياق مغاير تمامًا، تظهر “واجدة”، الطفلة السعودية في الفيلم الذي يحمل اسمها. ولا تبحث واجدة عن دراجة لتكسب لقمة العيش، فهي تبحث عن تحقيق استقلالها في مجتمع يعتبر الدراجة شيئًا لا يليق بالبنات. حلمها بسيط، فهي تُواجه سلطة الأم والمدرسة والدين والعُرف، وتحاول أن تشق طريقًا نحو الحلم. وتصبح دراجتها استعارة لتحرّر أنثوي هادئ، يمرّ من خلال جهد يومي، واقتناص للفرص، وتعلّم لقواعد اللعبة. تقول واجدة: “سأفوز بالجائزة وسأشتري الدراجة. سأسبق عبد الله، وسأجعله يأكل الغبار”. تتحدث بمرح، لكن في كلماتها احتراق داخلي لطفلة تقاوم من دون ضجيج.

وتتجلى في هذين النموذجين الأبعاد الاجتماعية بوضوح. فالدراجة هي جزء من الطبقة، من القدرة على التقدم في الحياة، من الحق في التنقّل، من طموح لا يسمح المجتمع أو الاقتصاد بتحقّقه. ولا يحارب البطل في هذه السينما شبحًا خارقًا، فهو يحارب مجتمعا بفقره، وبقدره، ومن مجتمع يتكوّن من ضغوطات متراكمة وقيود مفروضة. وتحمل هذه الشخصيات نبضًا واقعيًا يجعلها أكثر إنسانية.

مصدر الصورة

وينتقل البُعد السياسي إلى الواجهة حين نستعرض شخصيات مثل الشاب “غوي” في فيلم “دراجة بكين”، الذي يعرض صورة حديثة لصراع طبقي بين أبناء المدينة والقادمين من الريف. يشتغل غوي عامل توصيل في بكين، ويحصل على دراجته من الشركة كوسيلة للعمل، لكنها تسرق منه، تمامًا كما سرقت المدينة أحلامه. ويقودنا الفيلم نحو اشتباك رمزي على الدراجة بينه وبين شاب من طبقة ميسورة، كل منهما يرى فيها شيئًا مختلفًا. أحدهما يرى فيها خبزه اليومي، والآخر يراها رمزًا للهيبة أمام أصدقائه. ويشتبكان في محاولة من يملك الحق في التقدّم، ومن يملك جسده وحريته في فضاء المدينة. وحين يقول غوي: “هي ملكي، اشتغلت لها ولن أتنازل عنها”، يكشف عن موقف سياسي غير معلن: احتجاج ناعم ضد سلطة اجتماعية تهمّشه.

ويقرر الطفل في الفيلم البلجيكي “The Kid With a Bike” (الفتى والدراجة) (2011) للإخوة داردين أن يُمسك بالدراجة كما لو كانت آخر ما تبقّى له من العالم. والده تخلّى عنه، والمجتمع لا يهتم، وهو يُدرك أن الدراجة تعني أكثر من مجرد حرية: هي شيء يشبه الأم، يشبه الأمان. كلما ركبها، عاد إليه شيء من الحياة. ويُخبر مربّيته ذات يوم: “أنا لا أستطيع أن أنام إذا ما لم أعرف أين دراجتي؟”، وتصير الدراجة هنا الحبل الوحيد الذي يربطه بماضيه، ووسيلته لرفض حاضر بلا جذور. هنا تُعالج السينما البُعد النفسي بعمق. ولا يفهم الطفل ما يحدث حوله، لكن الدراجة تمنحه إحساسًا بالاتّساق، بالقدرة على التحكّم، حتى لو كان العالم كله يتآمر على سلبه هذا الإحساس.

ولا تتوقف أبعاد البطل عند الاجتماعي والسياسي والنفسي. وتتجلى الرمزية بأعلى درجاتها في لحظات مثل مشهد التحليق الأسطوري في فيلم “E.T”، حيث يركب الصبي دراجته، ويصعد بها إلى السماء، ويحمل الكائن الفضائي معه، ويصنع أحد أكثر المشاهد أيقونية في تاريخ السينما. ولم تعد الدراجة تنتمي هنا إلى الأرض، بل صارت مرآة للخيال، للطفولة التي ترفض الجاذبية، ولصداقة لا تحتاج للكلام. ويتحرر الجسد من المادة، وتنفتح الشاشة على معنى رمزي يكاد يكون دينيًا في إيمانه بالنقاء، بالطفل، وبالحركة التي لا يوقفها سوى القلب.

ولا يأتي النقد في هذه السينما عبر الخطابة، يأتي من عمق البناء. فالبطل الهش، والدراجة المسروقة، والفتاة التي تُمنع من الشراء، والطفل الذي لا ينام خوفًا على دراجته، كل هذه عناصر تقدم خطابًا نقديًا ضد البنية الاجتماعية التي تعرقل الحلم، ضد السلطة التي تفرض تصوراتها على الجسد، ضد اقتصاد يُصنّف البشر بناءً على ما يملكون في وضع طبقي متمايز. ولا تهاجم السينما هنا علنًا، بل تهمس في أذن المتفرّج: انظر كيف يبدو البطل صغيرًا، ضعيفًا، لكنه لا يتوقف.

تحمل شخصيات سينما الدراجة الهوائية تناقضًا جوهريًا: جسد يتحرك باستمرار، وعالم يحاول منعه من التقدّم. وتجد البطلة أو البطل طريقه رغمًا عن الضيق، يتنفّس عبر العجلة، يركض في الشارع، ويخترق الحواجز، فقط ليقول للعالم: أنا هنا. وما يجعل هذه الشخصيات استثنائية بكينونتها، فهي تعيش الهشاشة واللاثبات ورغبتها المستميتة في أن تظل واقفة، راكبة، متّجهة نحو أفق ما دون أن تتوقف.

وحين نعود إلى اللحظة التي تنجح فيها الطفلة “واجدة” في شراء الدراجة، لا نرى مجرد فتاة تدور حول سور منزلها، نرى جملة سينمائية حاسمة تقول دون كلمات: الحلم لا يُشترى، لكنه يُنتزع.

وتبقى الكلمات التي قالها والد الطفل في فيلم “The Kid With a Bike” دون أن يسمعها ابنه: “أحيانًا، نركب لنبتعد. وأحيانًا، نركب لنقترب مما كنّا عليه”، وهذا هو البطل في سينما الدراجات الهوائية، لا يسير هاربًا من العالم، بل يتجه صوبه.

لقراءة المقال كاملا إضغط هنا للذهاب إلى الموقع الرسمي
هسبريس المصدر: هسبريس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا