آخر الأخبار

معتضد: رسالة ترامب إلى الملك هندسة رمزية لعلاقة استراتيجية طويلة الأمد

شارك

في عالم السياسة الدولية، لا تُكتب الرسائل عبثا، ولا ترسل التهاني بمعزل عن الحسابات الاستراتيجية. هكذا يمكن فهم رسالة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الملك محمد السادس بمناسبة عيد العرش، التي تجاوزت حدود المجاملة البروتوكولية لتحمل مضامين سياسية وأمنية دقيقة تعكس تحولات في الرؤية الأمريكية لقضية الصحراء المغربية ولمكانة المغرب إقليميا ودوليا.

هشام معتضد، الخبير الاستراتيجي المغربي المقيم في مقاطعة بريتيش كولومبيا الكندية، يسلّط الضوء على خلفيات وتداعيات هذه الرسالة، موضحا كيف أنها تشكّل جزءا من رؤية جيو-سياسية كبرى للولايات المتحدة في إفريقيا، وبداية لتحول نوعي في مواقف القوى الدولية من قضية الصحراء المغربية. تحلل هذه القراءة كيف يمكن للمغرب أن يحوّل هذا الموقف الأمريكي إلى ورقة استراتيجية طويلة المدى، تتجاوز لحظة الدعم إلى بناء تحالف متين ومؤسس.

يرى معتضد أن اختيار لحظة عيد العرش لتوجيه هذه الرسالة ليس تفصيلا بسيطا، بل يحمل دلالات قوية لفهم دقيق لبنية الدولة المغربية وعمق علاقتها برمزها السيادي. فهذه المناسبة، التي تتجاوز كونها طقسا احتفاليا، تجسّد التلاحم بين الشرعية التاريخية والشعبية. عندما يربط رئيس أقوى دولة في النظام العالمي استقرار المغرب السياسي بتجديد موقفه من قضية سيادية مصيرية، فإنه بذلك ينسج خيطا رمزيا بين وحدة التراب الوطني والشرعية الملكية.

ويشدد معتضد على أن التوقيت في لغة القوى العظمى ليس تفصيلا، بل عنصر جوهري في صياغة الرسائل السياسية. ترامب، من خلال هذه الرسالة، لا يخاطب فقط الدولة المغربية الرسمية، بل يخاطب المغرب العميق: مؤسسة وذاكرة وهوية. وهو بذلك يدرك أن الحديث عن السيادة لا يكتمل بدون استحضار الشرعية الملكية. لهذا، تتجاوز الرسالة مستوى الموقف الدبلوماسي لتلامس مستوى “الهندسة الرمزية” لعلاقة استراتيجية طويلة الأمد.

ويضيف الخبير الاستراتيجي أن الرسالة جاءت في لحظة إقليمية ملتهبة، حيث تتقاطع ملفات الساحل وليبيا والغاز والهجرة والتغلغل الروسي وصعود قوى غير تقليدية في المتوسط. وعليه، فإن مضمون الرسالة لا يمكن فصله عن سعي واشنطن إلى تحصين محورها الاستراتيجي في شمال إفريقيا، عبر شريك يتوفر على مصداقية تاريخية وشعبية. من هذا المنطلق، لا ينظر ترامب إلى المغرب كحليف فقط، بل كقاعدة سياسية رمزية في المنطقة.

أما على مستوى صياغة الرسالة، فإن معتضد يؤكد أن لغة الخطاب كانت بحد ذاتها رسالة سياسية. فعندما يصف الرئيس الأمريكي مقترح الحكم الذاتي المغربي بأنه “جدي وذو مصداقية وواقعي”، فإنه لا يكتفي بتوصيف المقترح، بل يعيد تشكيل هندسة الحل السياسي. هذه العبارات، التي تحيل إلى معايير الأمم المتحدة نفسها، تُستخدم هنا لإبراز أن المبادرة المغربية ليست خيارا من بين خيارات عدة، بل إنها المرجعية الوحيدة القابلة للحياة، ما يجعل الرسالة مؤشرا على مسار دولي جديد.

ويعتبر أن تأكيد السيادة المغربية دون استخدام لغة تحفظ أو توازن تقليدي، يُعد قطيعة واضحة مع سياسة “اللاقرار الدبلوماسي” التي طبعت مواقف واشنطن السابقة. هنا، تلتقي الرؤية السياسية مع القرار السيادي. في عقلية ترامب، الوضوح أقوى من الغموض، والاعتراف أكثر فاعلية من الوساطة.

كما أن هذا التحول يعكس، حسب معتضد، تطورا في كيفية نظر الولايات المتحدة إلى ملف الصحراء، ليس فقط كقضية نزاع إقليمي، بل كمجال استراتيجي متكامل. فالاعتراف بالسيادة المغربية لم يعد مجرد تعبير عن موقف سياسي، بل صار أداة من أدوات الاستقرار الإقليمي، ومحورا لإعادة تعريف القانون الدولي من منظور “الواقعية السياسية ذات المصداقية”.

في سياق أوسع، يرى معتضد أن هذه الرسالة لا يمكن فصلها عن التحولات في التموقع الجيو-سياسي الأمريكي في إفريقيا؛ إذ أدركت واشنطن أن الانسحاب الناعم يفتح الباب أمام الفوضى الاستراتيجية، لا سيما في مناطق مثل الساحل والقرن الإفريقي. وهنا يظهر المغرب كشريك استثنائي، يجمع بين الاستقرار المؤسسي، والامتداد الإفريقي، والانفتاح الأورو-متوسطي. صفات تؤهله ليكون حجر زاوية في أي تحالف استراتيجي قادم.

المغرب، كما يراه ترامب، هو نموذج للدولة الشريكة: موقف واضح من الإرهاب، من إيران، من الاستقرار الإقليمي، إضافة إلى كونه طرفا في اتفاقات أبراهام دون التفريط في موقفه من القضية الفلسطينية. من هنا، يصبح دعم سيادته ليس فقط مكافأة على مواقفه، بل استثمارا في تحالف استراتيجي مستدام.

ويشير معتضد إلى أن الصحراء المغربية لم تعد تُرى في أعين إدارة ترامب كملف نزاع، بل كمجال يجب تأمينه ضمن بنية أمنية تمتد من المتوسط إلى المحيط، وتربط بين الطاقة، والموانئ، وممرات التجارة، والتصدي للتغلغل غير الغربي في القارة الإفريقية.

هذا الموقف الأمريكي، بحسب معتضد، يشكل ضغطا واضحا على الأطراف الأخرى المعنية. الجزائر، على سبيل المثال، تجد نفسها أمام واقع جديد: لم تعد واشنطن تكتفي بلعب دور الوسيط، بل أصبحت فاعلا منحازا لقراءة المغرب للمشكل والحل. وهذا التحول يعيد رسم موازين القوى في الأمم المتحدة، وفي العواصم التي ما زالت تمسك العصا من الوسط.

أما جبهة البوليساريو، فهي تواجه اليوم ما يشبه الامتحان الوجودي. الرسالة الأمريكية تُسقط إحدى ركائز خطابها التاريخي، أي فكرة أن الحل ما زال معلقا، وتُحول القضية من ملف “تصفية استعمار” إلى مسألة “إعادة تأهيل سيادة مشروعة”. وهو ما يجعل مشروعها الانفصالي يفقد جاذبيته في السياق الجيو-سياسي الراهن.

حتى الأمم المتحدة نفسها لم تسلم من ضغط هذه الرسالة. فحين تُعبّر قوة عظمى في مجلس الأمن عن موقف نهائي وواضح، فإن حياد المنظمة الدولية يصبح موضع مساءلة. وهنا تُطرح أسئلة عميقة حول مدى قدرة هذه المنظمة على التأقلم مع المتغيرات، أو استمرارها في التمسك بلغة تجاوزها الزمن.

ويختتم هشام معتضد تحليله بالتأكيد على أن المغرب أمام فرصة نادرة في الجيوبوليتيك الدولي، لكنه في الوقت ذاته أمام تحدٍّ كبير. الاعتراف الأمريكي، المتجدد، هو بوابة لإعادة صياغة التحالفات، لكنه لا يضمن وحده تحولا استراتيجيا ما لم يُواكَب برؤية مغربية فاعلة. المطلوب، في نظره، هو الانتقال من توظيف الحدث إلى مأسسة التحالف، ومن رد الفعل إلى الفعل الاستراتيجي.

ولتحقيق ذلك، يجب على المغرب أن يوسع تحركه الدبلوماسي داخل أوروبا، ويحصّن موقعه في إفريقيا، ويبني سردية حقوقية وسياسية تُقنع العالم بأن الحكم الذاتي ليس تنازلا، بل مشروع إنساني وسياسي راقٍ. كما ينبغي تسريع وتيرة المشاريع الاقتصادية في الصحراء لتأكيد أن هذه المنطقة ليست مجرد شعار سياسي، بل ورشة بناء حقيقية.

في الختام، لا بد من التأكيد أن رسالة ترامب لها رمزية تتجاوز الشخص لتُلامس عمق التحولات الدولية بشأن قضية الصحراء. إنها ليست فقط إعلان موقف، بل لحظة بلورة رؤية جديدة للعلاقات المغربية الأمريكية، ولحظة إعادة تموضع للمغرب داخل الخريطة الجيو-سياسية العالمية. ورهان الرباط اليوم، كما يراه معتضد، هو ترجمة هذا الزخم إلى سياسة خارجية استباقية ومؤسساتية قادرة على تحويل الاعترافات الظرفية إلى تحالفات تاريخية راسخة.

هسبريس المصدر: هسبريس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا